مصطفى بدر الدين مسيحي في الخليج سني في بيروت شيعي في سوريا
محمد قبيلات/العرب/21 أيار/16
عمّان – “يتحرك مثل شبح لا يمكن إدراكه، ونظريًا يستحيل تعقبه داخل لبنان، فهو لا يترك أيّ أثر، ولم يستخرج يوما جواز سفر، ولا رخصة قيادة، وليس ثمّة عقار مسجّل باسمه في لبنان، ولا تملك السلطات أيّ معلومات عن دخوله إلى لبنان أو خروجه منه، ولا بيانات في وزارة المال تفيد بأنه دفع الضرائب يومًا ما، ولا حسابات مصرفية باسمه. فهو غير موجود، بل شبح لا يمكن اقتفاء أثره في لبنان”. هذا كان قول المدعي في المحكمة الخاصة بلبنان غرايمي كاميرون عن الشخصية التي سيعرفها اللبنانيون لاحقا بدمها ولحمها، واسمه الحقيقي، لأول مرة، يوم وجهت التهمة إليه باسمه الصريح مع أربعة آخرين، من قبل المحكمة الدولية الخاصة في التحقيق باغتيال رفيق الحريري. قبل ذلك ظلّ مصطفى بدرالدين يلوذ بأسماء حركية مختلفة، كان آخرها “ذو الفقار”، الاسم الذي استخدمه في سوريا، حيث قاد، حسب تقارير صحافية واستخباراتية، ميليشيات حزبه “حزب الله” في الحرب إلى جانب قوات النظام السوري، وكان قد تسلّم قيادة العمليات العسكرية بعد اغتيال عماد مغنية في دمشق أيضا. قبل ذو الفقار حمل اسم إلياس فؤاد صعب، كان ذلك في الكويت، وهناك حكم عليه بالإعدام عام 1984، إثر مشاركته في عملية “الكويت 17” التي شملت سلسلة من سبعة تفجيرات مُنسَّقة. هو أيضا تاجر الذهب البيروتي سامي عيسى، وكلها أسماء حملها لغاية واحدة، هي التخفي.
لحظة الاغتيال
تعكس الطريقة التي تعاطى بها إعلام حزب الله والإعلام الموالي له، وحتى الإعلام الإيراني، مع إعلان مقتل بدرالدين، حالة من الارتباك غير المسبوق، فلقد جرت العادة أن تُحمّل إسرائيل المسؤولية عن الحوادث المشابهة، لأن هذا الإعلان كان يحقق للحزب مكاسب تدعم شرعيته كحزب مقاوم.أما اليوم فالوضع مختلف، حيث يخوض الحزب معركة مفتوحة على عدة جبهات واحتمالات في سوريا، كما أن الإعلان من قبل الحزب بأن إسرائيل هي الطرف المنفذ للعميلة له تبعات كثيرة، أولها أنه يلقي اللوم على روسيا التي يفترض أنها حامية للأجواء السورية، وثانيا ما يتبع ذلك من ضرورة رد الحزب على العملية في حال حمّل إسرائيل المسؤولية عنها. بناء على ذلك اكتفى الحزب بتحميل المسؤولية عن الاغتيال لجهة مبهمة “جماعات مسلحة تكفيرية”، وهو ما رجّح الكثير من العارفين بالجغرافيا السياسية لسوريا اليوم بطلانه، حيث أن المنطقة المحيطة بالمطار الدولي في دمشق من أحصن المناطق السورية، وأقرب الفصائل المسلحة التي ترغب باستهداف مقرات حزب الله إلى هذا الحصن تبعد مسافة يصعب معها استخدام الأسلحة المتوفرة للفصائل المعارضة إصابة الهدف بدقة.كما أن إعلان الحزب جاء على روايتين؛ إحداهما تقول إن صاروخا “وقع” عليه، والأخرى تقول بأن انفجارا ضخما وقع في المجمّع الذي كان يقيم به بدرالدين.
