عدوانية السياسة الخارجية الإيرانية.. نهج مستمر من الخميني إلى خامئني
سيّد أحمد غزالي/العرب/22 حزيران/16
الحديث عن التدخل الإيراني في الشؤون الخاصة للكثير من دول العالم يبدأ ولا ينتهي، وهو ما يقتضي منّا الإيجاز ويفرض البدء بما رأيته وعايشته على أرض بلدي الجزائر، وما كان لي نصيب في أخذ القرار الوطني اللازم تجاهه من خلال موقعي كوزير أول (رئيس الوزراء) في أوائل تسعينات القرن الماضي.
والكشف عن تفاصيل هذا التدخل في صلب الشؤون الداخلية للجزائر لم يأت نتيجة تحليل نظري، بل نتيجة واقع لمسناه في الميدان، والذي زاد من قسوته وغرابته وقتها أنه جاء “تتويجا” لسنوات من العلاقات الطيبة من طرفنا بعد اندلاع الثورة ضد نظام الشاه، حيث كنا نأخذ ما يقوله نظام الخميني على ثقة ودون جدال. لم نكن نعرف المعارضة الإيرانية حينذاك، ولا تعرّفنا على المجاهدين ومواقفهم.
اكتشاف هذا الأمر وافتضاح أهداف نظام الملالي وسعيه وراء التدخل بأشكاله العديدة أماطت كلها اللّثام عن مدى خطورة ما كان يمارسه أتباعه ويعدّون له، سواء من خلال تأييدهم للأعمال التخريبية التي وقعت في بلدنا، أو مشاركتهم الفعلية فيها.
وكان من الطبيعي على إثر ذلك أن تنعدم الثقة وأن تتطوّر الأمور نحو ممارسات عدوانية وكيدية تجاهنا، وصولا إلى اتخاذ قرار قطع العلاقات مع هذا النظام كردّ على ممارساته العدوانية ووضع حدّ للتدخل وإثارة الفتنة، لكن ردّة الفعل الإيرانية الرسمية ذهبت إلى التهديد بالقتل لمن اعتُبِر «رأس الحربة» في عملية قطع العلاقات.
هذه المستجدّات بكافّة أوجهها التخريبية والتهديدية طُرحت أمام القضاء الفرنسي نظرا لتعدّد الأطراف المشاركة فيها. وجرى نشر ما تمّ الاعتراف به من قِبل الذين ألقي القبض عليهم وتمّت إدانتهم على ما ارتكبوه حتى اللحظات التي تم اكتشافهم فيها قبل أن يصلوا إلى تنفيذ عملية التهديد بالقتل.
لو رجعنا إلى ما نشرته الصحف في ذلك الحين حول تدخلات النظام وسير المحاكمة وقراراتها، لوجدنا أن الاستراتيجيّة الإيرانية التي كانت متّبعة تجاه الجزائر -حتى في عزّ العلاقات الطيّبة- هي نفس الاستراتيجيّة العدوانية تجاه كل بلد عربي وإسلامي، وسائر البلدان المجاورة أو البعيدة حتى في أقصى بقاع الأرض.
الاستراتيجية الإيرانية التي كانت متبعة تجاه الجزائر -حتى في عز العلاقات الطيبة- هي نفس الاستراتيجية العدوانية تجاه كل بلد عربي وإسلامي، وسائر البلدان المجاورة أو البعيدة
استمرار هذه الحالة الفريدة في غرابتها يدفعني إلى التساؤل: لماذا صمتت سائر أنظمتنا العربية على هذه التصرفات التي بلغت ذروة التحدّى والعدوانية، مع أنها مستهدفة قبل غيرها من دول العالم. ناهيك عن أن هذا النظام لا يقتصر على اعتماد نهج التطرّف والإرهاب، ولا على نزوعه نحو التوسّع وبسط النفوذ فقط، أو حتى على علاقاته العدائية مع شعبه، بل وصل إلى حد التهديد باحتلال أجزاء من بلدان أخرى كالبحرين وغيرها مما نشاهد نماذجه اليومية في العراق وسوريا ولبنان واليمن؟
ثمّة تساؤلات أخرى من قبيل: إذا كان هذا هو حال الحاضر، فماذا عن المستقبل، وماذا إذا استمرّ هذا النظام في عربدته؟ كيف سيكون الحال إذا ما قُيّض له احتلال غير العراق والتحكّم بغير سوريا ولبنان حزب الله؟ ثمّ ماذا عن موقف القوّة الكبرى التي تشاركه العديد من مزاياه وخصائصه؟ هل سكوت أنظمتنا العربية عن كل ممارساته وجرائمه نتيجة تواطؤ، أم تخاذل؟
التشابه بين الأميركان وإيران
أقول ذلك وليس على الذي لا يُشاطرنا الرأي حول دواعي طرح هذه التساؤلات، إلّا أن يحلّ اللغز الكامن وراء عدم تحرّك الأميركان، ولا حتى اكتراثهم طوال العقود الماضية، بما يقترفه هذا النظام بدءا من يومه الأول، وحتى آخر صفقة غير مشروعة تضمنّت تزويده بقطع غيار لطائرات فانتوم ورادارات عسكرية وصواريخ هوك وغيرها، من الولايات المتحدة عن طريق إسرائيل، وقد كشفت تفاصيلها صحيفة هآرتس الإسرائيلية بتاريخ 17 فبراير 2014.
