وقف التمجيد
الـيـاس الزغـبـي/لبنان الآن/23 نيسان/16
لم تتعقّد أزمات لبنان وتستعصِ على الحلّ، إلاّ عندما كان أحد أطراف الأزمة يستشعر فائض قوّة، وينتفخ بصلافته وغروره، فيحاول السيطرة والحسم عبر قلب الموازين السياسيّة والطائفيّة، وينتهي الأمر إلى تعثّره وانكماشه، والعودة إلى نوع من توازن الرعب. هذا ما جرى في حرب السنتين مع محاولة القوى المشتركة الفلسطينيّة – اللبنانيّة نسف المعادلة اللبنانيّة، ثمّ في الاجتياحات السوريّة والإسرائيليّة لتغيير الوضع الجيوسياسي للبنان، فانتهت كلّها بانسحاب أو انهزام القوى الثلاث تباعاً، بدءاً من المنظّمات الفلسطينيّة وصولاً إلى الجيشين الإسرائيلي والسوري. ولا تغيب عن الذاكرة اللبنانيّة حالات الترويج والتمجيد لهذه القوى الثلاث، بل الترحيب بها ونثر الزهور عليها وهي تدخل، والتطبيل لها على التنك وهي تخرج. ويبدو أنّ التجربة الثالثة بخروج الجيش السوري لم تكن ثابتة، ولم يتعلّم بعض اللبنانيّين الكثير من صدمات التجارب الثلاث وخيباتها، فيكرّرون المشهد نفسه، من خلال تمجيد قوّة رابعة تعمل لوراثة سابقاتها، تحت مسمّى “حلف المقاومة والممانعة” بقيادة إيران، عبر واجهتها المباشرة “حزب الله”. من يتابع أداء بعض القوى السياسيّة وإعلامها وتصريحات قادتها، تعاوده تلك الخطابات المهلِّلة للمقاومة الفلسطينيّة المظفّرة، والجيش العربي السوري المنتصر، والجيش الإسرائيلي “المنقذ”.
ولا يصحّ المنطق القائل بأنّ “حزب الله” قوّة لبنانيّة وليس أجنبيّة، لأنّه كسواه واجهة أو رأس جسر لقوّة خارجيّة. فكلّ القوى الخارجيّة السابقة ارتدت قناعاً لبنانيّاً لبسط سيطرتها واحتلالها. يمتدحون سلاح “حزب الله” كوسيلة مقدّسة للنصر، ويجعلونه حالة استراتيجيّة لا تُحرق ولا تُغرق، مسبغين عليه هالة قدسيّة غير قابلة للنقاش، في مواجهة كلّ قوى الشرّ دفعة واحدة، من الشيطان الأكبر إلى الأصغر، ومن إسرائيل إلى التكفير، ومن الخليج إلى البحر والمحيط. حتّى بلغ الأمر ببعضهم حدّ تصوير “حزب الله” وكأنّه القائد الفعلي لإيران، وعملاق الحسم السحري في سوريّا والعراق واليمن، ولاحقاً في كلّ ديار الارهاب والاستكبار. وإذا تواضع أحدهم يذهب إلى القول إنّ “الحزب” شريك استراتيجي في القرار الإيراني وربّما الروسي، فهيّا إلى تسوية معه تريحه في “استراتيجيّيته”. بينما يسبّح آخرون بحمده ليل نهار عملاً بفرائض “التفاهم”، وتقديساً لـ”شهدائه” الذين يسقطون في سوريّا دفاعاً عن لبنان والشرق المسيحي و”الأُمّة المارونيّة”!
ولكنّ هذا التمجيد يأتي في مرحلة تعاكس هذا “العملاق الاستراتيجي”، خلافاً لكلّ الحسابات المتفائلة. فلا وضع إيران يسمح بتحقيق أحلامها الإقليميّة، ولا العرب مقيمون على حالة انكفائهم السابق، ولا أفكار الحلول لسوريّا والعراق واليمن تحمل بشائر الانتصار لـ”جبهة الممانعة”، ولا الحصار العالمي المالي والسياسي والإعلامي لـ”حزب الله” يجعله في أفضل أحواله. وبعكس القائلين إنّ “الضاحية” تحكم لبنان، يجب النظر إلى ارتباكاتها المتفاقمة، سواء في إعلامها وتبييض أموالها، أو في الأثمان الباهظة التي تدفعها في حروب الآخرين، أو في تحرّجاتها البلديّة في غير بلدة ومنطقة، أو في ملفّات الفساد التي تشملها، أو في دورانها حول الملفّ الرئاسي خوفاً من حسمه. صحيح أنّ “حزب الله” يتحكّم بالاستحقاق الرئاسي، ولكنّه تحكّم المربك والمعطِّل وليس القوي والفاعل. وحين يُقال له إنّه يسيطر على لبنان يُسرع إلى رفع التهمة بزهده في الحكم، عبر وزيرين فقط لا غير، مع التمنين الدائم بأنّه لم يستثمر انتصاره “الإلهي” في حرب تمّوز ليحتلّ كلّ لبنان! جميع وزراء فريقه هم وزراؤه، وكلّ مياه حلفائه تصبّ في طاحونته، وغيمة الرشيد، بل المرشد، تُمطر في خراجه. ورغم كلّ ذلك، هو يسلك طريق من سبقه، بوعي منه أو بدون وعي. ومصيره سيكون حتماً كمصير قوى الغطرسة التي سبقته. وحركة التاريخ لا تُخطئ. وتمجيده لنفسه لا يغيّر في الوقائع والحقائق شيئاً. وكذلك تمجيد حلفائه له. ولو أعملوا قليلاً عقولهم وحسن تقديرهم للأمور لَكفّوا عن هذا الردح اليومي في عملقته وتقديسه. لأنّ هذه العملقة الإعلاميّة لا تجعله مارداً فعليّاً، بل تحوّله إلى حالة بالونيّة، يدفع هو ثمنها قبل سواه، وهم بعده. وأيّ حل في لبنان يمرّ حكماً عبر وقف النفخ في الأحجام. الأجسام الضخمة لا تستطيع دخول الحلول من أبوابها. ولا بدّ من تصغيرها واقعيّاً ودعائيّاً كي تُصبح أهلاً للتوافق. هكذا قامت التسويات التاريخيّة الناجحة في لبنان منذ قيام دولته إلى اتفاق الطائف، وحتّى تسوية الدوحه. فلا يمكن بلوغ تسوية عادلة بين “أقزام وجبابرة”.
