في كلمته (ما بينعسوا الحراس) استطاع جعجع أن ينحاز إلى الشارع اللبناني البريء لأنه الأقل أخطاء في هذه الطبقة السياسية، فهو غير مشارك في الحكومة الحالية.
كأغلب متابعي الشأن اللبناني عن بعد، أخذت موقفا سلبيا من الشيخ بشير الجميل، مؤسس القوات اللبنانية وقائدها ثم رئيس الجمهورية، الذي استشهد قبل تسلم مقاليد العهد رسميا. وحيثيات ذلك لم تكن هيّنة، فاسم الرجل مرتبط بمجازر قاسية جدا زمن الحرب، منها ما كان ضد المسلمين والفلسطينيين، ومنها ما كان أيضا ضد المسيحيين. وفوق ذلك، فالرجل مسؤول عن تأسيس أو تفعيل العلاقة المسيحية-الإسرائيلية وانتخب رئيسا تحت حراب الصهاينة ومباركتهم.
وبعد مرور هذه السنوات، ونظرا لمستجدات الوضع القائم في لبنان منذ عام 2005، كان من الواجب إعادة قراءة بشير بصورة مختلفة، فللرجل سلبياته التي لا تغتفر وله مزايا لا تنسى. لا يمكن باختزال، تصنيف بشير الجميل، كشخص وكرمز مسيحي وسياسي، عدوا لفلسطين وللعروبة، إذ يضعه الوصف هنا في خانة المعتدي، وهو توصيف يفتقر الدقة، فالعودة إلى التاريخ، من باب تحري الإنصاف، يلزم أن تكون كاملة، إذ من الواضح أن منظمة التحرير أرادت باسم القضية ابتلاع لبنان كما حاولت سلفا في الأردن، وكما تصدى الملك حسين لتلك المحاولة أردنيا، كان المسيحيون وعلى رأسهم بشير ووالده بيار مع قادة الجبهة اللبنانية نسخته لبنانيا.
لبنان اليوم بحاجة إلى شخصية مسيحية تجمع بين بشير الجميل وفؤاد شهاب كمعان وحسنات
إن خيار الالتجاء إلى إسرائيل كان ضروريا في ظل ظروف الحرب، إذ نحن هنا أمام معيارين: معيار الوطنية بكل صرامته، ومعياره بكل ميوعته، وإذا اخترنا الصرامة، سنجد أن الالتجاء إلى الأجنبي محرّم، ولا فرق هنا بين كون الأجنبي سوريا أو فلسطينيا أو إيرانيا أو إسرائيليا، فتكون الإدانة مستحقة لمن استقوى بالفلسطيني كما المستقوي بالإسرائيلي، مع العلم أن اللجوء إلى إسرائيل كان خيار الكيّ لحفظ الوجود بعد أن فشلت محاولة الاستعانة بالسوري لنفس أسباب مقاتلة الفلسطيني. وإذا اخترنا ميوعة المعيار الوطني، ونظرنا بالعين الطائفية، فلا شك بأن بشير، يعد بطلا وحّد قرار طائفته وصفوفها وأنقذها مع الوطن من ذوبان نهائي. وفي كل الأحوال سنلحظ أن الموقف السلبي ضد بشير انتقائي فاقع خصوصا مع توقيع مصر والأردن ومنظمة التحرير اتفاقيات سلام مع إسرائيل.
وما ينطبق على البعد الإسرائيلي ينسحب إلى جرائم الحرب، مع مزية تفضيلية لبشير الذي كان في موقف الدفاع عن النفس، وإذ ننظر هنا لبشير طائفيا ووطنيا، نتذكر مجزرة الدامور التي ارتكبتها منظمة التحرير ضد لبنانيين- هذا غير استهداف الدولة اللبنانية إلغاء واستضعافا- كما ارتكب لبنانيون ضد فلسطينيين مجازر تل الزعتر وصبرا وشاتيلا ثم حرب المخيمات التي افتعلها برّي، سيظل حتما بشير الجميل أمير حرب مثله مثل جنبلاط وبرّي وغيرهم.
