كلا.. بشار الأسد ليس جوزيف ستالين!
أمير طاهري/الشرق الأوسط/16 تشرين الأول/15
بينما تواصل المأساة السورية استنزاف ذلك البلد، تتداول في أروقة صنع القرار والمراكز البحثية في مختلف أنحاء المعمورة عبارة متكررة هي: لا يمكن أن يوجد حل من دون بشار الأسد! وهكذا تنهمر علينا المقالات التي تحث القوى الغربية على قبول الأسد حليفًا في محاربة «داعش». لكن قبل عام واحد فقط، كانت العبارة المتكررة الرائجة جد مختلفة: لا يمكن أن يوجد حل ما لم يرحل الأسد! الرئيس الأميركي باراك أوباما كرر في أكثر من مناسبة شعاره الأثير، هازًا إصبعه بأسلوبه المعروف، قائلاً: «كونوا على يقين.. الأسد يجب أن يرحل».
بعضنا جادل ضد هذه المقولة في ذلك الوقت. ودفعنا آنذاك بأن الأسد يمثل بالفعل شريحة من السكان في سوريا، وينبغي أن يوضع في الحسبان في إطار عملية انتقالية تنتهي بخروجه من المشهد. وبعد 4 سنوات، بات يتعين علينا أن نجادل بأن المقولة الجديدة لا تقل خطأ عن سالفتها. إن السعي إلى التحالف مع الأسد ليس خطأ فحسب من الناحية الأخلاقية، لكنه أيضًا غير فعال استراتيجيًا. إنه خاطئ أخلاقيًا، لأن اسم الأسد بات الآن مرتبطًا بصورة نهائية بارتكاب جرائم ضد الإنسانية، لا يمكن أن يداريها الحديث الدبلوماسي الملتوي.
وحتى لو غضضنا الطرف عن الاعتبارات الأخلاقية، فإن التحالف مع الأسد لن يجدي نفعًا كذلك بمعايير الواقعية السياسية غير الأخلاقية، ولن نقول الوحشية.
ويستشهد الداعون إلى عقد تحالف مع الأسد بمثال الطاغية السوفياتي جوزيف ستالين، الذي أصبح حليفًا للديمقراطيات الغربية ضد ألمانيا النازية. لم ترق لي قط مثل هذه المقارنات التاريخية وبالأخص هذه المقارنة.
ولكن بداية، أؤكد أن الديمقراطيات الغربية لم تختر ستالين حليفًا لها، ولكن فرضته عليها مجريات الأحداث. عندما اندلعت الحرب العالمية الثانية كان ستالين حليفًا لهتلر بفضل اتفاق مولوتوف – ريبنتروب. وشارك الاتحاد السوفياتي بفعالية في المرحلة الافتتاحية من الحرب عبر غزو بولندا من الشرق، بينما جاء الألمان من الغرب. وقبل ذلك، قدم ستالين خدمة جليلة لهتلر، عندما قضى على الآلاف من جنود الجيش البولندي في مذبحة غابة كاتين.
وبين سبتمبر (أيلول) 1939 ويونيو (حزيران) 1941، عندما قام هتلر بغزو الاتحاد السوفياتي، كان ستالين حليفًا فاعلاً للنازي. ولم يغير الطاغية السوفياتي المعسكر الذي يحارب في صفوفه إلا مضطرًا، وبعدما أدرك أنه لا سبيل آخر للنجاة.
الوضع في سوريا اليوم مختلف تمامًا. ولا يوجد في الوقت الحاضر أي تحالف للقوى الديمقراطية التي لا تمتلك أي استراتيجية في الشرق الأوسط، والفضل يعود في ذلك إلى المسلك الغامض والملغز الذي ينتهجه أوباما.
