وثيقة تاريخية تنشر للمرة الأولى عن يوسف بك كرم حول الصلح بين إهدن وبشري محفوظة في مكتبة المؤرخ الخوري يوسف ابي صعب
الأحد، ۱۲ كانون الثاني ۲٠۱٤ /موقع مؤسسة يوسف بك كرم
المحامي شارل ي. أبي صعب
الحمد الله الذي خصص لكل امة رجالاً يقفون في سبيلها الاموال والاعمار، وأنبت في كل بلاد أبطالاً يؤيدون الحق ويقاومون البطل بالقلم أو اللسان أو السيف البتّار، وأتى كل عصر نوابغ يرفعون أعلام مجده بما أتوه من عظائم الأعمال وما تركوه من جلائل الآثار، فكانوا حماة الوطن، وقادة الأمم في كل زمن. وبعد فإن خير ما انفق العاقل فيه أيامه عمل يكون من ورائه نفع بني وطنه. وأفضل ما اشتغل به الكاتب لخير قومه كتاب ينشر ما طوي من مفاخرهم. ويخلد ذكر نابغة من نوابغهم. تكون حياته أفضل قدوة وأشرف مثال وأبلغ واعظ. إذ الأمة محتاجة في كل عصر إلى روح عالية تطلع في سمائها طلوع النجم الزاهر. وتشرق في نفوس أبنائها إشراق الشمس فتبعث فيها روح الهمة والشجاعة والعزيمة. وتقومّ الاخلاق المعوجّة. وتصلح الآداب الفاسدة. وتعلّم الجميع اداء الواجب لله وللانسانية.
ولقد كان يوسف بك كرم روحاً من تلك الأرواح العالية. ونابغة من نوابغ الشرق. تمخّض به لبنان زماناً قبل أن ولده. حتى إذا وجده لم ينعم به طويلاً ففقده وهو أشد حاجة إليه. امتاز هذا البطل بالبسالة وعلو الهمة وبعد النظر. وتفرد بالمروءة والوطنية والاستقلال. فطارت شهرته وملأ ذكر شجاعته الأفواه والأسماع. حتى صارت كلمة “بطل لبنان” علماً خاصاً يُعرف به دون سواه. ولا نغالي إذا قلنا إنه كان وحيد دهره. وفريد عصره ومصره. ظهر في لبنان فكان من أعظم حماته وأكبر ابطاله. ولم يزل يجاهد في سبيل بلاده حتى قضى شهيد الواجب وذهب ضحية الوطنية.
هذا ما سطره المؤرخ الخوري اسطفان البشعلاني في كتابه القيم التاريخي عن نشأة يوسف بك كرم وشهرته وجهاده في سبيل لبنان، والثورة التي قادها حفاظاً على بقاء هذا البلد وديمومته، إضافة الى آثاره الأدبية ومذكراته ورسائله ومشاريعه، والذي دعاه “لبنان ويوسف بك كرم” حيث كتب بخط يده المؤرخ الخوري يوسف أبي صعب العديد من الفوائد والملاحظات التاريخية عن هذا الكتاب، إضافة الى وضعه فهرساً للرسوم النادرة، وفهرساً آخر لبعض المواد المهمة التي وردت فيه أيضاً.
الفوائد التي وضعها المؤرخ الخوري يوسف ابي صعب حول كتاب” لبنان ويوسف بك كرم”
ذكر المؤرخ أبي صعب مراجع عدة موثقة عن يوسف بك كرم ننشر بعضاً منها، وهي ذات فوائد جمة نظراً لما تحتويه من وقائع تاريخية ومعلومات غنية بالمصادر. وقد خطها بيده المؤرخ ابي صعب على الصفحة الاولى من تاريخ ” لبنان ويوسف بك كرم” :
1- كتب صاحب مجلة (الحارس) امين الغريب في عددي ت1 – ت2 1932 السنة العاشرة كلمة عن يوسف بك كرم واتبعها بمقالة عن كرم لعيسى اسكندر المعلوف كان استنسخها عن مؤلفها يوسف أبي فاضل من عين عنوب … ثم خطاب المطران مبارك في ازاحة الستار عن تمثاله في إهدن. ورواية شهيدة العفاف ويوسف بك كرم نقلاً عن جريدة العلم … وذلك من صفحة 51 الى 83 من الحارس.
