المعرفة بين أسلمة العلم والخطاب الحر المفتوح
منى فياض/الحياة/10 شباط/16
توفي في 18 يناير الماضي، المؤرخ وفيلسوف العلم، المصري عبدالحميد صبرة غير المعروف كثيرا في عالمنا العربي لأنه قضى معظم حياته بين إنكلترا حيث درس ودرّس، وأميركا حيث درّس في هارفرد تاريخ وفلسفة العلوم خصوصا عند العرب. قضى صبرة الكثير من حياته في إعادة النظر في مفهوم الثورة العلمية مؤكدا أن دراسة تاريخ العلم لا تتم بمعزل عن السياقات الثقافية والسياسية والاجتماعية التي إما تساهم في تقدم العلم والتفكير العلمي، أو تؤدي إلى تدهور العلم وسيادة الخرافة واللامعقول. وضع صبرة العديد من المؤلفات والترجمات باللغتين العربية والإنكليزية، فضلا عن تحقيقاته الرائدة في التراث العلمي العربي، بحيث تشكل هذه المؤلفات أساسا رصينا لأجيال جديدة من مؤرخي العلم تساعدهم على فهم التراث العلمي العربي فهما صحيحا بعيدا عن النزعة التراثية التي تتغنى بالماضي أو تلك التي تنفي أي إبداع قدمه العقل العربي. ومن بين من تتلمذوا على يديه الباحث المعروف توبي أهف، مؤلف كتاب فجر العلم الحديث المترجم إلى العربية عن عالم المعرفة. حصل عبدالحميد صبرة على العديد من الجوائز والأوسمة لعل أبرزها وسام جورج سارتون الذي ناله من جمعية تاريخ العلوم عام 2005، وهو المصري والعربي الوحيد الذي نال هذا الوسام في تاريخ هذه الجمعية منذ عام 1955. بنظري من أهم ما قدمه لنا صبرة هو إضاءته لسبب تخلف العرب المسلمين علميا. نسمع كثيرا عن أسلمة العلوم التي باعتقاد مطلقيها أننا بهذا، وبهذا فقط، يمكننا أن نتقدم وأن نحافظ على مجتمعاتنا من التأثيرات الغربية السلبية.
وعندما يدور الحديث عن البحث العلمي وتأمين ما يلزم لتطويره كي يقوم بدوره لا يعني ذلك أننا كباحثين ننشد حرية شخصية أو مطالب خاصة. العكس صحيح، لأنه مسألة تقع في صلب الهموم المجتمعية التي يرغب الجميع في العمل على تطويرها. هذا وحده ما سوف يساهم في تخطي العالم العربي حالة التدهور المريعة التي يعاني منها. الأمر الذي يسهم في تطوير مجتمعاته من أجل ازدهارها في ظل حكومات ديمقراطية تحترم حقوق الأفراد وتعمل على توفير مجتمع نمو ورفاهية. وسبق لتقرير التنمية الإنسانية أن أشار إلى أن أهم معوقات تقدم العرب التأخر المعرفي وتقييد حرية التعبير ووضع المرأة.
فهل حقا أن تطبيع العلم أو أسلمته هو الطريق إلى التقدم المعرفي؟ وماذا يعني هذا؟ وهل هذا مطلب جديد؟ هنا علينا أن نذكّر أولا بملاحظات المفكر الإسلامي عبدالكريم سروش المبدئية في أن مسألة إسلامية المعرفة تؤدي إلى الخلط بين العلم وبين الدين والمعرفة الدينية. فأن نكون علميين يعني أن نتقبل نتائج الأبحاث العلمية لأنها لا تحمل صفة معينة، فكما أن ليس هناك ماء ديني أو غير ديني، كذلك ليس هناك علم إسلامي وعلم غير إسلامي أو بحث إسلامي وآخر غير إسلامي. وكما أن للحكومات وظائفها وأدوارها، فللعلم أيضا وظائفه وأدواره. فالدين كنصوص يختلف عن فهم الدين، والمطلوب أن نحمّل الدين عبئاً خفيفا ما يطلق عليه سروش الدين الأقلوي. لكن أسلمة العلم ليست مسألة مستجدة أو طارئة لمواجهة التحديات الحالية؛ بل هي في صلب الفهم الإسلامي لعلاقته بالعلم.