وعلى النقيض من ستالين، لا يوجد معسكر آخر ينقلب إليه بشار الأسد، حيث يعتبر «داعش» حليفًا تكتيكيًا ضد جماعات المعارضة المسلحة الأخرى. ولذلك تركز روسيا الآن ضرباتها الجوية على الجماعات المسلحة غير الداعشية التي تقاتل الأسد. الأهم أن الأسد لا يمتلك أيًا من المزايا التي كان يتمتع بها ستالين وقدمها للحلفاء. ستالين كان بوسعه أن يوفر هذا الاتساع الشاسع من الأراضي التي يسيطر عليها الاتحاد السوفياتي والقادر على ابتلاع فرق ألمانية لا حصر لها بلا أدنى مشكلة. ولم تكن قوة الغزو التي قادها الفيلد مارشال فون باولوس سوى قطرة في محيط اليابسة السوفياتية. وعلى النقيض لا يمتلك الأسد أي عمق جغرافي ليقدمه إلى حلفائه. ووفق الجنرال الإيراني حسين حمداني الذي لقي حتفه في مدينة حلب السورية، فإن الأسد يسيطر شكليًا على نحو 20 في المائة من مساحة البلاد.
ستالين كان يمتلك أيضًا مددًا لا ينتهي من القوات، إذ كان بمقدوره أن يرسل ملايين المقاتلين من أعماق الأورال وآسيا الوسطى وسيبيريا. وعلى العكس، اعترف الأسد علانية بأن رصيده من الجنود ينفد، ليعتمد على المدد القادم من حزب الله الذي ترسله طهران.
وإذا كان الأسد قد تمكن من التشبث بشطر من سوريا، فإن الأمر يعود جزئيًا إلى أنه يمتلك قوة جوية يفتقر إليها خصومه. ولكن حتى تلك الميزة تأثرت بفعل قانون العوائد المتناقصة. إن قصف القرى والبلدات المسالمة بلا هوادة على مدار 4 سنوات لم يغير ميزان القوى على الأرض لصالح الأسد. وقد يكون ذلك هو السبب وراء قرار حلفائه الروس بالتدخل وتنفيذ القصف بأنفسهم. في السابق، كانت الطائرات روسية والطيارون سوريين. اليوم أصبحت الطائرات وطياروها من الروس، ما يسلط الضوء على التراجع المتزايد في أهمية الأسد. أما ورقة اللعب الأخرى، التي كانت بحوزة ستالين ويفتقدها الأسد الآن، فهي الموارد الطبيعية الهائلة التي كان يمتلكها الاتحاد السوفياتي السابق، لا سيما حقول النفط الآذرية التي ضمنت استمرار هدير الدبابات الروسية دون أن ينفد وقودها. وخسر الأسد، على النقيض، السيطرة على حقول النفط السورية، وأجبر على شراء الإمدادات من «داعش» أو المهربين الذين يعملون انطلاقًا من تركيا.
وتوجد أيضًا اختلافات أخرى بين ماضي جوزيف ستالين وحاضر بشار الأسد. لقد كان ستالين، الذي كان ينعته المداهنون بـ«أبو الأمة»، يمتلك الكلمة العليا في جميع القضايا. لكن الأسد لا يتمتع بذلك الوضع الآن. في الواقع، ومرة أخرى بحسب ما صرح به الجنرال الراحل حمداني في مقابلته الأخيرة التي تنشرها وسائل الإعلام الإيرانية، ما تبقى من نظام البعث السوري تديره من خلف الكواليس هيئة من الشخصيات، لا تعتبر الأسد سوى رئيس صوري. لقد أدرك وزير الخارجية الأميركي جون كيري، الذي صادق الأسد وزوجته، عندما كان سيناتورا في مجلس الشيوخ، أن الديكتاتور السوري كان مجرد لاعب بين كثيرين في عالم سياسة القوة الضبابي في دمشق. علاوة على ذلك، ونتيجة الدمار الذي لحق بالبلاد على مدار أكثر من 4 سنوات، حتى هذه «الهيئة من الشخصيات» لم تعد تمتلك السلطة التي كانت تحوزها في الماضي. اليوم، لا يُرسَم على الأقل جزء من السياسات السورية في دمشق ولكن في موسكو وطهران.
