وساطة البابا فرنسيس تصطدم بمعارضة فيديل كاسترو!
سليم نصار/الحياة/26 أيلول/15
مع أن بروتوكول «البيت الأبيض» لا يُلزم الرئيس الأميركي بضرورة استقبال الزوار الرسميين على المطار، إلا أن الرئيس باراك أوباما حرص على استقبال البابا فرنسيس على المطار. كما حرص من جهة أخرى على اصطحاب كامل أفراد أسرته كي يثبت للشعب الأميركي أن ما قاله عنه المرشح الجمهوري، دونالد ترامب، ليس صحيحاً. وكان ترامب قد أعلن في حديث تلفزيوني أنه يرفض انتخاب رئيس مسلم إلى «البيت الأبيض»، كما حدث في وضعأوباما، المتحدر من أصول إسلامية! وقد يكون هذا الدافع الخفي واحداً من أسباب عدة فرضت على الرئيس اوباما خرق القاعدة البروتوكولية المتبعة في ديبلوماسية الولايات المتحدة. في حين أن السبب الحقيقي يكمن في أهمية الدور المركزي الذي لعبه الفاتيكان من أجل تحقيق المصالحة التاريخية بين واشنطن وهافانا. وكانت الدولتان الجارتان قد استأنفتا علاقاتهما الديبلوماسية إثر قطيعة دامت أكثر من نصف قرن، كل هذا بفضل الوساطة التي قام بها سراً البابا فرنسيس. وقد أثمرت تلك الوساطة في تموز (يوليو) الماضي، عندما رُفِع العلم الكوبي فوق مقر دائرة المصالح الكوبية الذي يقع بين سفارتي بولندا وليتوانيا في واشنطن. وعلقت الصحف الأميركية على هذا الحدث بالقول إن الرئيس باراك أوباما يحاول تحقيق تقدم في تطبيع العلاقات قبل انتهاء ولايته الثانية والأخيرة في كانون الثاني (يناير) 2017.
ومع أن المسافة الزمنية تسمح له بإنجاز خطوات تجارية وسياسية مهمة لمصلحة البلدين، إلا أن المشاكل المعقدة التي تراكمت منذ سنة 1961 تحتاج الى جهد استثنائي من أجل حلها. ومثل هذا الجهد يتمثل بالتعويض عن الأضرار الاقتصادية والبشرية التي لحقت بالشعب الكوبي، نتيجة الحظر التجاري الأميركي وممتلكات الأميركيين التي أُمِّمَت في كوبا بعد ثورة سنة 1959. علماً أن هافانا تطالب واشنطن بتعويضات اقتصادية تزيد عن ثلاثمئة بليون دولار. إضافة إلى التعويضات والأضرار الاقتصادية، تطالب الحكومة الكوبية بوقف حملات البث الإذاعي والتلفزيوني الموجهة الى الشيوعيين، كما تطالب أيضاً بإنهاء احتلال خليج غوانتانامو، حيث تقيم واشنطن قاعدة عسكرية تضم معسكر اعتقال لمتهمين بالإرهاب بعد هجمات 11 ايلول (سبتمبر) 2001. يُجمِع المراقبون على القول إن وجود راؤول كاسترو على رأس الدولة قد سهّل عملية التفاوض، وفتح مجالات الحوار لبحث القضايا الصعبة والمسائل المستعصية كحقوق الإنسان ومكافحة تهريب البشر إلى ميامي، وحق الاعتراض والتظاهر والانتخابات الحرة. ويرى المؤرخون أن تاريخ كوبا منذ ثورة 1959 يُختصَر بتاريخ فيديل كاسترو. وقد أقنع أنصاره بأن الانتصار على الدكتاتور باتيستا هو انتصار على الولايات المتحدة. علماً أن الاستخبارات الأميركية كانت تراهن على كاسترو، بدليل أنها كانت توفر له ولأتباعه السلاح، مستخدمة المظلات التي تُرمى من الطائرات فوق قمة جبل «توركينو» حيث معقل الثوار.