2- ثم ان عادل بن منح الصلح نشر كتاباً سنة 1966 عنوانه “سطور من الرسالة” أو تاريخ الحركة الاستقلالية التي قامت في بيروت ودمشق 1877 وطلبهم تولية الأمير عبد القادر الجزائري أميراً على البلاد العربية. وقد أيدّ هذه الحركة يوسف بك كرم بانضمام المسيحيين إلى الوحدة العربية الكونفيدرالية برسائله التي أرسلها إلى الأمير عبد القادر ونشرها الكتاب المذكور…
وقد قرظت مجلة “الصياد” في 16 حزيران 1966 عدد 113 هذا الكتاب بارزة مقاصد يوسف كرم الحقيقية وكشف النقاب عن ثورته القومية ومفهوم زعامته الحقيقية وبعد نظره مدركاً لمعاني الحرية والحق والاستقلال والمساواة.
3- طالع تقريظ هذا الكتاب المجلة البطريركية 1931: 305 و 354. ومما جاء في هذه المجلة أن كرم لما ترك لبنان لم يصحبه من رجاله سوى أربعة خلافاً لما ورد في تاريخ البشعلاني هذا أنهم كانوا ثمانية ص 496.
4- قرظت مجلة المعارف السنة التاسعة 1926: 162 ودعته “تاريخ المسألة اللبنانية “…
5- راجع مجلة المشرق المجلد 23: 875 والمنارة 2: 716 حيث انتقدتا تاريخ لبنان ويوسف بك كرم.
6- وفي الصفحة 449 من كتاب “لبنان ويوسف بك كرم” والتي تعود إلى الفصل الخامس منه، تناول المؤرخ البشعلاني تفاصيل الموقعة الخامسة وهي موقعة وادي النسور أو عيناته (الخميس 22 آذار 1866 م). يضيف المؤرخ أبي صعب عن الأمير سلمان الحرفوش وهو امير شيعي من بعلبك وكان حاكماً على اقطاعة سهل بعلبك وقد أعطاه يوسف بك كرم مبلغاً كبيراً من الذهب لينفقه على حاجاته، ولم يطل الأمر حتى غدرت به الحكومة العثمانية واعدمته.
فلقد دون المؤرخ أبي صعب بخط يده على الصفحة المذكورة (449) ما حرفيته:
”طالعنا في كتاب “حفيف الأرز” ليوسف أيوب الحتي المطبوع في ريو دي جانيرو ص 63 وص 118 عن الذي وشى بالأمير سلمان هو حسن درويش. والحكومة التركية قتلته بنزع خصيتيه، ومقتله كاد يؤدي إلى حرب بين فرنسا وتركيا لأن الأمير لما دخل السجن طلب مساعدة القنصل الفرنساوي في الشام لأنه من أعوان يوسف بك كرم، فاحتج القنصل وطلب عقاب السجناء وباخراج جثة الامير ودفنها باحتفال لائق”.