وتلخيصًا لما سبق، كان ستالين يمتلك الأرض والقوى البشرية والموارد الطبيعية والسلطة، وكلها أمور يفتقر إليها الأسد. وبناء على ذلك فإن المقارنة بين الرجلين لا تستقيم. لكنّ الداعين إلى التحالف مع الأسد يقدمون حجة أخيرة لدعم موقفهم وهي: إذا رحل فقد يخلف ذلك فراغًا. ولكن لماذا يتحدثون عن الفراغ بدلاً من انفتاح المجال أمام بداية جديدة في سوريا؟ وبغض النظر عن السمات الشخصية التي يمتلكها أو يفتقر إليها، فإن الأسد أصبح رمزًا لما لا تريده غالبية السوريين. وفي حال رحل، أو بالأحرى عندما يرحل، سينفتح مجال قد يسعى من خلاله الذين لا يريدونه إلى التصالح مع الراغبين في بقائه، مع تناقص أعدادهم.
عونستان أو بلاد ما بين الصهرين!
نديم قطيش/الشرق الأوسط/16 تشرين الأول/15
«لعيون صهر الجنرال عمرها ما تمشي الحكومة». بهذه العبارة الواضحة، خاض قائد الجيش السابق، النائب ميشال عون، معركة توزير صهره جبران باسيل في حكومة الرئيس سعد الحريري صيف عام 2009؛ «إما صهري وزيرا وإما التعطيل». كان باسيل قد رسب في الانتخابات النيابية، من دون أن يمنع ذلك عون من خوض معركة توزيره في أول حكومة بعد الانتخابات. وكان له ما أراد بغية تجاوز التعطيل. ثم ما لبث أن ترأس الوزير الصهر نفسه المؤتمر الصحافي الذي عقد في مقر إقامة عون، لإعلان استقالة ثلث أعضاء حكومة الحريري، وهو يهم بالدخول إلى البيت الأبيض للقاء الرئيس الأميركي باراك أوباما، الذي صافحه بود وحبور محمد جواد ظريف، قبل أيام على هامش أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة!
الاستقالة سبقت اندلاع الثورة السورية بأسابيع قليلة في 15 (مارس) 2011، ومضت مفاعيل الاستقالة – الانقلاب الذي أطلق «الصهر» شرارته نيابة عن حزب الله، بتشكيل حكومة الرئيس نجيب ميقاتي، أو حكومة «جسر الشغور»، بفعل تشكلها بدفع من الحرب الأسدية على الشعب السوري. لكن الثورة ومفاعيلها، وتداعي نظام بشار الأسد، غيَّرا كل شيء في حسابات الانقلابيين، من دون أن يلغي ذلك قدرتهم على سياسات التعطيل المستمرة بأشكال مختلفة، منذ اغتيال الرئيس رفيق الحريري قبل عشر سنوات، كامتداد للجريمة ولأهدافها.
ولئن كان الصهر الأول هو عنوان ومنصة التعطيل في هذه الحقبة السالفة، فإن عون يستعمل الصهر الثاني، قائد فوج المغاوير العميد شامل روكز، عنوانًا ومنصة للتعطيل في الحقبة الراهنة. سعى عون جاهدًا لفرض صهره الثاني قائدًا للجيش، مدفوعًا بشهية استثنائية لاعتبار أهدافه السياسية حقوقًا مكتسبة لا يملك الآخرون حيالها إلا الرضوخ. الأمانة توجب القول بأن روكز ضابط كفء، ذو مناقبية عالية وحس وطني يشهد له به زملاؤه. وهو يدفع ثمن تسييس عون ومذهبته لمعركة تعيين قائد للجيش، أكثر مما يدفع ثمن انعدام الأهلية والاستحقاق!
كما حيال صهره الأول، كذا حيال صهره الثاني، رفع عون سيف التعطيل، معلنًا عدم المشاركة في اجتماعات الحكومة، ما لم يُعطَ الحق بتسمية قائد للجيش، بعد أن احترقت ورقة روكز، بفعل وصوله إلى سن التقاعد، وخروجه من السلك العسكري.
