المؤرخ والناقد التاريخي الدكتور وجيه كوثراني لـ«المستقبل»: ولاية الفقيه تخريب لمواطنية الشيعة العرب
«انتخاب رئيس للجمهورية يعني إعادة التوافق اللبناني بالمعنى الميثاقي»
المستقبل/02 أيار/16/حاوره: يقظان التقي
يتحدث المؤرخ والناقد التاريخي الدكتور وجيه كوثراني عن مستويات من القلق في مشرق متفجر، وعن هواجس مواطنيه الذين يدفعون أثماناً باهظة مع كلفة دموية أرستها أنظمة القمع والاستبداد والظلم والأحادية. د. كوثراني، من المؤرخين، أصحاب الرؤية الأكاديمية المتخصصة وذات الطابع الاستراتيجي والسياسي في المقاربة التاريخية الحديثة التي تستعين بالعلوم الاجتماعية والانسانية على اختلافها. وهو يعتبر أن الخلط القائم في المنطقة بين الماضي والحاضر وبين الأزمنة كان قائماً، والنتيجة كانت تخريباً وتدميراً ذاتياً وعدم فهم لمسارات الشعوب المتقدمة، ومن النوع الذي مرت به المسيحية في انتقالها من القرون الوسطى إلى الحداثة ابان حروبها الدينية المدمرة.
ينتقد كوثراني، الذاكرة «التمجيدية» في تاريخ العرب، وانتقد أولئك المستعجلين لبناء مسار الدولة المدنية، والتي تحتاج إلى انجازات وتدابير وإجراءات سياسية واقتصادية واجتماعية، معتبراً أن حروب المنطقة المذهبية والدينية تبدو كمسار انتقالي لا بد منه وستتعلم منه شعوب المنطقة عاجلاً أم آجلاً، مؤكداً أن «ولاية الفقيه كما الخلافة الإسلامية عند داعش هي إدارة تخريب لمواطنية الشيعة العرب وغير العرب خارج إيران وأداة افتراق للمجتمعات الإسلامية ولا علاقة لها بالسياسات الدولية».
وعن هواجسه بالوضع اللبناني يقول: «لبنان يمكن ان يعود إلى تسوية ميثاقية إذا ما أعيد ترتيب الوضع في سوريا، وان انتخاب رئيس للجمهورية هو إعادة لهذا التوافق اللبناني بالمعنى الميثاقي»، موجهاً نقداً إلى الذين يتحدثون عن «سايكس بيكو» كفزاعة بكائية، معتبراً «ان الدول العربية أصبحت دولاً فعلية ذات مفاهيم وطنية، ولا يجب أن نضحي بها، والتضحية بها تعني مزيداً من التفتت والحروب الأهلية المجانية».
ـ «يصعب التعبير عن هذا القلق الذي يمر به الانسان العربي والمواطن العربي والباحث العربي وهناك مستويات ثلاثة تعبر عن هذا القلق: فهناك خوف الانسان العربي في هذا المشرق المتفجر ويبدو أننا ندفع ثمناً وضريبة دموية مما أرسته بعض الأنظمة العربية من قمع دموي واستبداد وظلم، كما ندفع ثمناً لتجهيل حصل في مناهجنا التربوية وفي ثقافتنا المعاصرة، مناهج ظلت حبيسة الأحادية للجانب العنيف في ثقافتنا وتراثنا.
أقصد بذلك ثقافتنا المعاصرة الجديدة، التي من المفترض ان تقوم على مناهج العلوم الانسانية والاجتماعية ومن ضمنها التاريخ والتي تخلص الوعي العربي المعاصر من أسر الماضي.
مناهجنا التي نشأ عليها طلابنا والبرامج التربوية التي درسوا عليها تجعل الماضي حاضراً، وهذا خطأ في الأزمنة وخطأ كان قاتلاً جداً، ذلك لأن العربي يعيش الماضي في حين ان الانسان عندما يصبح مواطناً يملك وعياً تاريخياً يبني ثقافة جديدة وبرامج جديدة، يملك موقفاً تجاه الماضي ويصبح الماضي حالة تقرأ ولا تعاش.
من الصعب ان تجد المواطنين الأوروبيين يختلفون على نابليون بونابرت أو لويس الرابع عشر، وإن اختلفوا وقد يختلفون. ولكن لا يتقاتلون كما يتقاتل المسلمون على ولاية الفقيه أو الخلافة.