أما إذا استحال على البعض حلّ هذا اللغز رغم وضوحه -ولا سيما بعد أن كشفت الوثائق التي رَفَعت سي آي إي مؤخرا السرية عنها وجود علاقات خفية بين الخميني والولايات المتحدة منذ أيام الشاه- فما عليه إلّا أن يلحظ كمّ التشابهات متعدّدة الجوانب بين النظامين الأميركي والإيراني، مثل الجهر بموقف ما وتنفيذ نقيضه بالكامل، وتواصل التلاسن الكلامي بينهما إلى جانب التساكن الحقيقي مع بعضهما على أرضية واحدة، كالموقف من العراق والنووي الإيراني ومجاهدي خلق وقضية أشرف- ليبرتي. عدا تشابه موقف كل منهما وممارساته تجاه قضية فلسطين، حيث الكلام الإنشائي الجميل، بينما الواقع الفعلي مناقض بالكامل.
حتى في اختلال المقاييس واعتماد التضليل والكذب ثمة تشابه كبير بينهما. ولنأخذ مثلا على ذلك الكيفية التي تمّ اعتمادها لإدراج منظمة مجاهدي خلق في قائمة الإرهاب، تحت حجّة أن عناصرها قتلوا عددا من الأميركيين في بداية سبعينات القرن الماضي، دون وجود لمتّهمين ولا أي إثبات يؤكّد هذه التهمة.
الإدارة الأميركية قدمت العراق كاملا على طبق من ذهب لإيران
ومع ذلك، ولنفترض أن هذه التهمة حقيقية وأنهم قتلوا فعلا عدة أشخاص، فإن من حقنا التساؤل في المقابل: وماذا فعلت الولايات المتحدة أمام قيام النظام الإيراني بقتل 241 أميركيا من مشاة البحرية في بيروت عام 1983 رغم وجود أدلّة دامغة على الإدانة. والشيء نفسه يُقال حول قيامه بعملية أخذ الدبلوماسيين الأميركيين في طهران كرهائن عام 1979 دون اتخاذ أي إجراء عقابي ضده ولو كان أخفّ من قرار الإدراج في قائمة الإرهاب؟
إذن، عندما نرى جولات المباحثات مستمرّة مع إيران في أجواء يختلط فيها التفاهم مع التسويف، فإن ذلك يشير إلى وجود تواطؤ بينهما لا لُبس فيه، يعكسه توافقهما الضمني على صيغة التعامل بوجهين ولسانين والتناقض بين القول والفعل تجاه مختلف القضايا.
رهان على اعتدال دكتاتورية فريدة
الغريب أن هذا الوضع تدركه الولايات المتحدة، وقد أخذته بعين الاعتبار في علاقتها مع النظام وموقفها من المعارضة. وفي ضوئه أخذت إدارة كلينتون قرارها بإدراج المجاهدين في قائمة الإرهاب انطلاقا من توجّهها نحو تشجيع حكّام طهران على إنشاء تيار معتدل بينهم. غير أن شيئا جديدا لم يحدث منذ ذلك الحين وحتى اليوم، ولم يطرأ تغيير يذكر، والدليل على ذلك تبدُّل رفسنجاني بخاتمي وخاتمي بروحاني مع بقاء نفس اللغة ونفس الأساليب.
ولهذا، يُفتَرض التساؤل ما دام الأميركان يعرفون تركيبة هذا النظام، ويدركون أنه أحادي ودكتاتوري بامتياز، كيف راهنوا إذن على ما لا يمكن المراهنة عليه، رغم علمهم جيدا بأن النظام الإيراني لا يمكن أن يقبل بوجود أي تيار معتدل حقيقي؟ والأكثر غرابة في الموضوع أنهم مازالوا يمارسون عملية الخداع وترويج الأخبار عن احتمال “انتصار” الاعتدال وكأن النظام قد استجاب لهم فعلا، واختار الإصلاحي الذي سيسهّل لهم المساومة، دون الالتفات إلى اتساع دائرة تدخلاته وحروبه في شتى أنحاء الأرض حتى وصلت وتمركزت في «الحديقة الخلفية» للولايات المتحدة ذاتها.