والثابت أن كاسترو كان متعطشاً للحكم، ومستعجلاً لإجراء إصلاحات مستمدة من الإصلاحات التي عمّمتها الثورة المكسيكية، أي ثورة المجتمع الزراعي المطالب بالعدالة الاجتماعية ولو على حساب الديموقراطية. وبقي هذا النهج متبعاً طوال خمس سنوات، إلى حين الزيارة التي قام بها لهافانا نائب رئيس الوزراء السوفياتي أناستاز ميكويان (آذار – مارس – 1960). ونتج من تلك الزيارة المفاجئة توقيع إتفاق تجاري تتعهد موسكو بموجبه بشراء محاصيل السكر مقابل تأمين النفط.
ولم تقتصر هذه المقايضة على السوفيات فقط، بدليل أن شركة «بي بي إنرجي»، التي يملكها بهاء بساتني في لبنان واليونان، قامت بتأمين حاجات كوبا من النفط إثر انهيار الاتحاد السوفياتي. لذلك أرسلت الشركة ممثلها رياض بساتني إلى هافانا، حيث افتتح مكتباً كان يتولى إدارة عمليات الشحن الى الجزيرة المحاصرة من قبل الأميركيين. ومع أن راؤول كاسترو هو الذي استقبل البابا فرنسيس، واتفق معه على إقامة قدّاس لعشرات الآلاف من الكوبيين في «ميدان الثورة»، إلا أن اللقاء الختامي خُصِّص للزعيم التاريخي كاسترو. وقد أعطى البابا أهمية خاصة لكل ما قاله الزعيم المسنّ، وللحوار القديم الذي أجراه مع البابا السابق يوحنا بولس الثاني. وكان كاسترو قد لبّى دعوة البابا إلى زيارة الفاتيكان أواخر سنة 1996. ودام اجتماعهما أقل من ساعة، حاول خلالها البابا البولندي إقناع الزائر الكبير بأهمية إجراء مراجعة شاملة للنظام الشيوعي الذي فرضه على الشعب. والمراجعة التي طلبها البابا في حينه كانت تتعلق بالإجراءات القاسية التي اتخذها كاسترو ضد الكنيسة وأساقفتها، بحيث أنه أمر بإقفال الكنائس وإبعاد الدين عن صفوف حزبه الملحد. ولكنه في الوقت ذاته حرص على إبقاء العلاقة الديبلوماسية مع الفاتيكان. ومن كّوة هذه العلاقة المحدودة أطّل البابا يوحنا بولس الثاني على كاسترو في هافانا، ليتحدث معه عن ضرورة توفير الحرية للشعب… حرية الاعتراض، وحرية الانتخاب، وحرية المعتقد، وحرية السفر.ويعترف كاسترو بعد ذلك اللقاء بأنه سمح للشبان بهامش وسيع من النشاط الاجتماعي، الأمر الذي أفرز فرقاً موسيقية محلية، وأنتج جيلاً من الرسامين المحترفين.