أمر آخر يشكل كلفة استراتيجية هو ان المدرسة العربية والجامعة العربية لم تعلما مسار الشعوب المتقدمة. وإذا قرأنا مسار الشعوب التي نهضت ومنها اليابان والبلدان الأوروبية وحتى في اميركا اللاتينية نلاحظ انها قضت على الأمية.
الأمر المستغرب أن نسبة الأمية في المجتمعات العربية تصل إلى حدود النصف، ناهيك عن الأمية المقنعة حتى لدى حملة الشهادات وكثير من هؤلاء لا يحملون ثقافة نقدية، وللأسف جزء كبير من حملة الشهادات هم جزء من مجتمعاتهم العائلية والطائفية. هذه تعبيرات من القلق تراودني كمواطن وكباحث، ماذا تتوقع ان تنتج هذه الأمية من مشاكل وتحديات معاصرة وحالات انغلاق وعزلة وبطالة…
قالها ابن خلدون «إن العرب مخربون»…؟
ـ يجيب كوثراني :«كلا، قالها في سياق معين ودعني أوضح أمراً جرى تداوله في مؤتمرنا التاريخي الثالث الأخير في بيروت، القبلية والعائلية والانتماء إلى قطريات ليس خطيراً، وما كان الأمر يشكل مشكلة والمؤرخ البرت الريحاني رد على هذا المذهب، ابن خلدون وعائلته أو عشيرته عاشوا في الجزيرة العربية وعاش بعضهم في الأندلس وفي مصر وما شعروا باستلاب، بالتأكيد لم يكن هناك دول أمم، كان هناك الفضاء الثقافي العربي الذي يقدر العربي من خلاله ان ينتقل من مكان إلى آخر«.
الخلاف حول ابن خلدون جائز ومشروع جدي لكن المهم كيف نقرأ ابن خلدون في نطاق النهج، وعبر عن هذا الأمر باحثان جديان الدكتور عبدالعزيز لبيب (تونس) والدكتور عبدالله ابراهيم (السودان) والطريف ان عبدالعزيز لبيب هو فيلسوف وعبدالله ابراهيم انثروبولوجي ومع ذلك مفارقتهما نقدية عميقة، النقد لابن خلدون جاء على وصفه للغزوة العربية، غزوة بني هلال للسودان وشمال افريقيا وأن هذا الوصف كان مبالغاً فيه وقد عاد المؤرخان إلى وثائق أخرى تصحح نظرة ابن خلدون التي استخدمها المستشرقون بمنهجيه وهي ان «العرب مخربون».
ولكن ابن خلدون قالها في سياق معين وفي حالة جزئية فيها تصورات اكثر مما فيها توصيف للواقع وهنا تدخل الذاكرة التي وصفت العرب بالتخريب، ذاكرة وضعت نفس الأحداث بأشكال أخرى. وهذا ما دفع المؤتمر إلى احتضان محور اساسي من بين سلسلة محاور بعنوان «الذاكرة والتاريخ».
[ إذاً نحن نعيش مفارقة أننا نعيش في الماضي وبما ليس له علاقة بالعصر وسواء ما شهده من حركات متشددة مثل «داعش« وغيرها أو ولاية الفقيه أو أنظمة إيديولوجية ليس لها علاقة بالديموقراطية والحداثة؟
ـ «إذاً نحن من نخرب العرب، نحن نخرب أنفسنا، وهذا تدمير ذاتي نمارسه عبر نقاشاتنا الإيديولوجية المجردة والمطلقة التي تفصل بين ما يجري من صراع وبين مطالب اجتماعية عكستها الثورات العربية».
[ لكن العالم يتناسى التجارب والصراعات في الغرب والحروب الدينية وصراع العلمانية بأشكالها مع فكرة الدين والدولة؟
ـ «نعم هذا المسار الذي نمر فيه، مرت فيه المسيحية في مرحلة انتقالها من القرون الوسطى إلى الحداثة. هي مرحلة عنيفة ومؤلمة، ولكن كان من الممكن أن نتعلم منها نحن المسلمين والعرب.
كان يمكن ان نتعلم من التجربة المسيحية الأوروبية التي دفعت أثماناً باهظة جداً في تجربتها تلك وانتقالها من القرون الوسطى إلى الحداثة.