وثيقة تاريخية عن يوسف بك كرم محفوظة في مكتبة المؤرخ الخوري يوسف أبي صعب تعود الى العام 1857
تكتنز مكتبة المؤرخ الخوري يوسف أبي صعب بين وثائقها التاريخية، بوثيقة تبين كيفية إجراء الصلح بين يوسف بك كرم وبطرس بك حنا ضاهر، يعود تاريخها إلى سنة 1857 في دير مار قزحيا بحضور البطريرك بولس مسعد، وازالة الخلاف الذي حصل بين أهالي بشري وإهدن، وهي محفوظة في الصندوق رقم 1 – الغلاف رقم 3 – وثيقة رقم 3 – من الحجم الوسط (طول 20 سنتم × عرض 10 سنتم) مال لونها إلى الاصفرار لقدم عهدها ننشر ما ورد في مضمونها حرفياً:
غب لثم أناملكم الطاهره والتماس صالح أدعيتكم البارة وفرط لواعج الأشواق الوافرة للحظوى بمشاهدتكم الكريمة في كل خير. وسؤال كريم خاطركم نسأل الله أن تكونوا حايزين تمام الرياضة، أنه لقد بلغنا خبر توفي المرحوم عمكم الخوري حنا وقد غمنا ذلك جداً، أولاً لفقده ثانياً لتكديركم وانكسار خاطركم، لكن من حيث أن الموت هو كأس لا بد من شربه، والمرحوم قد كان متصفاً بالخصال الحميدة، فلا يجب الحزن لفقده بل يجب التسليم لمشيئة الباري والرضا بأحكامه، ونتمنى أن يكون تغمد نفسه الأحضان الإبراهيمية صحبة الأبرار والصديقين، وأن يكون العوض بسلامتكم وسلامة أنجاله، وأن يكون خاتمة لأحزانكم، ونحن بوقته موجودون بدير قزحيا بخدامة غبطته وسيادة مطراننا، لأنهما متعاطيان قضية الصلح بين أهالي إهدن وبشري، وقد حضر جناب البيكان يوسف كرم وبطرس حنا ضاهر وتصالحا قدام عبطته في عين بقرة، من سبعة أيام، والآن صايرة المباشرة التقرير عن المسلوبات من الطرفين تحت الحرم الكبير المحفوظ حله لسلطان غبطته، ليكون التقرير الواقع كما وكيفاً دون زيادة ولا نقصان، وقد رجع الخوارنة الذين كانوا في بشري ومعهم القوائم التي يبان أنها ليست بباهظة بل بموجب الحق، وهذا المساء كنا موعودين برجوع الخوارنة الذين كانوا بإهدن فما رجعوا والباين، أن هؤلاء قروا بكل شيء، وهو محفوظ فلذلك صاير الأمل الكبير بالصلح الصحيح، لاظهار مسارات الحب من الطرفين، فهذا ما لزم راجين اتحافنا ببث انشراحكم ودام بقاؤكم.
23/ت1/57 م أخوكم
الخوري يوسف الدبس
ورجوع التلاميذ للمدرسة صار قريباً يصدر امر غبطته به لكن العايق من الماء.
وقد خطّ المؤرخ الخوري يوسف ابي صعب على ظهر هذه الوثيقة ما حرفيته:
“رسالة من الخوري (المطران) يوسف الدبس لأحد كهنة فغال يدعى القس أغسطين ابي صعب اللبناني، كما رجّح لنا نسيبنا الخوري حنا شديد الفغالي يعزيه بموت عمه الخوري يوسف حنا بطرس أبي صعب ، كان غنياً وجيهاً محترماً ثم يخبره عن إجراء الصلح بين يوسف بك كرم وبطرس حنا الضاهر من بشري، أي تصالح أهالي بشري وإهدن 1857″
(طالع كتاب لبنان ويوسف بك كرم للخوري اسطفان البشعلاني ص 236 عن خلاف بشري واهدن.)
الخوري يوسف أبي صعب
الحوادث المشؤومة بين إهدن وبشري
يؤلمنا كثيراً وأيم الحق أن ندون الحوادث المشؤومة التي حصلت في العصور الغابرة والسنين الاخيرة بين شعبين شقيقين، اشتهرا بالبسالة والوطنية وقامت على مناكبهما دعائم الدين والاستقلال، وامتزجت دماؤهما في الحروب التي خاضا غمراتها دفاعاً عن الوطن والأمة المارونية. وهذه الحوادث منها ما كانت وليدة الصدف ونتيجة جهل غاشم ابتلي به بعض الجهلة من البلدتين الشقيقتين، ومنها ما أضرمت نارها الأيدي الأجنبية لغاية في النفس. ونحمد الله تعالى على أن هذه الحوادث المؤلمة قد انقضى عهدها نهائياً، إذ أنه من مدة طويلة لم يقع حادث يدمي الفؤاد، والفضل في ذلك يعود إلى رقي شبيبة البلدتين الحديثة وإلى جمعياتها الناهضة وإلى جهود عقلائهما الذين كانوا أبداً يقبحون تلك الأعمال الشاذة كل التقبيح. وإذا كنا أتينا مرغمين على ذكر هذه الحوادث، فكيلا يقال إن تاريخنا مبتور ولكي يتعظ الجهلة بالنتائج الوخيمة التي جرتها تلك الحوادث فيتجنب الخلف مساوئ السلف.
