أمين معلوف لا تعتذر
إيلـي فــواز/لبنان الآن/17 حزيران/16
أكاد أجزم أنّ كل من كتب عن أمين معلوف على خلفية مقابلته على قناة 24 الإسرائيلية لم يقرأ له شيئاً.
الذين تناولوا الموضوع كتبوا في سياقٍ استغلالي ضيّق، إمّا من باب هجاء “الممانعة” التي تهاجم إسرائيل وتتجاهل مجازر بشار الأسد, أو من باب التوكيد أنّ وجهة “المقاومة” لم تنحرف عن مسارها في تحرير القدس من “الصهاينة” و”عملائها التطبيعيين”.
أغلبهم لم يستمع إلى المقابلة حتى, والتي كانت تتحدث عن كتاب معلوف الأخير, “نافذة على السين”, الذي يتناول فيه تاريخاً موجزاً لفرنسا من خلال السير الذاتية للمفكرين والأدباء والأطباء والسياسيين الذين شغلوا المقعد رقم 29 في الأكاديمية الفرنسية منذ إنشائها بإيعاز من ريشوليو، وهو المقعد الذي يشغله اليوم معلوف خلفاً للإنتروبولوجي الكبير كلود ليفي شتروس.
وفي تلك السيرة الشيقة الكثير من الحكايات عن تداخل السياسة وأشخاصها عالم الآداب والثقافة، فتضغط الأولى في اتجاه منع من يستحق – فولتير مثلاً – من أن ينتخب لتعود جدارته فتفرضه بإجماع لاحق.
أمين معلوف هذه القيمة الفكرية الكبيرة لم تدخل الأكاديمية الفرنسية كما أوحى أحد الكتبة من تحت عباءة برنارد هنري ليفي، إنّما بجدارة إنتاجه الفكري تماماً كما كل أسلافه.
وقد يكون من الصعب جداً في بلادنا أن يكافأ المرء على عملٍ يقوم به وأن نجد الإنسان المناسب في المكان المناسب من خارج إطار الاستزلام والتزلّف والوساطات, لذا ترانا ننهل من ثقافة نظرية المؤامرة كملاذ وحيد لكبت خيباتنا وتفسير نجاحات الآخرين.
ترك أمين معلوف لبنان عام 76 حيث الحرب تستعر فيها, حاملاً معه إلى فرنسا البلد الذي احتضنه أسئلة كثيرة أقلقته. ما الذي يحرّك الإنسان في هذا الشرق؟ ما سرّ تلك المأساة التي تتملك بشعوبها سياسياً وسوسيولوجياً؟ أسئلة طرحها في كتاباته، كما في كتابه الأول “الحروب الصليبية من وجهة نظر العرب”، عن أسباب هذا الصراع بين الشرق والغرب، والذي نرى اليوم أثره في العالم اليوم بشكل إرهابٍ يبحث عن انتقامٍ ما بوجه غلبة الغرب.
لكن لا يمكن فهم كتابات أمين معلوف إلا من خلال كتاب “الهويات القاتلة” والذي يعبّر فيه بشكل أساس عن هذا القلق الذي ينتاب المفكّر الشرقي حول تلك الهوية الدينية، التي تطبع الانسان في منطقتنا وأثرها على حياته الخاصة وتلك العامة، والذي حاول من خلاله الإجابة عن تلك الاسئلة الكثيرة التي أقلقته.
كتاب يطرح فيه الكاتب سؤالاً عن هويته – وهو الذي وُلد في لبنان وعاش وقتاً في القاهرة ليعود ويستقرّ في فرنسا- ليعلن أنّه ينتمي الى “العالم”, مواطناً أممياً حراً, رافضاً أي قالب يعيقه في تحركاته, وفي السياق نفسه رافضًا تلك الرؤية المانوية التي ينتمي إليها الغالب الأعمّ من “المثقفين” في منطقتنا, بحيث يصبحون أسرى ما يعرفونه ويتعلّمونه وما هو مسموح تطبيقه في بيئتهم.
وهذا تحديداً ما يجعل أمين معلوف ينظر إلى الصراع الفلسطيني الاسرائيلي من منطلق سياسي, أي من خارج الهويات الدينية القاتلة, ويجعله يرى في الاسرائيلي إنسانا “غير مؤبلس” يستطيع التواصل معه تمامًا كما فعل في مقابلته من دون أن يشعر بثقل التراكم التاريخي للخيبات والنكبات والنكسات.
على كل الأحوال ما فعله معلوف من المنطلق الانساني الأممي أكده قبله الشاعر الفلسطيني محمود درويش حين قال “العرب مستعدون لتقبّل إسرائيل القوية والمسلّحة بالسلاح النووي، ولكن عليها فقط أن تفتح أبواب حصنها وتصنع السلام. لتوقفوا الحديث عن خطوات الأنبياء وحرب بلعام وقبر راحيل. إنه القرن الحادي والعشرون”.
مساحات ساحقة فكرية وإنسانية تباعد بين أمين معلوف والفكر المتحجر المعشش في عقول كثيرين هنا، والذي – أي الفكر هذا – أفضى في نهاية المطاف الى واقعنا اليوم في العالم العربي: هويات قاتلة تتواجه في حروب قد لا تنتهي قريباً.