الحق يقال بأن أيًا من السياسيين اللبنانيين لم يخض في مسألة الرتب والترقيات، وهيكلية المؤسسة العسكرية بالطريقة العلنية التي يخوض بها ميشال عون، حتى في ذروة الحرب الأهلية، وتفكك الدولة، وانقسام الجيش!
هكذا يهيمن التعطيل على «بلاد ما بين الصهرين» وتغرق الدولة في الشلل، والمؤسسات في التآكل والانهيار، وتذوي البلاد باقتصادها وأمنها ومصالح عبادها، ما لم ترسُ على عون رئيسًا، وعلى صهريه في الحكومة، وقيادة الجيش، باعتبار ذلك أقل حقوق المسيحيين في «أنطاكية وسائر المشرق»!
الواضح أن هذه المعادلة ليست معادلة عون، بل هي في العمق معادلة حزب الله الذي يقول عبر كل سلوكه وتصريحاته: إن أيًا من الأزمات التي تواجه لبنان لن تُحل قبل أن ينتخب عون رئيسًا لجمهورية يحكمها حزب الله، ويستتبع أجهزتها الأمنية، ويسيطر من خلال الرئيس على مجمل عمل مجلس الوزراء فيها. ببساطة يريد حزب الله أن يعيد عبر ميشال عون تجربة الرئيس السابق إميل لحود التي بدأت بمحاولة الانقلاب على رفيق الحريري من خلال محاولة محاكمة وسجن أركان فريقه الاقتصادي، وانتهت باغتيال الحريري نفسه حين استعصى تطويعه!
لم يترك ميشال عون مجالاً للشك في استحالة الاتفاق معه على تسوية تضمن وصوله إلى الرئاسة من غير أن يضع البلاد، من موقعها الرسمي، في خندق ولاية الفقيه. فالرجل وحزبه ما عادا مرتبطين بإيران فقط، أو ينطلق من تحالف مع حزب الله يحفظ فيه تمايزًا حقيقيًا، يمكنه من جسر الهوة بين ضفتي الصراع في لبنان، ذاك أنه انحدر بمستوى علاقته بإيران إلى مستوى أحزاب لا يتجاوز عدد منتسبيها أصابع اليد!
من الأمثلة المريعة، مشاركة قادة عونيين فيما يسمى «وفد الأحزاب والقوى والشخصيات الوطنية اللبنانية» الذي زار طهران قبل أكثر من شهر للقاء مستشار المرشد علي خامنئي الدكتور علي أكبر ولاتي، إلى جانب «رواسب» سياسية من نوع «رابطة الشغيلة» و«اللجان والروابط الشعبية»، و«الطلائع اللبنانية»!
الوفد ذهب لتهنئة إيران بانتصاراتها «في سوريا ولبنان (حزب الله) واليمن والعراق» فيما سمع من ولايتي أن إيران «على ثقة بأن الأسد الذي فاز في الانتخابات الأخيرة، سيفوز في الانتخابات مرة أخرى»!! لا حاجة للتعليق أكثر.
في إطلالتيه الأخيرتين، بدا عون مجرد أداة عند حزب الله، بلا أي حضور شعبي حقيقي، والأهم بلا أي خطاب، سوى احترافه تزوير التاريخ. هاجم عون الطبقة «السياسية الحاكمة من خمس وعشرين سنة» وهو الاسم الحركي لرفيق الحريري، متناسيا أنه حليف لأبرز وأقوى مكونات هذه الطبقة السياسية خلال حقبة الوصاية، من الأمير طلال أرسلان، إلى الوزير سليمان فرنجية، إلى الحزب السوري القومي الاجتماعي.. والأهم إلى حزب الله!
أخطر ما قاله عون هو استعداده لحمل السلاح دفاعًا عما يفترض أنها حقوقه، مما يعني أن لبنان مرشح لانهيارات أمنية تعيد هندسة الواقع السياسي اللبناني بانتظار ما سترسو عليه سوريا.
ما لم يأخذه حزب الله عبر عون رئيسًا، سيسعى لأخذه عبر عون «ثائرًا»! رائحة دم في المكان.