(هذه التوطئة كما وردت حرفياً في تاريخ إهدن القديم والحديث لسمعان خازن- الجزء الاول)
حادثة سنة 1488
وكان أن استفحل أمر اليعاقبة في الشمال بسبب مناصرة عبد المنعم مقدم بشري لهم. فأخذوا ينفثون سموم ضلالهم في الشعب حتى أغووا جمهوراً كبيراً منه. وقد شق على البطريرك بطرس الحدثي أن يرى اليعاقبة يتمادون في غيهم، فارسل إليهم كهنة ورؤساء. كهنة ليردعوهم عن طغيانهم فلم يفلحوا لأن المقدم عبد المنعم تعرض لهم وهدّد بالنفي والقتل كل من يسيء إلى اليعاقبة.
ولما شاهد البطريرك أن الشقاق تفاقم في البلاد ولا من وسيلة لدفع تيار اليعاقبة وضلالهم، وجّه أنظاره إلى الإهدنيين حماة الدين، وطلب إليهم طرد اليعاقبة من الجبة. فنهضوا لمناصبة اليعاقبة غير حافلين بتهديدات المقدم عبد المنعم وأعوانه. وأول عمل أتوه أن طردوا اليعاقبة من إهدن شر طردة بعدما أوسعوهم ضرباً وإهانة. وقد عزّ على عبد المنعم أن يعامل الإهدنيون أصدقاءه اليعاقبة هذه المعاملة. فعقد النية على الإيقاع بهم. فانذر الأهدنيين بأن يرحلوا من البلاد قبل أن يبيدهم ويسلب مقتنياتهم. فافهموه أنه يستطيع أن يفعل ما يشاء وأنهم سيهرقون دماءهم في الذود عن ديانتهم القويمة.
ولما لم يمكنه أن يقتص من الإهدنيين ويشفي منهم غليله، استمد النجدة من أبناء عمه مقدمي بشناتا والضنية، وتمّ الاتفاق بينهم على أن يزحفوا إلى إهدن في يوم واحد وساعة واحدة، عبد المنعم من الشرق ومقدمو الضنية من الشمال. وقد بلغ الأهدنين ما اضمر لهم عبد المنعم من الشر، فتأهبوا للدفاع عن كرامتهم وكيانهم. وقد وضعوا في الليل كميناً في “حمينا” للوثوب على رجال الضنية، وكميناً ثانياً في أسفل جبل مار سركيس في محل يُدعى الآن “دير الصليب” للوثوب على عبد المنعم ورجاله. وزيادة في التحصن حولوا في ذلك الليل مياه نبع مار سركيس وأعين بقوفا على الأملاك الكائنة في تلك المنطقة، فجعلتها بحيرة من الاوحال يصعب على المرء اجتيازها. وقد شاءت القدرة الإلهية أن يكون قدوم مقدمي الضنية سابقاً بضع ساعات عن الموعد المضروب الزحف. فلم ينتظروا قدوم حليفهم مقدم بشري، وهجموا على إهدن في صبيحة يوم أحد. ولما نزلوا برجالهم من “باب البواب” وثب عليهم كمين “حمينا” وأعمل السيف في رقابهم فتشتتوا وظل الاهدنيون يطاردونهم حتى مرجة تولا. وفي تلك الأثناء كان المقدم عبد المنعم زاحفاً برجاله، ولما بلغه ما فعله الإهدنيون بأبناء عمه ورجالهم خاف شر العاقبة، فقفل راجعاً إلى بشري.