ما يشفع لبشير في إعادة قراءته، وما يختلف به عن غيره من أمراء الحرب باستثناء متقطع لكمال جنبلاط، هو إيمانه الحقيقي بمشروع الدولة وأنه صاحب قرار مهما كان مستحيلا، وهذا تجلى غير مرة، فالرجل استثمر الدخول الإسرائيلي إلى لبنان لتمرير الانتظام السياسي والمؤسساتي خلف مصلحته الشخصية بانتخابه رئيسا، وليس كما نرى اليوم من عصابة السلاح الإيراني المستقوية بالجمهورية الإسلامية لتعطيل الدولة وهدمها، كما أن مباحثات بشير مع رفاق سلاحه وحزبه ونظرائه السياسيين قبيل انتخابه رئيسا وبعدها، تثبت تغيرا جوهريا مسّ عقل أمير الحرب لصالح رجل الدولة، ساعد على ذلك زيارته للولايات المتحدة وللسعودية. ولا يغيب عن الذاكرة انتباه بشير لقصة إسرائيلية بطلها مناحيم بيغن المنتمي لعصابة أراجون، فرغم دور العصابة في تأسيس إسرائيل إلا أنه بعد قيام الدولة أصدر بن غوريون قراره بمصادرة أسلحتها ومنعها من النشاط العسكري، وهو ما سبب جفوة ثقيلة بين الرجلين انتهت باستسلام بيغن وانخراطه الطبيعي في العمل السياسي. وإعجاب بشير بهذه القصة يدلل على رؤيته السليمة لمشروع الدولة وللقوات اللبنانية (عسكريا) أيضا.
بدا بشير في بداياته مفتونا بنظرية تحالف الأقليات تماما، وإذ تبدو تلك الرسالة التي وجهها لمسؤول الأمن إيلي حبيقة (أمير الحرب الحقيقي والخالص) لافتة جدا “راقب رجل الأعمال رفيق الحريري، فنشاطه مريب”، ولا تقلّ هذه القصة بروزا عن دعمه لآل أرسلان في وجه جنبلاط، إننا أمام رجل قوي قدرته على تحمل أقوياء أمامه أقل بكثير من تحمله لأقوياء بجواره كسمير جعجع وحبيقة وحتى كميل شمعون وبيار الجميل. وعلى ما يبدو فإن هذه الصورة بدأت تتكسر مع انتخابه رئيسا بمد يده إلى صائب سلام وكامل الأسعد ورفضه إعلان السلام مع إسرائيل -من دون موافقة المسلمين اللبنانيين- في اجتماع نهاريا المعروف.
يمكننا أن نتهم بشير الجميل بكل شيء إلا الفساد أو ضعف الشخصية أو إهمال المسؤولية. ولا يمكننا أن نصف صاحب شعار “10452 كيلومترا مربعا” بغير اللبنانية، إذ كان هدفه الأوحد كشخص وكعقيدة تمثل القوات إلى الأبد، حماية لبنان وقيامته وإعلاء دولته. ولا تحضرني أيّ عملية نفذتها القوات داخل لبنان أو خارجه لغير المصلحة اللبنانية. هذا إن وجدنا لها أصلا نشاطا عسكريا خارج لبنان، فهي المقاومة اللبنانية لا المقاومة المسيحية في لبنان على غرار (حزب الله) “المقاومة الإسلامية في لبنان” الذي يتضح أن لبنان بالنسبة إليه مجرد حيز جغرافي، فهو وكيل الثورة الإسلامية الإيرانية، ومن خلال تعريف الحزب الإلهي لنفسه يتضح اعتبار ذاته وكيلا لأصل (إيران) في ملحق أو فرع (لبنان)، ومن خلال التسمية وحدها نفهم الخصومة الوجودية بين فريقين، قوات لبنانية وحزب إيراني، ألم يسع (حزب الله) تسمية نفسه: المقاومة الإسلامية اللبنانية؟
المهم أن يكون الإعجاب المسيحي ببشير بريئا في مجمله، فتقدم صورة بشير على صورة باني الدولة اللبنانية فؤاد شهاب، مفهوم بحكم القرب الزمني، وللمسحة الطائفية التي تتخلل ملامح بشير شاء محبوه أو كرهوا. ولأن ما تبعه من تشرذم مسيحي عزّز قيمة الجميل كقائد تاريخي قدم مصلحة جماعته ووطنه على مصلحته الخاصة وتفاعل مع اللحظة التاريخية بصورة مثالية، وهذا يحسب أيضا لفريق العمل المحيط به وعلى رأسهم زاهي بستاني. كانت صورة فؤاد شهاب مغايرة تماما، إذ يمثل الدولة الصافية بكل تعاليها وحيادها وتنوعها وربما برودها. لبنان اليوم بحاجة إلى شخصية مسيحية تجمع بين بشير الجميل وفؤاد شهاب كمعان وحسنات.
