15 تموز2016.. ولادة ديكتاتور ونهاية ديمقراطية
عبدو شامي/22 تموز/16
نجح الشعب التركي في إفشال محاولة انقلاب عسكري دموي غبي على السلطة السياسية المنتخبة ديمقراطيا والمتمثلة بحكومة حزب العدالة والتنمية الحاكم منذ عام 2002 بزعامة الرئيس التركي رجب طيب إردوغان، قامت به مجموعة صغيرة خائنة في الجيش وذهب ضحيته نحو 300 قتيل. انقلاب ليل 15/7/2016 والذي لم يعمّر أكثر من 6 ساعات أنهته تلبية الشعب النداء التاريخي الذي أطلقه إردوغان عبر محطة تلفزيونية بالنزول الى الشارع والتصدي للانقلاب، وحسْم المعارضة قرارها المشرِّف بالوقوف الى جانب الديمقراطية رغم عمق خلافاتها مع الحزب الحاكم، لتستعيد الحكومة سلطتها كاملة مع ساعات الصباح الأولى ويصبح إردوغان بطلا إسلاميا تاريخيا في نظر كثيرين. لكن هل حقا فشلت محاولة الانقلاب أم نجحت؟
في التعامل مع أي حدث كبير لا بد من التروّي ريثما تتكشّف الأمور وتتوضّح أبعادها إذ غالبا ما تكون تحاليل الساعات الأولى مخدَّرة بالعواطف والحماسة وبالتالي بعيدة عن الصواب ومجافية للحقيقة. اليوم، وبعد مرور 8 أيام على محاولة الانقلاب العسكري بدأت الأجوبة على السؤال أعلاه تتوافد بقوّة: نعم، لقد نجح الإنقلاب وإن فشل! فشل الانقلاب العسكري الغبي في نقل تركيا الى ديكتاتورية العسكر، لكنه نجح في تسريع وإنجاح الإنقلاب المدني الإردوغاني الديكتاتوري البطيء على الديمقراطية؛ انقلابا فعليا بدأه العسكر الخائن وخطفه الحزب الحاكم ليس انتصارا أو دفاعا عن الديمقراطية كما يروِّج الإعلام التركي إنما ترسيخا لنفوذ حزب وأحلام فرد يمتطي الديمقراطية للوصول الى التسلّط والاستبداد عبر إلغاء المعارضين و”أخونة” كافة مناصب الدولة من الحاجب الى الرئيس بحيث يكون ولاءهم للحزب لا للدولة. أين العجب وبطلنا إردوغان في صميم جماعة “الإخوان المسلمين” الماهرة في ركوب موجة الثورات (واليوم الانقلابات) وسرقتها تحويلها لخدمة مصالحها وأجندتها الخاصة، وهو يمضي مسرعا على خطى استبدادية الرئيس المصري المخلوع “محمد مرسي”، وكأن الزعيم التركي لم يتعلّم شيئا من درس إخوان مصر، وكأن شبقه للنظام الرئاسي ونزعته الشمولية وبذخ قصره العملاق وجنون عظمة المشهديات المسرحية والأزياء الملحمية التي تواكبه في اطلالاته، وهتافات المدغدَغين عاطفيًا من أنصاره… كل ذلك أنساه أنه حتى لو كان يحمل منهجًا صحيحا فإن تطبيقه السريع بأساليب استبدادية ملتوية ومستفزّة سينقلب ضده ليثور الشعب عليه بَعُد موعد تلك الثورة أو قَرُب.
ففي اليوم التالي للمحاولة الفاشلة اعتبر إردوغان “الانقلاب هدية من الله لأنها ستكون سببا في تطهير جيشنا”؛ غير أن نزعته الاستبدادية حولّت تلك النعمة الحقيقية نقمة، فبدلا من أن تقتصر المحاسبة على الانقلابيين والإرهابيين الخونة من الجيش استغل بطلنا الأمر لإحكام قبضته على كافة مفاصل الدولة فاجتث الأخضر واليابس من معارضيه وزرع مكانهم محازبيه وذلك في كافة القطاعات العسكرية والتعليمية والقضائية والإعلامية والإدارات الحكومية لتكون حصيلة حملة التطهير غير النهائية اقتلاع نحو 55 ألف موظف رسمي في 4 أيام بين إقالة أو تسريح أو تعليق أو اعتقال، فضلا عن فرض حال الطوارئ حماية للديمقراطية لا تسهيلا لعميلات القمع والاستبداد! فما دوافع هذه الحملة الشمولية؟
فاز إردوغان بالانتخابات الرئاسية وجعل رئيس الوزراء دمية بين يديه، لكنه ما لبث أن أدرك انكشافه أمام الشعب وأن الديمقراطية لم تعد تخدم أحلامه بعد خسارة حزبه الانتخابات النيابية في حزيران 2015؛ اعتمد استراتيجية إفشال مساعي تشكيل حكومة ائتلافية كي تعاد الانتخابات بعد ثلاثة أشهر من حملة انتخابية كان وقودها تكثيف ضرب الأكراد الذين حرموه الأكثرية وإثارة العصبية القومية وتخويف الشعب من الإرهاب في حال خسارة حزبه مجددا، فاستعاد الأكثرية التي تؤهله الحكم بمفرده وعَينُه على تعديل دستوري يحوّل النظام رئاسيا بصلاحيات كاملة وهو ما لم يكن يطالب به عندما كان رئيسا للحكومة ما يؤكد نزعته الى التفرّد بالحكم. هو في أحسن أحواله لا يمثل أكثر من 52% من الشعب، أما البقية فناقمة عليه؛ الناقمون لا يقتصرون على العلمانيين كما أن أسباب النقمة لا تنحصر بمعارضة العلمانيين أسلَمة القوانين -والتي نرى أن تعديلها متى ما تمّ ديمقراطيا من أكثرية نيابية فلا مكان لاعتراضهم- بل تتعداها قمعا وفسادا وسياسات خاطئة وبيع كلام وفقدان صدقية.