حادثة صيف 1845
وفي صيف تلك السنة اجتمع مطارنة الطائفة المارونية في الديمان لينتخبوا خلفاً للبطريرك يوسف حبيش المتوفي. فجاءهم جمهور من البشراويين مدججاً بالأسلحة وأخذ يصيح طالباً أن ينتخب المطارنة المطران يوسف جعجع البشراوي بطريركاً. وكان المسيو بوجاد قنصل فرنسا العام في بيروت حاضراً ذلك الاجتماع ليمنع كل تدخل في الانتخاب. وأذ شاهد ما يريد عمله البشراويون استنجد بصديقه الحميم الشيخ بطرس كرم وطلب إليه أن يحضر ليمنع البشراويين من التمادي بتعدياتهم على المطارنة. فأوفد الزعيم الإهدني في ذلك الليل نجله يوسف بك كرم على رأس أربعين فتى أهدنياً مدججين بالأسلحة، وما لبث أن حضر والده في صباح الغد. وقد انذر يوسف بك البشراويين بالابتعاد عن الديمان. ولما لم يذعنوا جمع رجاله وأمرهم أن يهيئوا سلاحهم للقتال وتقدم نحو البشراويين ينذرهم لاخر مرة بالعودة الى بلدتهم. ولما راوا انفسهم أمام أمر واقع انسحبوا من تلك الجهة، وقد تمّ للمطارنة عندئذٍ أن ينتخبوا بطريركاً في جو ساده السلام والطمأنينة.
ولما كان اليوم التالي جاءت الجماهير والأعيان واخذوا يتداولون بأمر الصلح، فتم لهم ما أرادوا، وجرى الصلح على يد المطران بولس موسي في كرسيه مار يعقوب ثم نزلنا إلى زغرتا. (نقلاً عن مذكرات الشيخ اسعد بولس المخطوطة).
وقد بحثنا كثيراً عن الوثيقة التي نظمها المصلحون ووقعها كل من المتخاصمين، فعثرنا عليها في مزرعة بني صعب عند صديقنا الفاضل الشيخ الياس حصن أبي صعب فقدمها لنا. فاذا هي وثيقة مؤرخة في 19 كانون الأول سنة 1856 يتعهد فيها كل من ممثلي بلدتي إهدن وبشري بأن يبتعدوا عن الأسباب كافة التي من شأنها إضرام نار البغض والضغينة والفتن بين أهالي البلدتين. وهذا هو نص الوثيقة:
”صك مصالحة بين إهدن وبشري“
“إنه بتاريخه لدى شهوده، قد حصلت المصالحة بين جناب يوسف بك كرم وأخيه الشيخ مخائيل وبين جناب بطرس بك حنا ضاهر والشيخ جرجس الخوري ومن تبع الطرفين من أهالي قريتي إهدن وبشري، على الحرب والقتال الذي حصل بينهم، وعن القتلى والمجاريح أيضاً. وتباروا الذمة وتتاركوا كل حق ودعوى يختص بالقتلى والمجاريح والمنازعات. وأقروا الإقرار الصريح بأنه لم يعد لأحد منهم طلب ولا دعوى في شيء من جميع ما ذكر. وقد تعهدوا بأن يكونوا مبتعدين عن كافة الأسباب المغايرة الرضا لحضر الباري تعالى ورضا حضرات ولاة الامور، وأن يكونوا مجتهدين بملاحظة الأهالي أن لا يبدي منهم أسباب مهيجة للفتن والعاج نار الحرب والضغينة بكل جهدهم وإمكانهم، ولأجل البيان بإجراء المصالحة المرقومة والمتاركة وتبرئة الذمة والمسالمة من كلا الطرفين، قد تحرر هذا الصك صورتين لكي يبقى بيد كل منهما صورة. وقد اذنوا بالشهادة عليهم الموضوعة أسماؤهم وأختامهم به تحريراً في 19 كانون الاول سنة 1856.