استذكار بشير بدا واجبا بعد كلمة المرشح الرئاسي ورئيس حزب القوات اللبنانية د. سمير جعجع في قداس شهداء المقاومة اللبنانية (ما بينعسوا الحراس)، فمسيرة جعجع القيادية بدأت من نتائج بشير لا من مقدماته، أي أن انطلاقة جعجع تمخضت من نضج بشير لأنه عاصر ما قبلها، “فلا يمكن أن نتجاهل القيم والمبادئ التي قامت عليها حركتنا في الماضي، حتى لا نضيّع بوصلتنا في الحاضر والمستقبل. ولن نقبل أن نكون أسرى الماضي حتى لا نفقد قدرتنا على مواكبة الحاضر ومجابهة تحديات المستقبل”.
حين وقف سمير جعجع ملقيا أهم كلمة سياسية في مسيرته نضجا وعمقا وأصالة، لا يمكن إلا أن تلحظ خلفه ظل بشير الجميل. منذ اليوم الأول لسمير جعجع في قيادة القوات اللبنانية بدا أنه يتحرر قائدا وحزبا من هنات المؤسس متعلقا برمزيته وقيمته، كما أن بصمته الخاصة في القيادة لم تجعله ملحقا لأصل، بل أصل تراكم على أصل وقائد جاور قائدا وجوهر تبلور من جوهر. وليس الأساس بشير الجميل كشخص، إنما الخيار اللبناني الصرف والمستقل بوجهه المسيحي المشرق والحتمي، بل يمكننا القول إن معنى لبنان “مسيحي” ولو كان مسلما، واللبناني هو قواتي وإن لم يكن من القوات.
وكلمة شهداء المقاومة في حقيقتها امتداد لكلمات مهمة ألقاها جعجع تسير باتجاه الدولة الحديثة والقطيعة مع نقائضها الحاضرة والتاريخية. الأولى اعتذاره عن تجاوزات الحرب الأهلية، ليكون السياسي اللبناني الوحيد الذي اعتذر لجمهوره ولغيره عن ظروف يدان فيها الجميع. ومن يطلب مغفرة الآخر على تجاوزات الذات يعني، أساسا، أن الذات قد غفرت للآخر تجاوزاته، ليكرس بذلك كلمته بعد تحرره من السجن التعسفي الناجم عن الوصاية البعثية على لبنان “للحرب منطق وأسلوب لم يعد صالحا ولا قائما اليوم. أيها اللبنانيون، حين تحررتم من السجن الكبير حررتموني من الزنزانة الصغيرة”.
مسيرة جعجع القيادية بدأت من نتائج بشير لا من مقدماته، أي أن انطلاقة جعجع تمخضت من نضج بشير
والكلمة الثانية التي سبقت بأشهر الحراك المطلبي الدائر في لبنان هذه الأيام، كانت خلال حفل توزيع بطاقات الانتساب للقوات اللبنانية “يجب العمل على محاربة الفساد والتخلف والزبائنية في السياسية والمجتمع وداخل الدولة، أن يبقى المواطن اللبناني أسير العتمة والعطش والرشوة والفساد فهذا ما لم يعد جائزا إطلاقا في القرن الحادي والعشرين”. وأكمل “لم نستشهد في زمن المقاومة كي نشهد زورا في زمن المؤامرة ونحن قوم إن قاتلنا نقاتل بشرف وإن حاورنا نحاور بشرف”. وأضاف “هلمّوا نُشرّع نوافذنا لأنوار الديمقراطية والحياة الحزبية الصحيحة، هناك مفهوم شعبي ملتبس عن الأحزاب، فالحزب بمفهومه العام، وبعكس ما يعتقد كثيرون، ليس تذويبا للفرد في إطار الجماعة الحزبية، ولا مصادرة للقرار الفردي لمصلحة القرار الحزبي، وإنما هو قمة الاختيار الحر والقرار المستقل، وقفزة هائلة نحو المستقبل إذ لا مستقبل لأيّ مجتمع ديمقراطي من دون أحزاب، الفرد الحزبي هو من امتلك جرأة التخلّي عن عصبيّته العائلية أو العشائرية أو المناطقية ليتبنّى مفاهيم جديدة داخل حزبه أوسع من العائلة والعشيرة والمنطقة، وهذا ما فعله بالضبط كل فردٍ منا في القوات”.