داخليًا: حوّل إردوغان تركيا الى أكثر الدول قمعا للصحافيين والأكاديميين، أقفل صحفا ومحطات تلفزيونية وسجن صحافيين وحجب موقعَي تويتر ويوتيوب. عام 2013، أظهرت تسجيلات صوتية لمقربين من إردوغان بما فيهم نجله تورطهم في صفقات فساد واستغلال نفوذ، لكن لا تحقيق ولا محاسبة بما أنه أحكم القبضة على القضاء وسيّسه، فيما يُساق معارضوه بالجملة الى السجون. وبلغت نقمة المعارضين أشدها مع قمع تظاهراتهم في ميدان “تقسيم” وفضها بالقوة في حزيران 2013.
داعشيا: برزت اللعبة المزدوجة الخبيثة التي لعبها مع داعش بغضّه الطرف عن عبور عناصرها حدوده ورفضه قتالها الى أن غدرت به بتفجيرات في الداخل التركي فأعلن حربه عليها. وفي 2/12/2015، أظهرت أفلام من الأقمار الاصطناعية عبور أرتال كبيرة من صهاريج النفط الداعشي الحدود التركية حيث يتم شراؤه وتهريبه، وقد اتهمت روسيا إردوغان وصهره ونجله بالتورط في تجارة النفط الداعشي.
سوريًا: دعم الثوار السوريين بالحدود المسموحة دوليا بحيث لا تتفوّق على عصابات الأسد، وتعامل مع الثورة شعبويا فأعلن أن “حماه” خط أحمر ولن يسمح بسقوطها فسقطت، كرّر الأمر نفسه مع حمص فسقطت، ثم مع حلب وهي تكاد تسقط، اكتفى بمشاهدة داعش تجتاح كوباني وإذ به يرى أعداءه من داعش والأكراد داخل داره. هاجم دور إيران في سوريا واتهماها إياه بدعم داعش، ثم ما لبث أن كان أوّل المهنئين بالاتفاق النووي عاقدا صفقات معها بالمليارات. هاجم روسيا على دعمها الأسد وأسقط قاذفة لها انتهكت مجاله الجوي في 24/11/2015، رفض الاعتذار وطالب روسيا بتقديمه ثم ما لبث أن اعتذر منها في 27/6/2016 بعد أن استثمر العملية شعبويا وبعد أن آلمته العقوبات الروسية. استغل موجات اللاجئين المتدفقة الى تركيا، فغض الطرف عن مراكب الموت ليبتز أوروبا فانتزع منها 6 مليارات يورو مقابل ضبط حدوده البحرية واستعادة بعض المهاجرين في آذار 2016. أعلن في 3/7/2016 عزمه على منح الجنسية التركية لـ300 ألف سوري من ذوي المؤهلات بحجة خدمة مصالح تركيا فيما هدفه ضمان أصواتهم في أية انتخابات قادمة. أبدت حكومته نهاية 2015 استعداد تركيا للقبول بدور رمزي للأسد في السلطة الانتقالية لمدة 6 أشهر بعد أن عارض منذ بداية الأزمة السورية أية عملية انتقالية تشمل الأسد.
اسرائيليا: في خضم أزمته مع إسرائيل على خلفية قتلها 9 أتراك كانوا على متن سفينة تنقل مساعدات لغزة عام 2010، أبلغه رئيس استخباراته في 29/8/2011 أن “إسرائيل هي أفضل جهة تتعاون مع تركيا في مجال مكافحة الإرهاب، وأنها تتقاسم وإياها بعض المعلومات الاستخبارية أخيرا رغم الأزمة القائمة بين البلدين”. أما البضائع التركية فكان يتم شحنها بحرا الى اسرائيل لتصدّر منها الى الأردن ثم الى الخليج وذلك منذ أن تعذّر سلوك طريق سوريا باندلاع الثورة. قال إردوغان في 3/1/2016 إن “تركيا بحاجة الى إسرائيل كما أن إسرائيل تحتاج الى تركيا” ليتم الإعلان في 27/6/2016 عن توقيع اتفاق بين الطرفين بعد اعتذار اسرائيل ودفعها تعويضات لعائلات الضحايا يعيد العلاقات على كل المستويات بما فيها الأمنية وأعلن عن مد خطوط لنقل الغاز من الآبار الإسرائيلية عبر البحر كي يصدّر الى أوروبا عبر تركيا، لتعود تركيا كما كانت على الدوام الحليف الأساسي لإسرائيل في المنطقة.
ليس مهمًّا من يقف وراء الانقلاب الفاشل أهو جنرال علوي مؤيّد للأسد أم عدو إردوغان اللدود وشيخه السابق فتح الله غولن أم أميركا أم مؤامرة دولية.. المهم أن الانقلاب نجح وإن فشل؛ لقد أبهر إردوغان العالم بانتشاله تركيا اقتصاديا من الحضيض الى القمة، وها هو يبهره اليوم بنزعة شمولية بدأت تقضي على ما حققه من إنجازات ليكون عنوان تركيا 15/7/2016: ولادة ديكتاتور ونهاية ديمقراطية.