الامضاء الامضاء الامضاء الامضاء
جرجس عيسى الخوري بطرس حنا ضاهر مخائيل بطرس كرم يوسف بطرس كرم
(جونيه) (كفرزينا) (مزرعة ابي صعب) (سبعل) مطران طرابلس
خطار الشدياق نقولا النخل يوسف الياس يوسف ابي صعب دوميط ابي صعب
(عينطرين) (اجبع) (كفرصغاب)
بيد أن هذا الصلح لم يطل أمده لأن شرشل بك الإنكليزي الذي كان يسعى للانتقام من الإهدنيين للأسباب الانفة الذكر، أخذ يغري البشراويين ويدفعهم إلى تجديد الخصام واعداً إياهم بتقديم كل ما يحتاجون إليه من أسلحة وذخائر حربية. وقيل إنه وعد بأن يتولى قيادتهم بنفسه. ومن جهة أخرى كان قنصل إنكلتره العام في بيروت يساعدهم في كل ما يحتاجون إليه. أما قنصل فرنسة فكان يقول للإهدنيين أن لا يتعدوا على أحد بل أن يدافعوا عن نفوسهم إذا اعتدي عليهم.
وقد بحثنا كثيراً عن الصك الذي جرى بموجبه هذا الصلح، بين البلدين الشقيقين في بكركي ودير قزحيا وكرسي مار يعقوب كرمسده، ولم نوفق بالعثور عليه. وقد عرفنا أن السيد البطريرك بولس مسعد الذي كان يومئذٍ في قصر الديمان، قد حضر بنفسه إلى دير قزحيا وأجرى الصلح بين البلدين بحضور المطران يوسف جعجع والمطران يوسف المريض والمطران بولس موسى ويوسف بك كرم وبطرس بك حنا ضاهر.
هذا ما قاله سمعان خازن في مؤلفه “تاريخ إهدن القديم والحديث” – الجزء الاول، “من انه بحث كثيراً عن الصك الذي جرى الصلح بشأنه بين البلدتين (إهدن وبشري) … ولم نوفق بالعثور عليه، ويضيف بأنه عرف أن السيد البطريرك بولس مسعد قد حضر بنفسه إلى دير قزحيا وأجرى الصلح بين البلدتين…”
فجاءت الوثيقة المحفوظة في مكتبة المؤرخ أبي صعب لتثبت أن الصلح بين البلدتين إهدن وبشري قد حصل في دير قزحيا، بحضور البطريرك مسعد ويوسف بك كرم وبطرس حنا ضاهر … حيث ورد فيها ما حرفيته:
” … ونحن بوقته موجودون بدير قزحيا بخدامة غبطته وسيادة مطراننا لأنهما متعاطيان قضية الصلح بين أهالي إهدن وبشري، وقد حضر جناب البيكان يوسف كرم وبطرس حنا ضاهر وتصالحا قدام غبطته في عين بقرة من سبعة أيام …”،
بحيث نعتبر أن هذه الوثيقة أتت تتمة وتكملة لصك المصالحة بين إهدن وبشري والذي نشرناه آنفاً والمؤرخ في 19 كانون الاول 1856.
وقد أظهر يوسف بك كرم في هذه المواقف الحرجة حنكة واقتداراً واعتدالاً وشفقة على بني جنسه، لا يزال يذكرها له أبناء البلدة الشقيقة بمداد الشكر. وكان سلوكه هذا داعياً لأسف الإنكليز على خسرانهم الأموال التي انفقوها دون جدوى، وعلى خذل عميلهم شرشل بك الذي كان رجال كرم يطاردونه في كل مكان بعد انتهاء الموقعة الأخيرة من هذه الحوادث المشؤومة.
(راجع مفصلاً عن حادثة 1488 وحادثة صيف 1845 وصك المصالحة بين إهدن وبشري وغيرها من الحوادث والوثائق المنشورة عنها كتاب “تاريخ إهدن القديم والحديث الجزء الاول لسمعان خازن – الصفحة 186 ولغاية الصفحة 204).