الحروب الدينية كانت مدمرة وتشبه حروبنا، الحروب بين الكاثوليك والبروتستانت والفرق البروتستانتية الأخرى أحرقت مدناً وقرى وأدت إلى موجات من التكفير المتبادل بين الفرق المسيحية.
للأسف لم ندرس جيداً تلك المدرسة، لم يكتب فيها كتاب إلا عبر بعض الترجمات والتأليف.
اشتغلنا بشكل تكراري على محتوى تاريخنا، لم نمارس نقداً للتاريخ. علم التاريخ هو علم نقدي بامتياز. للاسف تاريخنا هو ذاكرة تمجيدية وهذه مصيبة!
ليس هذا فقط، ما قرأنا تاريخ الآخر حتى نستفيد منه. الدراسات لتاريخ الآخر قليلة جداً، وتكاد تكون نادرة ومفقودة وأنا أكاد أجزم بأن مكتبتنا العربية خالية من التأريخ لحقبة الحروب الدينية في أوروبا وتكاد تخلو الترجمات منها، علماً ان المؤلفين الأوروبيين الكلاسيكيين نشروا دراسات مهمة ومنهم فلاسفة ومفكرون ومؤرخون.
هناك الآلاف من الكتب حول الحروب الدينية في أوروبا ويجب ان تترجم لأن المعرفة عبرة. مجلدات عزمي بشارة عن الدين والعلمانية فيها فصول مهمة عن استعادة صفحة الحروب الدينية وفيها مادة مهمة. فمسار العلمنة التي يدعو اليها المثقفون العرب ما كان عقيدة جاهزة جاء بها الفيلسوف لوك أو الفيلسوف روسو. هذا كان مساراً معقداً ومكلفاً وليس بالضرورة ان نعتبر علمنة أواخر القرن التاسع عشر علمنة. لكن المثقف العربي العلماني مستعجل«.
[ فكرة الدولة صعبة إلى هذه الدرجة؟
ـ «لأن هناك إنجازات وتدابير وإجراءات لتسير الدولة نحو العلمنة أو الدولة المدنية. هذا تراكم لانجازات سياسية واقتصادية وعلمية واجتماعية.
فرنسا أعلنت قوانين العلمنة، كنظام نهائي العام 1905، اي بعد مئة سنة وأكثر من الثورة الفرنسية. وفي العام 1905 عندما أعلنت القوانين العلمانية كان خلفها تراكم من الانجازات والتدابير والانتفاضات بعد الثورة الفرنسية نفسها.
أنا لا أبرر حروبنا المذهبية أو الدينية، ولكن تبدو كمسار ستتعلم منه الشعوب العربية عاجلاً أم آجلاً، كما تعلمت الشعوب الغربية من تجاربها. ذلك ان الشعوب على ما يبدو لا تتعلم من تاريخ الآخر وإنما تتعلم من تاريخها.
[ تقصد ليست فكرة الدولة المدنية مسألة مستعصية في المنطقة؟
ـ كانت مستعصية في أوروبا وبناؤها جاء مكلفاً جداً ومرت باضطرابات ومحاولات نهوض وسقوط. مفهوم الدولة ومسألة السيادة الوطنية بدأا بمعاهدة وستفاليا. ما قبل وستفاليا كان امبراطوريات وسلطات وعائلات. ونحن كان عندنا السلطنة العثمانية وتشبه الامبراطوريات المجرية والنمساوية. وكان الحكم حكم سلالات ومصاهرة وزواج.. يبدو نحن نمر بهذه المرحلة. وأنا حاولت ان اقارن في كتاباتي بين معاهدة لوزان وأوجه الشبه مع معاهدة وستفاليا. معاهدة لوزان فرضها أتاتورك كما تعرف«.
[ دخلنا في مرحلة «بكائية» على دولة «سايكس بيكو»؟
ـ «هذا نقدي للمثقف العربي، أن نتكلم عن اتفاقية سايكس ـ بيكو كفزاعة أو كحالة بكائية وهذا لا ينفع. دولنا ليست سايكس ـ بيكو، هي مناطق نفوذ ومؤتمر الصلح في فرساي اعاد تقسيم مناطق النفوذ آخذاً بعين الاعتبار آراء حركات مطلبية محلية، وبناءً بالتأكيد على مصالح الغرب الاستراتيجية. ولكن المعطيات الداخلية في ترسيم حدود الدولة القطرية ترجمت نفسها عبر مطالب قطرية واقليمية ومصالح أجنبية معاً، هذا التقاطع ولد دول الأمر الواقع، الدول القطرية وأصبحت الدول الوطنية التي أخرجت نخباً وطبقات تستفيد من الكيانات الوطنية«.