والكلمة الثالثة هي إعلان برنامجه الرئاسي عام 2014 الذي قارب مفهوم “الجمهورية القوية” من زاوية أوسع، تتجاوز المشكلة الظاهرة والجوهرية “قيام دولة قوية في لبنان لا يمكن أن يتحقق إلا بجمع السلاح غير الشرعي على الأراضي اللبنانية وحصره بالقوى الشرعية كمقدمة لإعادة كل القرار العسكري والأمني”، عبر اقتحام نظرية الدولة من منظور النجاعة وزاوية الولاء الوطني وكأنّ من كتب البرنامج هو فؤاد شهاب.
في هذا السياق جاءت كلمة “ما بينعسوا الحراس” امتدادا لتطور فكري وسياسي، بدأ بقطع جعجع للعلاقات المسيحية-الإسرائيلية والتصالح مع القضية الفلسطينية والعروبة ثم تأييد اتفاق الطائف وتسليم السلاح فورا إلى الدولة اللبنانية زمن الحرب، مواجهة الوصاية السورية كامتداد لمواجهة المطامع الفلسطينية ودفع الثمن باعتقال تعسفي وتشويه إعلامي واستهداف سياسي تجاوز السنوات العشر، لحاق المكونات اللبنانية المختلفة بفكر القوات في ثورة 14 آذار على إثر استشهاد الرئيس رفيق الحريري ما أدى إلى تحرر لبنان من الوصاية البعثية، مواجهة ميليشيا (حزب الله) والمطامع الإيرانية بمنطق الدولة والعروبة والهوية اللبنانية كمدخل للتمدد الوطني خصوصا بعد هرب الرئيس سعد الحريري وتقلبات وليد جنبلاط وتردد آل الجميل وخيانات ميشال عون ونزقه وشخصنته، وبعد أن تحرر جعجع من صورة أمير الحرب وزعيم الطائفة كان ترشحه للرئاسة منطقيا ومقبولا، بل وواجبا.
في كلمته (ما بينعسوا الحراس) استطاع جعجع أن ينحاز إلى الشارع اللبناني البريء لأنه الأقل أخطاء في هذه الطبقة السياسية، فهو غير مشارك في الحكومة الحالية، ومشاركة حزبه خلال عقود خلت كانت بمثابة استثناء لا قاعدة، بل إنه وحزبه دفعوا ثمنا غاليا نتيجة فساد الطبقة السياسية وتبعيتها.
وليس هناك محسوب على القوات يشتبه تورطه في قضايا الفساد القائمة. وليس هناك مؤسسة مرتبطة بالقوات يمكن الإشارة إلى احتكارها أو تطلعها لكعكات الفساد المتداولة، كما أنه رفض الاصطفاف مع الطبقة السياسية الراهنة في طاولة الحوار لعدم جدواها، كما رفض المشاركة في حكومة تمام سلام التي شكلت بمنطق اقتسام الغنائم، فالمشاركة فيها مسايرة للفساد عبر السكوت عن الفاسدين.
وجعجع يرفض الجلوس في حكومة واحدة مع قتلة صديقه الوطني محمد شطح (حزب الله). وأهمية هذه المواقف، وعلى رأسها الانحياز للشق الصالح والصادق في الحراك المطلبي، تكمن في النأي بقيم ثورة 14 آذار عن زواريب السياسة إلى علياء الوطنية، وتأكيد أمومة القوات اللبنانية لقيم 14 آذار، تأكيد للتماهي بين القوات وبين الشارع اللبناني بعيدا عن اصطفافات السلطة، وتأكيد قيمة 14 آذار في جمهورها الذي تعرض للخذلان من ساسة اقتسام الغنائم، وتلك رمزيات لا يمكن تجاهلها، خصوصا مع إعلان أمين عام حزب الله عن حياده إزاء الحراك والطلب من جمهوره عدم الانخراط فيه.
في الكلمة الأخيرة لجعجع لم يكن رئيس حزب أو زعيم طائفة، لقد بدت شكلا ومضمونا كلمة رئيس الدولة القوية، وكأنها خطاب القسم الذي يتلو انتخاب رئيس الجمهورية، فزعيم أحرار المسيحيين والمسلمين، اللبناني الحر والصرف والمستقل والنزيه، المتشابه مع شارع غاضب من المحاصصة والفساد، أحرج حلفاءه قبل الخصوم، وكأنه يتطلع إلى موقع مواز لفؤاد شهاب لو أخذ فرصته وهو من وازى بشير الجميل بلا فرصة كاملة.
ومع هذه المكاسب النظرية يفتقد الدكتور جعجع إلى مبادرة سياسية تترجم على صعيد الحلفاء في الداخل والخارج، فلندع الخوف جانبا ولنسر خلف جعجع لبنانيين وعربا إلى قصر بعبدا.