ونستون تشرشل وعلاقته بحوادث اهدن وبشري
منذ القديم نشهد أن كل فئة وحزب وحتى كل طائفة معنية في لبنان تتستر وراء دولة غربية تعمل على تزويدها بوسائل شتى، وتحت الضغط والإكراه تلبية لمصالحها وحفاظاً على وجودها القسري في المنطقة والاقاليم كافة. ولكن الظروف والنتائج السلبية لهذه التدخلات أثبتت أن هذا الوطن كان وسيظل بأمس الحاجة إلى التفاهم بين جميع أبنائه وطوائفه، وذلك بالاتفاق على ضرورة إعادة بناء هيكلية الدولة اللبنانية، وفقاً للروح الوطنية وحسن السياسة والتضامن في سبيل المصلحة العامة، مستعيدين بذلك نصوص المواثيق والعهود التي كانت تكتب وتنشر منذ القديم بين الأعيان والطوائف والمذاهب، أمثال وثيقة عامية انطلياس، حيث تعهد الاطراف بأن
“يبقوا يداً واحدة يدافع بعضهم عن البعض الآخر وكلهم يدافعون عن الوطن”.
من هذا المنطلق تطرقنا إلى الحوادث التي حصلت بين إهدن وبشري بمناسبة نشر الوثيقة التاريخية المحفوظة في مكتبة المؤرخ أبي صعب عن يوسف بك كرم، وإجراء الصلح بين البلدتين، لا لنستعيد مآسيها ونتائجها الوخيمة، بسبب مؤامرات خارجية وتحريض فئة على أخرى أو بلدة على ثانية، كان هدفها النيل من التعايش والتآخي ومن استقلال لبنان الداخلي؛
بل، لنستذكر ما خطّه المؤرخ أبي صعب في أبحاثه التاريخية عن التعايش من أن “الشعوب تدرّس أبناءها تاريخ أحداثها وثوراتها لا لتثير الأحقاد في صدورهم، بل لتفهمهم غلطات الماضي وأمراضه فيتجنبوها، ونحن بكلمتنا نقصد ما قصده أولئك المصلحون”.
فلما بلغ يوسف كرم سن الشباب، تولىّ حكم الإقطاعة الإهدنية وهي إقطاع أبيه وأسرته “وله في مدة حكومته هذه أعمال تذكر فتشكر، من إجراء عدالة وعفة نفس ومحافظة على الآداب ورعاية دين وتدريب شبّان على الأمة والوطن. قارنًا إلى ذلك كله صلاح سيرة وورع وإيمان حيّ وغيرة على الدين والأداب”، هذا ما وصفه به معاصره وصديقه ورفيقه وعارفه، المثلث الرحمات المطران يوسف الدبس. وهذا الوصف يتضمن خلاصة أعمال هذا الشيخ الإقطاعي. وهو شاهد عيان رأى وسمع وكتب عن معرفة وصدق.
وقد جرى لكرم على عهدة مشيخته حادث على جانب عظيم من الأهمية، لعلاقته بالدول الأجنبية، ظهرت فيه حكمة كرم وعلو همته وشهامته وتدينه. وذلك أن الإنكليز كانوا منذ دخولهم هذه البلاد على عهد زوال الحكومة المصرية والإمارة الشهابية، يعملون على التدخل بشؤون لبنان لأغراض سياسية. وقد حاولوا بسط نفوذهم بين الموارنة عن طريق الدين فلم يفلحوا. وكان تدخلهم هذا بواسطة المرسلين الابروتستان من الإنكليز والأميركان الذين كانوا، بالرغم من عدم ميل الموارنة إليهم وتحريم رؤسائهم التعاطي معهم بالأمور الدينية، يحاولون دخول بلادهم بحجة الرسالة والتبشير بالانجيل.