ويبدو أن محاولة الاغتيال التي تعرض لها البابا في أيار (مايو) 1981 قد كشفت لكاسترو عن جانب بالغ الأهمية في حياة الحبر الأعظم. فقد أخبره أن قيادة الحزب الشيوعي الملحد في موسكو قرّرت التخلص منه بعدما ثبت لها أن الكنيسة داخل منظومة دول اوروبا الشرقية قد أيقظتها تحدياته من سبات عميق. وكان دائماً ينهي خطابه بعبارة: «لا تخافوا…». وحيال هذا الوضع المقلق، أرسلت الاستخبارات السوفياتية عنصراً مدرباً من تركيا يدعى محمد علي أقجا، أطلق النار عليه في بلدة فاطمة في البرتغال. واستقرت الرصاصات في الأمعاء، الأمر الذي جعله يخسر كمية كبيرة من الدماء. لذلك أخضعه الأطباء لعملية جراحية دامت خمس ساعات. بعد مرور مدة طويلة، قام البابا يوحنا بولس الثاني بزيارة مفاجئة للسجن، حيث اختلى بالقاتل، ثم خرج من الزنزانة ليعلن العفو عنه. المهم أن البابا فرنسيس يتمنى إحياء دور سلفه البولندي الذي نجح في تقويض دعائم الشيوعية بمساندة عدد من القوى الخارجية والداخلية. وهو في عظة القداس الذي أقيم في «ميدان الثورة» في هافانا، دعا الحكومة الكوبية الى منح المزيد من الحريات للكنيسة الكاثوليكية التي عادت للظهور في الجزيرة كقوة جديدة بعدما عانت من القمع والتهميش مدة نصف قرن. وفي الولايات المتحدة، لم يخفِ البابا فرنسيس دعوته إلى ضرورة تجديد روح الكنيسة بطريقة تحمي البيئة، وتوقف الهجرات الجماعية، وتشجع الفقراء على نيل حقوقهم المشروعة في السكن اللائق والعمل المنتج. ولكن هذه الزيارة طرحت أسئلة أكثر مما أعطت أجوبة عليها.فقد سألت عن احتمالات تغيير النظام في كوبا، وما إذا كان الرئيس راؤول يجرؤ على تنفيذ الإصلاحات المطلوبة في ظل شقيقه فيديل وأنصاره في الحزب الحاكم. خصوصاً أن هناك أكثر من ثلاثة ملايين يشعرون بأن التعديل المطلوب في نظام الحكم سيكون على حساب إخراجهم من مواقع المسؤولية الحزبية. ويقول الرئيس الأميركي أوباما إن إدارته مستعدة للعمل مع الحكومة الكوبية على نطاق واسع من القضايا الملحة، بدءاً من مسألة حقوق الإنسان وحرية التعبير والإصلاح الديموقراطي، إضافة إلى المخدرات والهجرة والشؤون الاقتصادية. وقال أيضاً بعد اجتماعه بالرئيس راؤول، إن ادارته تريد المشاركة في تطوير المجتمع الكوبي، في حال توافرت الثقة المطلوبة بين الجهتين. ويترجم الكاتب المكسيكي أنريكيه كروز المدّة التي تستغرقها مرحلة بناء الثقة، بأنها مرحلة طويلة تحتاج إلى تفكيك النظام الذي أسسه المؤسس. وهي مرحلة استثنائية أنشئت قبل انهيار الاتحاد السوفياتي، واستمرت من بعده. أي ان استمرارها في عهد ميخائيل غورباتشوف كان بفضل المساعدات التي قدمتها فينزويلا وليس بفضل أي شيء آخر.
مع العلم أن الاتحاد السوفياتي قدم مساعدات، اقتصادية وعسكرية، الى كوبا بلغت قيمتها 65 بليون دولار، ما بين سنة 1960 و1990. عندما تقررت زيارة البابا فرنسيس لهافانا، احتار الرئيس راؤول في انتقاء المشاهد التي يعتقد أن الضيف الكبير يرتاح اليها. ولما قرّر تعليق صورة كبيرة للسيد المسيح قبالة «ساحة الثورة» احتج أنصار كاسترو، وأقدموا على تعليق صورتين كبيرتين للزعيمين الثوريين أرنستو تشي غيفارا وكاميليو سينغو يغوس. وحيال هذا التحدي الساخر، اضطر الرئيس راؤول إلى الاحتفال بذكرى مرور 62 سنة على الثورة المظفرة التي قادها شقيقه فيديل. ثم طلب من محطة التلفزيون إعادة خطابه مرات عدة، بحيث يطمئن شقيقه فيديل بأن وريثه لم يسرق الثورة ولم يصادر مكتسباتها بعد!