[ وأين المشكلة؟
ـ «المشكلة في المقارنة مع ما حصل في تركيا على يدي اتاتورك الذي استطاع ان يرفض ويسقط معاهدة «سيفر» التقسيمية لتركيا وهي أخطر من معاهدة «سايكس بيكو» واستطاع اتاتورك فرض معاهدة لوزان التي أعلنت خضوع الحدود للسيادة الوطنية، في حين نحن فشلنا.
المشكلة الثانية هي أن أتاتورك نجح برسم سياسة وطنية للجمهورية التركية، في حين لم نعرف نحن العرب ان نرسم سياسة وطنية وفشلنا في اسقاط سايكس ـ بيكو وارتضينا دولاً وطنية طرحت علينا في مؤتمر الصلح في «سان ريمو» في باريس«.
[ وهل يجب ان يضحى بتلك الدول الآن؟
ـ «مطلقاً، هذه الدول لا يجب أن يضحى بها، لأنها اصبحت فعلاً دولاً ذات مفاهيم وطنية والتضحية بها تعني مزيداً من التفتت والتفلك والحروب الأهلية المجانية».
[ ومتى نصل إلى الدولة المدنية؟
ـ «قبل الانفجار الذي حصل في الثورات العربية، كنا على طريق بناء دولة مدنية سواء على مستوى خطاب النخب وعلى المستوى الفكري كنا على طريق بناء تلك الدولة. وكان الربيع العربي واعداً وطور هذا الفكر ونقله إلى حيز التطبيق ولكن تدخلت عوامل معقدة جداً، استطاعت ان تستثمر نقاط الضعف في مجتمعاتنا والتدخل الأجنبي واحد منها وما كان يحصل لولا القابليات الموجودة في مجتمعاتنا.
هذه القابليات خطيرة جداً من مثل التعويل على الاستعانة بالأجنبي، كما اننا نستعمل في تنفيذ برامجنا الحزبية على عقل سياسي فئوي كما عند العديد من الأحزاب العربية وفي الثقافة الحزبية العربية وفكرة «أنا على حق هي السائدة في الفكر الحزبي«، مما يؤدي إلى فشل المشروع الحزبي القائم على حقيقة مطلقة.
نحن ينقصنا «الحزب الديموقراطي» و»الثقافة الحزبية الديموقراطية» وأنا أحمّل المسؤولية للاحزاب العلمانية والأحزاب الدينية وهي تتحمّل المسؤولية التاريخية عن الانحراف في مشروع الثورات العربية التي كانت واعدة ولا يزال فكرها واعداً، وباعتقادي مضمون الثورات العربية لم ينته، ولم تنته الثورات العربية كمضمون وكذاكرة، ولا بد ان تعود وتستيقظ مجدداً. الايجابيات فيها لا بد ان تستيقظ.
أخطاء الاخوان المسلمين في مصر كانت كثيرة وكما هي اخطاء الحركات الاسلامية المتشددة «داعش« وغيرها، لم تستفد من اخطاء الحركات الدينية الأخرى، أخطأ الاخوان المسلمون في محاولتهم احتكار السلطة، كما اخطأوا في استخدام العسكر الذي عاد وانقلب عليهم، وتكررت قصة حسن الترابي مع حاكم السودان عمر البشير في مصر وبدل ان يجري التحالف مع المدنيين والاخوان المسلمين كما حدث في تونس، جرى تحالف الاخوان المسلمين مع العسكر وكانت فرصة للعسكر لأن ينقض عليهم«.