وأرادوا انشاء مركز لرسالتهم في بلدة اهدن وأهلها على ما هو معروف من الإغراق في دينهم والتشبث الشيديد بعروته الوثقى. فأغروا واحدًا من أهل إهدن واستأجروا منه منزلاً يقيمون فيه. فخشي كرم، وهو يومئذٍ شيخ الإقطاعة ومقدم الإهدنيين وحامي ديارهم دينًا ودنيا، أن يكون وجود الابروتستان في تلك الجهات سبباً لانحراف أبناء الطائفة عن مبادئهم الدينية التي حافظوا عليها من قديم الدهر، وأن يخسروا وديعة الإيمان التي بذلوا دماءهم في سبيلها. فقام لمناهضتهم بالوسائل المشروعة بحيث أنه سعى لصرفهم عن بلدته بطريقة فنيّة لطيفة. وهاك خبر هذا الحادث الخطير نأخذه عن مصادر مختلفة لا نستثني منها كلام الخصم نفسه:
“حديث شرشل بك”: قال اللورد شرشل بك الإنكليزي الذي كان يومئذٍ مقيماً بلبنان”، ومنذ سنتين (1849) قصد المرسلون الأميركيون المقيمون في طرابلس قضاء أشهر الصيف في إهدن. وقد اختاروا لهم منزلاً مناسباً وقاموا ذات يوم بعيالهم وأمتعتهم فوصلوا إلى هناك بسلام. وما لبث أن وصلت البغال التي تحمل الامتعة. فحطُّوا عنها احمالها، وكان الليل قد أقبل وأرخى سدوله على البلدة.
”وما كان يستقر بهم المقام حتى سمعوا صراخ الخوف والرعب. وأخذت الأجراس تدق، ولم يكن لدويها انقطاع. وتألب الأهلون شاكي السلاح يصيحون ويهتفون هتاف الحرب والقتال. وكانوا يروحون ويجيئون كأنهم في بلدة محاصرة. والكهنة يحملون بايديهم الصلبان حتى يخيل للناظر أن هناك هجوماً شديدًا.
”فدهش المرسلون لهذا وظنوا أن الارض زلزلت زلزالها. وحاولوا الخروج من المنزل للاستنباء عما هنالك. ولكن ما كادت تقع عليهم أبصار القوم حتى ردّوهم مدحورين إلى منزلهم. ثم حاصروا الباب ونزعوا السقف وحطموا النوافذ. وكانت المسبّات والشتائم تتساقط وتتصاعد من الافواه حتى ملأت الفضاء.
وقد حاولوا أن يفاوضوهم فلم يقبلوا، وأردوا الاحتجاج فلم يسمعوا بل كانوا يصرخون بأجمعهم “لا نريد رجال التوراة عندنا، إليكم عنا، لا محل للاراتقة هنا، لا تقيموا دقيقة في الضيعة”.
”فقال المبشرون الخائفون: ولكن دعونا نقضي ليلتنا هنا وصباح الغد ننصرف. غير انهم لم يصغوا إلى طلبهم حتى الكهنة لم يرقوا لهم فلا مهلة ولا تأجيل. فوضع المرسلون أمام أعينهم إما أن يغادروا المكان حالاً والا أحرقوا بهم المنزل. ورأوا بأن العين شرار النار التي أُعدت للإحراق عند أول اشارة تصدر. ولذلك فقد كان التوقف والتردد في تلك الأحوال يعدّان جنونًا.
وهكذا فإن المرسلين سافروا من إهدن بعيالهم في ذلك الليل البهيم، وبين الصراخ الشديد والجلبة والغيظ والسخط، ودخان المشاعل المتصاعد، وعادوا من حيث أتوا إلى طرابلس.
”ولم تترك هذه الإهانة دون عقاب. وقد عرض سفير أميركا الأمر إلى حكومة تركيا، واستحصل فرمانًا بما أراد. على أنه من أصعب الأمور إقناع أهل ذلك الجبل، بأنهم تحت حكم السلطان في مثل هذه المسائل. فقد كان جوابهم لمأموري الحكومة الذين طلبوا تعويضًا عما لحق المرسلين من الاهانة والخسارة لقيامهم ليلاً من إهدن، إن صاحوا على رؤوس الملا والإشهاد قائلين “ان سلطاننا هو البطرك”، وهكذا فإن كل سلطة مدنية أو غير مدنية، تزول ولا تُعتبر عند الموارنة امام سلطة الكاهن.
هذا ما كتبه كرم بخط يده يقصّ على بعض الأساقفة ولعله المطران (البطريرك) بولس مسعد حديث ما جرى له في بيروت بهذا الشأن.
(راجع مفصلاً عن هذه الحوادث المشؤومة كتاب “لبنان ويوسف بك كرم” – للأب اسطفان البشعلاني – صفحة 207 وما يليها).