وكأنّ قدر بدرالدين أن يتسربل موته بالغموض كما كان قد تعايش مع الغموض والاختفاء طوال سنين حياته، فمن هو قاتله؟ سؤال يحتمل العديد من الإجابات، خصوصا أن التوقيت جاء في أعقد مراحل الأزمة السورية، ففي الوقت الذي بدأ فيه انحسار الدور الإيراني في مواجهة الحضور الروسي القوي، وانقسام أركان النظام السوري إلى جناحين؛ جناح بزعامة علي مملوك يؤيد الجانب الروسي، وجناح آخر يوالي إيران. الطريقة التي تعاطى بها إعلام حزب الله والإعلام الموالي له، وحتى الإعلام الإيراني، مع إعلان مقتل بدرالدين، تعكس حالة من الارتباك غير المسبوق، فلقد جرت العادة أن تحمل إسرائيل المسؤولية عن الحوادث المشابهة، لأن هذا الإعلان كان يحقق للحزب مكاسب تدعم شرعيته كحزب مقاومة هذا الانقسام يقدم سيناريو؛ أن من قتل مصطفى بدرالدين هو جناح علي مملوك، حيث ذكرت مصادر عديدة أن بدرالدين بدأ في الآونة الأخيرة بانتقاد بشار الأسد علنا في جلساته.
أما السيناريو الثاني فيرجّح أن ايران هي من رتّب عملية الاغتيال، خصوصا أن هناك قصصا كثيرة عن خلافات نشبت بينه وبين علي سليماني وأن لقاء تم بين الاثنين في الأيام القليلة الماضية، انتهى بأن خرجا غاضبين إثر نقاش حاد حول مهمة ميليشيات حزب الله في سوريا، وهذا السيناريو يؤدي إلى السيناريو الثالث، حيث يعتقد بعض المتابعين أن خلافات واسعة تغطي العلاقة بين الرجل وحسن نصرالله.
الأرملة السوداء
بدرالدين هو الرجل الثاني القوي في التنظيم، وهو القائد العسكري الذي يواجه المصاعب في سوريا، وهو من أمر قطاعات من ميليشيات الحــزب بالعودة إلى لبنان، وما أغضب زعيم الحزب وإيـــران، هو ما يرجّح الاحتمال الثالـــث الذي يفترض أن كوادر من حزب الله هي التي نفذت عمليــة تصفية مدروسة لبدرالدين. وهو إن صح فهــذا يعني أن الحزب يذهب نحو ما يمكن وصفه اليوم بالأرملة السوداء التي بدأت تأكل شركاءها. الحقائق على الأرض، تدعم هذه السيناريوهات الثلاثة، فمنطقة المطار تحت سيطرة قوات من النظام وقوات الحرس الثوري وكتيبة “الظِلال” التابعة لحزب الله، التي كانت مهمتها الأصلية قبل تورط الحزب في سوريا، نقل الدعم الإيراني من مطار دمشق إلى لبنان. ولا تقف الاحتمالات عند هذا الحد، بل يظل هناك احتمال أن تكون القوات الجوية الإسرائيلية هي من نفّذ الاغتيال واردا، فالمقاتلات تستطيع أن تطلق صواريخها الدقيقة من دون أن تدخل الأجواء السورية. كما أن هناك من يرجّح أن يكون الاغتيال قد تم من خلال عملية نوعية للمخابرات المركزية الأميركية، فرأس بدرالدين مطلوب لهم منذ العام 1982، بعد العملية التي أودت بحياة أكثر من مئتي عنصر من المارينز على السواحل اللبنانية. آخر الاحتمالات أن يكون بدرالدين قد قضى في نواحي حلب، فهناك من يقول إنه كان في خان طيّون وقتل مع الجنرالات الإيرانيين الـ13 إثر عملية نوعية لفصائل المعارضة السورية المسلحة. حجم الخسائر الهائل بين صفوف حزب الله والتململ الحاصل في حاضنته الشعبية، يجعل قائدا ميدانيا بحجم بدرالدين يدرك مبكرا أهمية الخروج من ورطة الحزب هذه في سوريا
لا شك أن هناك حديثا، بات أعلى من الهمس، يجري الآن في أوساط حزب الله جرّاء تكبده خسائر في سوريا تكاد تهدد وجوده، وبنظرة سريعة على أسماء القيادات التي قضت نحبها خلال الأعوام الأربعة الماضية، يستطيع المرء أن يُخمّن كم من الكوادر والمقاتلين خسرهم الحزب في المعارك الجارية هناك.