[ لا اريد ان أتكلم عن ولاية الفقيه بأبعادها الايديولوجية والفقهية ولكن أتحدث عن الأمور من زاوية سياسية فهي أي ولاية الفقيه لعبت دوراً في تشتيت المجتمعات وساهمت في قسمة المسلمين والعرب وفي تشتيت المجتمع اللبناني؟
ـ «ولاية الفقيه ولاية عامة، وصلاحيتها موجودة عند الشيعة وعند السنة وهذه الصلاحية قد تكبر أو تصغر. الاجتهاد الذي اتى به آية الله الخميني هو ان هذه الولاية عامة لا تقتصر فقط على العبادات والحلال والحرام وعلى الحسبة ومراقبة السوق والأخلاقيات عند السنة والشيعة معاً.
الفقيه له الولاء على هذه الأمور وعلى القضاء والأحوال الشخصية والتاريخ وليس فقط على الاحكام الدينية والفقهية. الولاية العامة تصير هنا ولاية سياسية «وحتى أهدّئ السنة بعض الشي، هذا هو «تسنن« في الفقه الشيعي». والخميني في أطروحته هذه يزاحم المسلمين السنة على الخلافة، هذه هي مشكلة ولاية الفقيه.
بمعنى ولاية الفقيه العامة ان الولي الفقيه العام يستطيع ان يكون خليفة على المسلمين، أمير المؤمنين أو «الامامة العظمى«. (رشيد رضا). هذا المنصب هو واحد في مفهوم الخلافة عند السنة وفي مفهوم ولاية الفقيه العامة وفق الاجتهاد الخميني.
والخلافة ليست بابوية، هي ولاية عامة على المسلمين والخليفة هو ولي الفقيه العام.
الذي تسبب بأذى المجتمعات العربية والاسلامية هو مفهوم الحزب الاسلامي الاصولي والشمولي سواء أكان داعش سنياً أو كان شيعياً (ولاية الفقيه) هو الحزب الاسلامي الذي لم يتحول كما حصل مع الحزب المسيحي الأوروبي الذي أصبح حزباً مدينياً وديموقراطياً. بعد الحروب الدينية وبين الحربين العالميتين الأولى والثانية صار الحزب المسيحي الديموقراطي يؤمن بتداول السلطة ولا يستخدم المقومات المسيحية للخروج على السلطة الشرعية أو الوصول إلى السلطة.
وشأن الأحزاب الديموقراطية المسيحية مسألة أخلاقية عامة وليس فقط مناط سياسي، وليست سلماً للسياسة كما هو حال الأحزاب السياسية«.
[ وكيف نجحت ايران في تقسيم المسلمين وقسمة العرب؟
ـ «المشكلة في ايران ليست في ولاية الفقيه، ولاية الفقيه تستخدم للداخل وليس للخارج. سياسة ايران الخارجية براغماتية للغاية شبه السياسات الدولية الكبرى، الألمانية والفرنسية والأميركية.. هي سياسة براغماتية بامتياز ـ سواء حكم الاصلاحيون ام المحافظون. ولاية الفقيه خطاب ديني موجه للداخل الايراني أكثر، كما هو موجه إلى المجتمعات الاسلامية، وموجه للفئات والمواقع الشيعية من هذه المجتمعات. ولاية الفقيه بخطابها التعبوي هذا هي تخريب على المرجعيات الدينية الشيعية وولاية الفقيه هي تخريب أيضاً على المواطنية الشيعية العربية وغير العربية خارج إيران.
هذا هو دور ولاية الفقيه. هي أداة تفتيتية في الداخل وأداة اختراق للمجتمعات الإسلامية، ولا علاقة لولاية الفقيه لا من بعيد ولا من قريب بالسياسات الدولية وهي سياسات تنتج مصالحها، والنخبة السياسية الإيرانية الحاكمة من أشطر النخب في نسج السياسات الدولية وفرضت احترامها على السياسة الأميركية وعلى السياسات الدولية الغربية«.
[ وهواجسك بخصوص المسألة اللبنانية؟
ـ لبنان ممكن أن يعود إلى تسوية ميثاقية إذا ضبطت الأوضاع جيداً، وإذا أعيد ترتيب الوضع في سوريا. والتسوية الميثاقية هي طريقة الميثاقيين المعتدلين والأذكياء، ولكن شرط أن يعود الزعماء اللبنانيون إلى وعيهم التاريخي ولهم مصلحة بإعادة تركيبة الميثاق الوطني وإن على مستوى ما من توزيع الحصص والأمور رهينة انتظارات التموضع في السياسات الإقليمية المؤثرة على الساحة الداخلية وبانتظار جلاء موانع صارخة إيرانية وعربية. والناقص إلى الآن إنجاز انتخاب رئيس للجمهورية، كمدخل أساسي للعودة إلى تلك الميثاقية. «ولكن البلد ماشي كما هو، وكما العادة التسوية تقوم على إرضاء الزعامات وعلى قواعد معروفة بالتركيبة اللبنانية، ويبقى المواطن اللبناني إلى حين إنجاز هذه التسوية يبحث عن عمل في الداخل، وإذا لم يجد هذا العمل يهاجر».