عند محاولة فلاسفة ومؤرخي العلم الغربيين تفسير النجاح الفريد للعلم الحديث في الغرب من زاوية البحث في قصور الحضارات الأخرى، يشيرون إلى أن الأمر لا يرجع إلى نقص في التقنية العلمية وإنما إلى قصور في المجال الثقافي ككل؛ فقد أقامت تلك الثقافات قيودا على المشاركة المعرفية وعلى الخطاب العام. وباختصار فإنه وبدافع الانفتاح وحب الاستطلاع ولدوافع دينية، بلغ العالم العربي الإسلامي من القرن الثامن إلى القرن الرابع عشر أعلى مستوى من التقدم العلمي، أما بعد ذلك وربما من القرن الثاني عشر فقد بدأ في التدهور، ولم يحدث هذا باطراد في كل الميادين. ولكن التقدم العلمي لم يصل إلى الثورة العلمية.
قامت الثورة العلمية في أوروبا على أساس التطورات في علم الفلك، وكان بعض علماء العرب قد توصلوا إلى نماذج فلكية قريبة من تلك التي لدى كوبرنيكوس أو متماثلة تماما مع اختلافات ضئيلة في بعض مقاييسها، لكن لم يستطع ابن شاطر ولا من خلفه، أن يقوموا بالوثبة الكبيرة نحو نظام مركزية الشمس مما يمكن أن نطلق عليه الباب الميتافيزيقي للثورة العلمية الأوروبية في القرنين السادس عشر والسابع عشر. وبدلا من ذلك فقد جمد العالم العربي وبدأ في التدهور. لماذا لم يتابع العرب السير إلى “الميل الأخير” حتى الثورة العلمية الحديثة؟ والتي لم تكن تتطلب أكثر من نماذج رياضية؟
لأن الانتقال الميتافيزيقي كان بلا شك سيحدث انشقاقا فكريا مع النظرة الإسلامية التقليدية إلى الكون كما كان يفهمه العلماء. التحول الكوبرنيكي عُدّ نقلة فكرية أحدثت قدرا كبيرا من الصدام مع الدوائر الدينية والفكرية في الغرب. الأمر الذي تم تفاديه في العالم العربي الإسلامي. فتوقف العرب عند حافة واحدة من أكبر الثورات الفكرية في التاريخ، ثم انحدروا بعد أن أخفقوا في الوثبة الكبرى. ومن الملاحظ أن الأقطار الإسلامية تعلقت إلى اليوم بالتقاويم القائمة على الدورات القمرية. أما عن العوامل التي تسببت في إخفاق العلم العربي أن ينجب العلم الحديث فإنها تبدأ بالنسبة إلى البعض من العوامل العرقية (التي تأكد خلطها علميا)، إلى سيطرة السنّية الدينية، إلى الطغيان السياسي، أو عوامل متصلة بالبواعث النفسية والعوامل الاقتصادية، فضلا عن إخفاق فلاسفة الطبيعة العرب في أن يطوروا ويستخدموا المنهج التجريبي. مهما يكن إن جوهر ما حصل في العالم الإسلامي كان “تطبيعا” أو أسلمة للعلم؛ فأخضعت الحقيقة العلمية لكي تتماشى مع مقتضيات الثقافة الإسلامية المنسجمة مع الدين. إن “تطبيع” العلم في هذا السياق إنما يشير إلى توطين العلوم القديمة أو كما كانت تسمى، علوم الأوائل، ومن ثم إلحاقها بالمنظومة الفلسفية والثقافية المحلية، لا على أساس دمجها الكامل وإنما لتتخذ الطابع النوعي من الاستقلال والشرعية عن المحاذير الدينية للثقافة المحيطة. لكن في العالم العربي الإسلامي كانت المعركة الحقيقية أن ينال العلم استقلاله بعد أن يصبح إسلامياً أي خاضعا بالكامل للسلطة والثقافة الدينيتين. وهنا