بيروت مدينتي
عمـاد مـوسـى/لبنان الآن/23 نيسان/16
جيّد أن يدخل إلى حلبة المنافسة البلدية في كل لبنان، لا في بيروت وحدها، مجموعات شبابية ووجوهٌ فنّية ناجحة وكفاءات جامعية من الجنسين (المعتَرف بهما)، ومؤسِّسو حملات تطوعية وناشطو حراك مدني، ممّن أبلوا البلاء الحسن في فترات البث المباشر إبّان أزمة النفايات، وممن عملوا في الظلّ، إلى ورثة أسماء “بيروتية” معروفة. الإنتخابات البلدية والإختيارية المرتقبة فرصة “ديمقراطية” نادرة لكسر الملل المتمادي والدوران في حلقة مقفلة ومفرغة من المعنى. تلقى حملة لائحة “بيروت مدينتي” الدعائية الواسعة – بغض النظر عن سؤال أساسي حول التمويل- صدى طيباً في أوساط متنوعة، خصوصاً في صفوف الجامعيين واليسار بطبعتيه القديمة الممانعة والمتحرّرة من هالة الرفيق لينين، وفي منتديات “المثقفين” والناظرين إلى الحزبيين كميكروبات أو كمخلوقات دون المستوى المديني. وفي إطلالاتها النادرة ـ حتى الآن ـ تستعمل الحملة ما تُطرب له جماهير الثورة، كهجاء “الطبقة السياسية الفاسدة” والنقّ على “عجقة السير” وامتلاك “خطة لمعالجة النفايات” وطرح تصورات جديدة لـ”التخطيط المُدُني”. وهي، في ما قدّمته من طروحات، بما يخصّ المساحات الخضراء وتوصيف الواقع الصحّي (المريض) والتخفيف من الزحمة، لا تضيف كثيراً عمّا قدمه النائب (غير الثوري) ميشال فرعون، لا بل تبدو أقرب إلى عناوين جميلة لا يمكن ترجمتها إلاّ في بيئة سياسية منتظمة وصحيّة. فالعمل البلدي، قبل تطبيق اللامركزية، يظلّ قاصراً عن تحويل الوعود أفعالاً وإنجازات واعدة، وهو متّصل بشكل أو بآخر بالنشاط التشريعي وعمل الحكومة. في أي حال سرّني أنّ بلدية بيروت ثرية ونائمة على مئات الملايين من الدولارات، ما يفتح شهيّة كثيرين على الإستثمار والخدمة العامة.
جيّد أن يتّسع صدر ناشطي “بيروت مدينتي” لكل أبناء بيروت، فنُشمل بعطفهم ومحبّتهم ورعايتهم لشؤوننا. جيد أن يكون هدفهم الفوز، وليس فقط الظهور الإعلامي وتسجيل المواقف ومحاكاة عواطف الجماهير الغاضبة على الطبقة السياسية الفاسدة (والأحزاب ضمناً).جيد أن بيروت بتنوعها الطائفي، لا تسمح لمركّبي اللوائح والأمخاخ الترويجية إستعمال شعارات كمثل “الكلّ ضدّنا والعدرا معنا”، وهذا الشعار كسرواني قح. جيد لو قدّمت لائحة “بيروت مدينتي”، إلى ما طرحته، تصوراً لحل الإزدواجية القائمة بين دوائر المحافظة والمحافظ من جهة، وبين المجلس البلدي. وكان ليكون الأمر جيداً جداً لو شكّل ناشطو حملة “بيروت مدينتي” لوائح مخاتير من الجامعيين وذوي الكفاءة العلمية. وكان ليكون الأمر رائعاً لو انطلقت الحملة تحت عنوان “بيروت مدينتنا”، فنحن أبناء الأشرفية والبسطة الفوقا والتحتا والطريق الجديدة والمزرعة والحمرا والمدوّر وأبناء الماضي والحاضر والغد و”المجد المخلّد” وأخوة الشهداء والأبطال نرى أن بيروت بسكانها مدينة لبنان كله. جيّد لو نتواضع بالحب والإندفاع والتغيير والإصلاح.