[ هل لانتخاب رئيس الجمهورية معنى توافقي؟
ـ «انتخاب رئيس للجمهورية يعني إعادة التوافق اللبناني بالمعنى الميثاقي الذي نعرفه«.
[ وهذا رهن انتهاء الوضع المأزوم في سوريا؟
ـ «إلى حين الانتهاء من موضوع الإرهاب في سوريا، وهذا موضوع كان يسعى إليه الرئيس السوري بشار الأسد، منذ عسكرة الثورة السورية حتى يضمن وقوف العالم معه وقد وصل إلى هذه النتيجة. والمفاوض السوري الذي يحمل إلى جنيف مشروعاً مدنياً أو برنامجاً انتقالياً ليس عنده أوراق كثيرة على الأرض، وبالتالي من لا يملك أوراقاً كثيرة على الأرض لا يملك أوراقاً تفاوضية موازية وسواء فاوض أو انسحب من مفاوضات جنيف، الأمور سواء. الروس على دراية بهذا الشيء، والتعليق الروسي فاقع بهذا الشأن: «الذي يغادر طاولة المفاوضات في جنيف هو الخاسر»، والروس اختزلوا المسألة السورية على دمويتها وعنفها وتراجيديتها الكبرى بالقضاء على الإرهاب ويسعون إلى ذلك عن طريق دعمهم للجيش السوري ومساعدته، وباعتقادهم ممكن أن يصلوا إلى مخرج ما من الأزمة والعالم يغازلهم والأميركان يبدو أنهم موافقون على هذا الإخراج. وهذا يعطي الأسد فرصة أخرى للبقاء. هذا إذا لم تحدث مفاجآت. الواضح إلى الحين أن الروس يمسكون بأوراق اللعبة وبالمبادرة على الأرض السورية وليس الإيرانيون».
[ والنقاش الدائر والسجال الفكري القائم بين الأصوليات وحول «داعش«، وكأنه نقاش في المنطق وصراع بين من يفهم النص الديني أكثر وفي فصل عن الطبيعة الثورات العربية الأساسية؟
ـ «لا مستقبل للحركات الإسلامية المتشددة في الشرق، وهذه الظاهرة هامشية وأنا أعتبرها ظاهرة طفيلية، تنمو كالطفيليات في بيئة من التناقضات الإقليمية والدولية وتزول مع زوال هذه التناقضات البيئية. تزول بزوال الشروط الحاضنة والمولدة لها وكلها مثل «Parasite» تصير وحشاً، مثل الفيروس الطفيلي تصبح وحشاً قاتلاً يتغذى من تناقضات البيئة الحاضنة له ومن تصارع قوى تنمو في حضنها، وهذه الحركات محكومة بالسقوط مع سقوط الاستبداد، ونحن في مرحلة جديدة من المخاضات والنخب العربية مدعوة للتعلم من هذه التجربة وأقصد النخب العربية التي تؤمن بالتحول الديموقراطي والدولة المدنية«.
[ والسجال بين الطائفي والمذهبي وبين العصبيات الطائفية والمذهبية، وما هو الفرق بين العصبية الطائفية قبل الحرب والعصبية المذهبية بعد الحرب؟
ـ «تاريخ لبنان جرى ربطه دائماً بماضٍ أسطوري إلى أي حد ساهم ذلك في خدمة فكرة الدولة أو العكس، إلى أي حد ساهم في مفاقمة الأوضاع والأزمات في بلد مقسوم طائفياً وإلى درجة القلق من تكرار فصول عنف وفي تكرار الحرب الأهلية وبعصبيات مذهبية أقوى حتى من العصبيات الطائفية. هذا أمر خاضع للنقاش مطولاً. ولكن ليس عندي خوف من شبح الحرب الأهلية، ولا أعتقد أن اللبنانيين حاملون سلاحاً على بعضهم البعض. اللبنانيون مختلفون في السياسة، ولكنهم متفقون على عدم التقاتل على الأرض اللبنانية بمعنى التقاتل. شهد لبنان اضطرابات أمنية، لكن يمكن معالجتها وهذا جيد، ما يسمح بالعودة إلى التسوية الميثاقية ودوماً على قاعدة توزيع الحصص المذهبية والطائفية«.