يجد صبرة أن تطبيع العلوم الأجنبية، أو بالأحرى اليونانية، في الإسلام هو ما أدى (للمفارقة) إلى تدهورها. هذا “التطبيع” أو “أسلمة العلم”، أدّى إلى تمثُّل العلوم اليونانية وفق مقتضيات الثقافة الإسلامية بما في ذلك الدين. إنه نسق من التقليد الفلسفي الإسلامي، حيث يفترض أن تكون الحقيقة العلمية في نسق متسق ومنسجم ومتناغم مع الدين. هذا ربما ما يوضح كيف يمكن للقيم الثقافية الكامنة في مجتمع أو حضارة أن تشجع أو تؤخر البحث العلمي. ربما التكريم الحقيقي الذي يمكن أن نقدمه لعبدالحميد صبرة هو في أن نعيد النظر في السبل التي أدت، وتؤدي دوما، إلى تقدم العلم حتى نخرج من سباتنا الثقافي والعلمي. فاللغز الذي لم يحله العرب بعد هو أن الطريق إلى العلم الحديث والمعرفة والتقدم والنمو، يظل الخطاب الحر المفتوح من دون قيد أو شرط.
لماذا يتحدّى «الحرس» السعودية؟
زهير قصيباتي/الحياة/10 شباط/16
من نافذة ميونيخ إلى «باب السلامة» على الحدود السورية- التركية، كم بقي من الوقت لدى الكرملين ليعلن، أن الظروف باتت مهيأة لفرض التفاوض بالقوة على المعارضين للنظام؟ ماذا تبدّل بعد تجميد محادثات جنيف التمهيدية، بسبب إصرار النظام على تحجيم وفد الهيئة العليا للتفاوض؟ لا رواية الكرملين تبدّلت حول دقة طائراته الحربية في اصطياد «الإرهابيين»، ولا مطالبته بأدلة على استهداف مدنيين، ولا موجات القصف العشوائي التي نشرت ذُعراً دفع موجات جديدة من النازحين إلى الحدود السورية- التركية. صحيح أن معنويات النظام السوري يرمّمها قيصر الكرملين بالقوة، فيما يحطِّم معنويات الفصائل المقاتلة، لكن الأكيد أن موسكو وجيشها ولو احتلا سورية بالكامل، يساندهما حلفاء النظام، لن يتمكّنا من فرض تسوية سياسية بالتوابيت والنعوش. وما بات بديهياً هو أن احداً من قادة المعارضة أو فصائلها، بعد سقوط أكثر من 260 ألف قتيل وتدمير عشرات المدن ومئات البلدات، لن يجرؤ على توقيع صك استسلام لنظام اتهمته الأمم المتحدة بارتكاب جرائم إبادة، ويظن أنه يستعيد شرعية بات بعض الغرب لا يمانع في التعامل معها. الذي تبدّل بعد محطة جنيف المتعثّرة، هو تقرير محقّقي الأمم المتحدة عن دولة السجون وإخفاء البشر قسراً، وتغييبهم من الحياة، وتأكيدهم أن ممارسات النظام تفوق ما يرتكبه «داعش» و «جبهة النصرة». ومطالبة اللجنة الدولية المعنية بالتحقيق، باللجوء إلى الفصل السابع من ميثاق المنظمة، لوقف جرائم «الإبادة»، هي عملياً رسالة إلى الكرملين بأنه يخوض حرباً دفاعاً عن هذه الإبادة. وبافتراض صمت الروس أمام نتائج التحقيق، واستكمالهم خطة الغارات المكثّفة، لمحاصرة الفصائل المقاتلة في حلب، فالحال أن النظام لم يعد يقوى على حرب استنزاف طويلة، بعد 5 سنوات من الصراع. يعقّد ذلك مهمة موسكو التي لن تجد في كل الأحوال تجاوباً من المعارضة، غير تلك التي تسبح في فلك النظام، يتيح لها القول إنها ستقطف ثمار تدخُّلها العسكري، بتسوية سياسية تنقذ النظام، وتمدّد عمره.