وعلى ذكر التدخلات ولغز التصميم على الاستمرار في نهجها، الكثيرون لا يعرفون جيدا كيف تُسيّر الأمور في ظل النظام الإيراني. وجُلّ ما يعرفه معظم الناس أن الولي الفقيه هو أعلى رجل دين يتولّى عملية الإرشاد، وهو قائد الثورة وزعيم النظام الذي يُشرف على سير أموره، أي أنه ليس رئيسا للجمهورية، ولا رئيسا للوزراء أو البرلمان، وطبعا ليس قائدا للجيش وغير ذلك من المواقع الرسمية.
الخميني بادر عرفات والوفد المرافق له بسؤالين غريبين كان أولهما: إذا وقعت الحرب بيننا وبين أي بلد عربي، مع من تقفون يا ترى؟ ولمّا لم يسمع الجواب الذي يرضيه عاد إلى توجيه السؤال الآخر: لماذا لا تطلقون على منظمة التحرير الفلسطينية اسم منظمة التحرير الإسلامية الفلسطينية؟
لكن الحقيقة غير ذلك على أرض الواقع، وحتى في نص دستور الجمهورية الإسلامية. فمن يطّلع على خارطة سُلَّم المسؤوليات الهرمية والمدنية والعسكرية والدينية المثبتة فيها، سيجد أن الولي الفقيه هو من الناحية العملية رئيس الجمهورية والنواب والوزراء، وحتى قائد الجيش والمخابرات وهيئة المستشارين والسلطة القضائية… إلى آخر سلّم المسؤوليات. فهل هناك أي نظام في العالم، سواء أكان ملكيا أم جمهوريا، أكثر دكتاتورية ومركزية محصورة بما يمثّله تفرّد الوليّ الفقيه بكل سلطات الدولة؟
حتما لا. ومع ذلك، لا أحد يسلّط الضوء على هذا الجانب، ويوضّح بجرأة خلفيّته الفاشية الاستثنائية بالنسبة لدمج السلطة السياسية بالسلطة الدينية أيضا، كي يكسب الولي الفقيه بالإضافة إلى شرعيته الدينية المطلقة شرعية كل من الثورة والنظام في آن واحد، لأجل تحقيق هدفين يرى فيهما استمرار بقائه وتقوية قدراته داخليا وخارجيا وهما: قمع الشعب بصورة عامة وتصفية المعارضين بشكل خاص، ثم اعتماد نهج «تصدير الثورة» المعني به التطرف والإرهاب إلى الدول الأخرى.
وسعيا إلى تحقيق هذا المبتغى، أحدث الوليّ الفقيه مؤسسة سُمّيت “جامعة المصطفى العالمية” في مدينة قم لتلقين الطلبة الأجانب مزايا نظامه. فإذا علمنا أنه قد درس فيها حتى الآن حوالي خمسين ألف طالب من 108 بلدان في العالم من جنوب شرق آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية وغيرها لأدركنا عندها مدى التأثير الذي يطرأ على هؤلاء في مجال تعميم سياسة تصدير التطرف والإرهاب إلى العالم.
أما الهدف الأول من هذه الصيغة فيستند إلى استراتيجية تقول إن النظام الإسلامي الإيراني لا يقوى على البقاء ما لم يعمل على خلق كيانات ودويلات مماثلة له كي تُشكل عائقا بينه وبين خصومه الآخرين، أي تُشكّل درعا واقيا من وصول الضربات الموجّهة إليه. ويكفينا للدلالة على ذلك أن ننظر إلى وضع لبنان اليوم وإلى الدور الذي يلعبه حزب الله بالوكالة عن هذا النظام.
العراق هدية أميركا لإيران
من هذا المنطلق جاء تجنيد القوى المتطرفة في العالمين العربي والإسلامي لتحقيق هذا الهدف، بدءا من العراق ولبنان -اللذين يشكّل الشيعة فيهما أغلبية عدديّة- إلى أفغانستان وكل دول شمال أفريقيا، بالإضافة إلى السعودية واليمن ودول الخليج ولا سيما البحرين. ثم باقي الدول الأفريقية وحتى أميركا اللاتينية.
مزايا استعمارية بامتياز
يبقى من البديهي القول إن العراق كان المرشّح الأول لتطبيق استراتيجية “تصدير الثورة”. صحيح أنه هو الذي بدأ بشنّ الحرب عام 1980، إلّا أن ذلك لم يكن من الممكن أن يحدث لولا أن نظام الخميني هو الذي مهّد بعدوانيته الأرضية السياسية لتلك الحرب، لذا لم يكن غريبا، عندما أعلن العراق عن استعداده لوقف الحرب بعد غزو لبنان من قبل إسرائيل في العام 1982، وقام بسحب قواته إلى خارج الحدود الدولية، أن يرفض الخميني التجاوب ويعلن تمسّكه باستمرار الحرب حتى سقوط النظام البعثي، ثم يقوم برفع شعار “فتح القدس عبر كربلاء” قبل أن يضطرّ إلى التراجع وإعلان القبول بوقف الحرب.