[ تعقدون مؤتمرات حول التاريخ وانتهى للتو المؤتمر السنوي الثالث في منطق تجديدي وبلغة تجديدية تاريخية بحضور عدد كبير من المؤرخين والمفكرين العرب، ما المقصود بالتجديد في التاريخ العربي؟
ـ التجديد هو بإرساء مناهج جديدة في النظرة إلى التاريخ العربي وفي المنظورات للتاريخ والمقولات وأهمها فلسفة التاريخ والنظريات المقتبسة من خلال مساعدة العلوم الإنسانية والاجتماعية وما تضيفه من عناصر تجديد على البحث التاريخي ومنهجياته. وأقصد بالمنهجيات قواعد المدرسة الوضعانية ومنطلقات ومبادئ العودة إلى الوثائق ولا غنى عنها، كما النقد الداخلي والنقد الخارجي وأسس أخرى. الجديد أن الوثائق وحدها لا تكفي وإنما يتبقى ويضاف إليها أنماط جديدة من الوثائق والأمور والأساطير وعلى المؤرخ أن يفككها ليصبح لها معنى تاريخي باعتبارها مصادر تاريخية. إلى دخول عناصر العلوم الإنسانية والاجتماعية والانثروبولوجيا والتحليل النفسي والألسنية كإضافات إلى البحث التاريخي وهي لم تكن تحظى بمراعاة كلية في المدرسة الوضعانية والبحث التاريخي. والجديد في مشروعنا أن نبحث في الدرجة الأولى عن المجددين من المؤرخين العرب الذين مارسوا المنهجيات الجديدة وفعلاً حققنا الشيء الكبير في هذا المجال، واكتشفنا أن هناك مؤرخين جدداً لا سيما في بلاد المغاربة، في تونس والمغرب والجزائر من خلال المؤتمرات التاريخية الثلاثة التي عقدناها في بيروت «المؤتمر التاريخي الشفوي» و»مؤتمر مئة عام على الحرب العالمية» والمؤتمر الثالث الذي تناولنا فيه «إعادة النظر في ما كتب في التاريخ العربي»، وما كتبه المؤرخون المجددون في هذا التاريخ، وما يجب أن نكتبه بمنهجية جديدة في محاور مهمة منها محور «الذاكرة والتاريخ»، ومن «وسائل واتجاهات التواريخ الوطنية»، والتاريخ الميكرو وعلاقته بالتاريخ العام. ومحاذير أن يبقى التاريخ الجزئي جزئياً، لأن الجزئي يبدل أشياء كثيرة لا يمكن تفسيرها على المستوى الإقليمي والدولي ولدينا أبحاث جيدة جداً ومحكمة والأخصائيون يميلون إلى أن الذاكرة تحمل صوراً متجاذبة بين الحقيقة وتصور الحقيقة وبالتالي لا بد من استخدام منهجية الألسنية وعلم النفس والتحليل لتفكيك الوثائق من مصادرها الشفوية وهذا ينطبق على المذكرات أيضاً، وهذه المقاربة التاريخية تستعين بالعلوم الاجتماعية والإنسانية على اختلاف معارفها.
نحن نتلقى عشرات المخطوطات من مؤلفين وبشكل مستقل ونسجل كل عام 150 مخطوطة تاريخية تخضع للتحكم والتعديل والتحرير العلمي واللغوي وأصبح لدينا 175 إصداراً من أصل المئات من المخطوطات التي تردنا إلى مكتب بيروت وفي الدوحة والمؤتمرات والندوات وحلقات النقاش التي نقيمها في بيروت والدوحة ذات طابع استراتيجي سياسي وذات ارتباط عضوي بعنوان مؤتمرنا السادس المقبل في موضوع العلوم الإنسانية والاجتماعية، وبما له إطلالة على السياسة والفلسفة والاقتصاد وعلى الجديد في التحولات الراهنة على المستويات كافة.