صحيح أن روسيا ما زالت تسجّل نقاطاً بأثمان دموية مرتفعة، وتشدّد الضغوط على تركيا والحملة النفسية على رئيسها رجب طيب أردوغان الذي اتهمته بالسخافة، لتحذيره من خطة «دويلة علوية»، لكن الصحيح أيضاً، أن موسكو باتت عملياً في موقع العاجز عن الحسم العسكري، إلا إذا اختارت بدء مواجهات برية… هذه هي اللحظة التي باتت فصائل معارضة تراهن عليها، مستعيدة تجربة دحر السوفيات في المستنقع الأفغاني. ما تبدّل أو طرأ بعد تعثُّر جنيف، قد يكون محاولة وزير الخارجية السعودي عادل الجبير، اختبار جدية الولايات المتحدة في الحرب على «داعش» لاستئصاله في سورية، عبر طرح المساهمة بقوات برية ضمن جهود التحالف الدولي، وبقيادة أميركية… أليس هدف الروس أيضاً كما يردّدون ليل نهار، هو ضرب الإرهاب؟ وحتى في بريطانيا وفرنسا، يسود تشكيك بقدرة الضربات الجوية على حسم المعركة مع «داعش»، بالتالي كلما طالت الحملة الروسية زاد الضحايا السوريون، وزاد الخراب ومدن الموت والحصار والجوع، ووحده «داعش» يكسب، وما بقي من النظام. والسؤال ليس عن سبب تحدي «الحرس الثوري» الإيراني السعودية أن تُرسل قوات خاصة برية الى سورية لمواجهة «داعش»، ما دام «الحرس» يعتبر الحرب هناك «شأناً داخلياً إيرانياً» على الأراضي السورية (!) بل إن السؤال لا بد أن يتمحور حول ظاهرة ميل الإيرانيين علناً وبجرأة، إلى بثٍّ لمشاهد شبه يومية عن تشييعٍ لضباط كبار من قادة «الحرس» سقطوا خلال معارك الدفاع عن نظام الأسد… هكذا ترسِّخ طهران دورها في «التسوية»، فيما لا تزال واشنطن تتكتّم على «أفكار» روسية لوقف النار في سورية يُفترض أن تُطرح في ميونيخ، خلال اجتماع مجموعة الدعم الدولية لسورية غداً. ولكن ألم يُنقل عن وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف قوله في جنيف إن لا بدّ للمعارضين للأسد من التفاوض تحت القصف؟ لا شيء تبدَّل عملياً منذ تعثُّر جنيف، وصعود معنويات النظام في دمشق، منتفخة بالضربات الروسية الشمشونية. لا شيء تبدَّل سوى مزيد من الوعود الأميركية، موجات القتل قريبة من «باب السلامة» وقوات الأسد تقترب من حصار حلب بغطاء جوي روسي. مليون سوري تحت الحصار، بانتظار عملية سلام يُرجَّح ألاّ تأتي، لأن النظام وعرّابه بوتين يراهنان بكل بساطة على الحسم العسكري، وعلى بقاء إدارة أوباما رهينة للتردُّد والعجز. كل ما وعدت به الديبلوماسية الأميركية، هو جهود لوقف النار في سورية… كل ما توحي به السياسة الروسية هو رهان أكيد على سحق كل من يرفع السلاح ضد النظام، ولو كان عدوّاً لـ «داعش». فكيف يقبل العرّاب بالتنازل عن دوره للتحالف الدولي ضد التنظيم؟ سحق «داعش» لا يخدم استراتيجية الكرملين.