ولما لم تَطُل الفترة التي تلت انتهاء هذه الحرب، إذ تلتها قضية احتلال الكويت وهزيمة العراق أمام الحرب الدولية التي شنّت عليه لتحريرها، فقد شكّل هذا الحدث المروع منطلقا لمصلحة النظام الإيراني، حيث اتسعت دائرة تدخلاته في شؤون دول الجوار وحتى الأبعد منها بكثير.
وقام الخميني على أثر ذلك بإصدار قرار تأسيس المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق الذي انبثق عنه جناح عسكري سُمّي بقوات بدر تمتّع بدعم خاص إلى أن وقع الاحتلال الأميركي للعراق.
وكانت النتيجة التي رأيناها بعد مرور فترة على هذا الاحتلال أن قامت الإدارة الأميركية بتقديم العراق كاملا على طبق من ذهب لإيران. وعلى شاكلة ما يعكسه التدخل الإيراني في العراق ها نحن نرى مثيله على الأرض السورية وإن اختلفت الوسائل والتفاصيل.
فلسطين.. دعمها قولا وخيانتها فعلا
فلسطين لم تسلم هي الأخرى من التدخل وكانت في سلّم المستهدفين الأوائل، مع أن أول زعيم قام بزيارة إيران بعد أربعة أيام فقط من سقوط الشاه كان الرئيس الراحل ياسر عرفات، وإذا كان قد أعرب عن ارتياحه لهذه الزيارة، إلّا أن ذلك لم يمنع -حسب مصادر فلسطينية مطّلعة- سماعه وقتها ما يؤشّر منذ البداية إلى طبيعة النظام الإيراني وتطلّعاته. فبعد كلمات الترحيب والثناء المتبادلة كالمعتاد، بادر الخميني عرفات والوفد المرافق له بسؤالين غريبين كان أولهما: إذا وقعت الحرب بيننا وبين أي بلد عربي، مع من تقفون يا ترى؟ ولمّا لم يسمع الجواب الذي يرضيه بعد أن فوجئ عرفات بهذا السؤال وأومأ إلى أحد أعضاء الوفد بالردّ عليه.
عاد إلى توجيه السؤال الآخر في محاولة لتغيير الجو قائلا: لماذا لا تطلقون على منظمة التحرير الفلسطينية اسم منظمة التحرير الإسلامية الفلسطينية؟ فأجابه أبوعمار “أنتم تعرفون أن رمز فلسطين هي القدس، وأن القدس مدينة الأديان السماوية الثلاثة، ولا أريد بالطبع أن أخسر دعم المسيحيين واليهود -من غير الصهاينة- لقضية شعبنا”.
الجواب جاء منطقيا وفي الصميم، إلّا أن الخميني لم يعلّق عليه. لكن ما كشفته الأيام وأثبتته الأحداث لاحقا يؤكد أنه كان في مخطّط الخميني منذ بداية عهده مصادرة القرار الفلسطيني لصالح ما يريده تحت لافتة الإسلام وشعارات التصدّي الرنّانة التي انفضحت أمام الأفعال المناقضة لها طوال ثلاثة عقود ونصف العقد، والتي كان أولها في بداية ولايته إعلانه يوم الجمعة الأخيرة من شهر رمضان المبارك «يوم القدس العالمي»، بينما قام وقتها -أي في العام 1980- بإرسال نائب وزير دفاعه إلى إسرائيل لتوقيع اتفاقية لشراء السلاح منها، وهذا ما كشفته المقاومة الإيرانية لاحقا في وثائقها.
إذا كنا نفهم أن هدف تركيز حكام طهران على التدخل في دول الجوار والمنطقة يأتي بالدرجة الأساس من منطلقات حب السيطرة وتوسيع دائرة النفوذ، وهي بالمناسبة مزايا استعمارية بامتياز، فإن السؤال: ما هي الأهداف التي يُريدون تحقيقها من وراء مدّ أنوفهم إلى أبعد نقاط الأرض وأقربها من الولايات المتحدة، مثل كوبا وفنزويلا وكولومبيا وبوليفيا ونيكاراغوا، إلى آخر الدول التي استمالوها بالمال وتحقيق المصالح الاقتصادية والسياسية تحت لافتة التحالف ضد الشيطان الأكبر ومواجهة الإمبريالية المعادية للشعوب، مقابل أن يكون لهم موطئ قدم في ما وراء المحيطات داخل بلدان أميركا اللاتينية؟
رئيس وزراء الجزائر الأسبق