دخل الحزب بعديد ضخم من قواته ساعد النظام على البقاء، ويقدره بعض المتابعين بين الثمانية والعشرة آلاف كادر وعنصر، خسر منهم الحزب، وفق ما تقوله الصحف اللبنانية، أكثر من ألفي مقاتل في معارك كان يُشكّل بها مقدمة الهجوم، وذلك بسبب ضعف القوات الرسمية وتناقص عدد المقاتلين فيها إلى درجة أنها اعتمدت على حزب الله والميليشيات القادمة من العراق وأفغانستان وإيران، بينما اكتفت هي بعمليات الإسناد المدفعي أو الجوي. هذا الدور للحزب يفسر حجم الخسائر الهائل بين صفوفه من جهة، ومن جهة أخرى التململ الحاصل في حاضنته الشعبية، ما جعل قائدا ميدانيا بحجم بدرالدين يدرك مبكّرا، قبل القيادة السياسية، أهمية الخروج من هذه الورطة.
تبعات اغتيال الحريري
هناك دائرة معينة في التحالف الذي يشمل إيران سوريا حزب الله، يدرك أنه على موعد، إن آجلا أم عاجلا، مع لحظة الحقيقة التي لا بد فيها أن يواجه المحاكمة، لذلك تسعى هذه الدائرة للتخلص من الأدوات و الشهود الذين استخدموا لاغتيال الحريري. هذا ليس ضربا من التخيل، فالأركان الأساسية التي من المحتمل أن لها دورا في العملية اختفت، فمنذ سنوات وكوادر مخابراتية للنظام السوري كانت تعمل في لبنان في تلك الفترة تختفي تباعا، وتبعهم من حزب الله عماد مغنية واليوم مصطفى بدرالدين. اضطر حزب الله أن يكشف عن كوادره في سوريا على شكل قطاعات عسكرية ومراكز قيادة ومراقبة وعمليات لوجيستية مكشوفة، فهو في معركة من نوع جديد، لا تشبه معاركه السابقة مع إسرائيل، حيث كان يستخدم تكتيكات المغاوير والثوار. ولعلنا نتذكر عندما اجتاحت القوات الإسرائيلية الجنوب اللبناني في عام 2006 ، كيف أن كوادر الحزب اختفت تماما، ولم يكن أمام إسرائيل إلا أن تواصــل قصف الضاحيــة الجنوبيــة، وبعــض مراكز الاتصــال والسيطرة بالطائرات، فلم تجد على الأرض من تواجه. تسريبات ترد عن خلافات نشبت بين بدرالدين وبين علي سليماني وأن لقاء تم بين الاثنين في الأسابيع القليلة الماضية، انتهى بأن خرجا غاضبين إثر نقاش حاد حول مهمة ميليشيات حزب الله في سوريا، ويعتقد أن خلافات واسعة تغطي العلاقة بين الرجل وحسن نصرالله .اليوم انتفت هذه الميزة، وأصبحت كوادر الحزب مكشوفة تماما لإسرائيل، وهي تغض الطرف عن الدور الذي يمارسه الحزب في سوريا من باب التزامها الحياد المتعاطف مع النظام، لكنها بين الفينة والأخرى تستهدف خط النقل بين مطار دمشق والضاحية، كما أنها لا تفوّت فرصة لاقتناص الكوادر المعروفة لديها.
الحاجة إلى ذرائع البقاء في سوريا
من الطبيعي أن يغذي الحزب كوادره التي أنهكتها الحرب على مدى سنوات بذرائع وأسباب جديدة تدعم الموقف المعنوي القتالي. فيستطيع الآن أن يسعّر خطاب الثأر والكراهية الطائفية ضد الخصوم، خصوصا أن الذرائع التي دخل بها الحزب إلى سوريا تكشفت، فلم تعد حماية مرقد السيدة زينب سببا مقنعا للبقاء في بلد اشتعلت فيه الحرائق من كل صوب، وأخذت القوى الإقليمية والدولية تغذي هذه الحرائق وتزيدها اشتعالا. مقتل مصطفى بدرالدين أمين في هذه الأيام، وأيّا كان الطرف الذي قتله، سيستخدمه الحزب في زيادة ثارات تبقيه أطول مدة على الأراضي السورية، كما أنه يخدم فكرة حرق الأدلة وإخفاء الشهود والأركان المنفذين لاغتيال الحريري. ولكنه وقبل كل شيء، يمثل فضحا كاملا لنشاط حزب الله ضد الخليج العربي ودوله من خلال شخصية قيادية كانت لها سيرة طويلة في العمليات الإرهابية على أرض الخليج.