اغتيال أتاتورك
المحامي عبد الحميد الأحدب/النهار/10 آب 2016
محاولة الانقلاب في تركيا، سواء مدبّرة أم صحيحة، كانت المناسَبَة أو الفرصة الذهبية لاغتيال مصطفى كمال الذي بقي بطلاً قومياً في تاريخ تركيا، وأنقذها عسكرياً وحضارياً بعد ما سقطت وزالت في الحرب العالمية الأولى.
كان رجلاً عسكرياً فذّاً، كما كان رجلاً مثقفاً يريد إنقاذ تركيا ليس عسكرياً فحسب، بل حضارياً، إذ أنّ ثقافته الغربية المحضة تجيب عن السؤال الذي طرحه الفيلسوف الفرنسي على عبد الناصر حين زاره في القاهرة، والمقابلة نشرتها “الأهرام” في ذلك الوقت:
“ألا تعتقد يا سيادة الرئيس أنّ الإسلام هو سبب تخلف المسلمين؟”، فأجابه عبد الناصر: “إنني أؤمن بالحديث النبوي الذي يقول: أمّا شؤون دنياكم فأنتم أدرى بها”، وفَهِمَ سارتر أن عبد الناصر يؤمن بأنّ الإسلام دين وليس دنيا، ولكن عبد الناصر لم يخطُ أية خطوة على درب قناعته في خوض معركة الإصلاح الإسلامي، خصوصاً أنّ الفرصة كانت متاحة له، لأنه اختلف مع الإخوان المسلمين الذين حاولوا اغتياله فعلّق مشانقهم.
مصطفى كمال كان غربياً بثقافته فهو لم يسعَ الى حركة إصلاح ديني، بل أجاب عن سؤال جان بول سارتر: “إن الإسلام هو سبب تخلف المسلمين. لهذا تخلّى عن معركة الإصلاح الديني الى حياد الدولة بين الأديان في نظام العلمنة والإنفتاح الثقافي العريض على الغرب، حتى أنه غيّر الحرف التركي من الحرف العربي الى الحرف اللاتيني، وكلّف الجيش التركي من بعده بالسهر على هذا النظام.
وحاول السياسيون الأتراك بعد مصطفى كمال أن يتلاعبوا بتراث مصطفى كمال وفكره ونظامه فكان الجيش لهم بالمرصاد، بانقلابات عسكرية تصحيحية، تحافظ على نظام علماني غربي فيه حرية الأديان وفيه حرية فكرية، وللدين الإسلامي مكانته في جو الحرية والإقتناع، وبقي النظام ديموقراطياً بالإنتخابات، إلاّ أنّ “النظام العام” في العلمنة، وفي دين الدولة، وفي التخلف الإسلامي: الحجاب والطربوش وتعدد الزوجات وللمرأة نصف ما للرجل. كل ذلك بقي خطاً أحمر بحراسة الجيش، وحين حاول السياسيون تجاوز الخط الأحمر لم يتردد الجيش في انقلاب يعلق مشنقة عدنان مندريس، الى أن كان رجب طيب أردوغان ورفيقه غول وهجمة الأحزاب الإسلامية. وبدأت الأحزاب التي ظاهرها ديموقراطي وحقيقتها دينية بالتقدم، وعاد الصراع الخفي بين الجيش والسياسيين!
بقي هناك توازن اخذ يميل الى كفة الإسلاميين، وعاد الحجاب (ومع كان، عادت أخواتها) وظل الأمر يتفاعل الى أن كانت محاولة الإنقلاب الفاشلة الأخيرة التي جاءت الى أردوغان هدية ذهبية من السماء ليُصفّي باسم الديموقراطية القضاء والتعليم والجيش والديبلوماسية والصحافة الخ… ويعيد تركيا الى زمن الأمبراطورية العثمانية بدون امبراطورية، جمهورية أردوغان ديكتاتورية عصرية، المعارضة فيها من صنع السلطة ومؤيدة للسلطة. والأهم أن الامبراطورية بلا امبراطورية، اغتالت مصطفى كمال وصفّت تراثه وأعادت تركيا الى أيام العثمانيين!
أردوغان من معدن برلوسكوني في الديموقراطية وموسوليني في الديكتاتورية، وهو يتجه الى تصادم مع الغرب لهذا زحف على الأعتاب ليعتذر من بوتين “صديقه” الذي “لا تسير سياسة إلاّ سياسته”!
كان بإمكان اردوغان ان يخرج من نظام مصطفى كمال الى نظام محمد علي الكبير الذي فتح أبواب مصر على الغرب وأرسل ألوفاً مؤلّفة من الطلاب ليدرسوا في باريس الطب والهندسة والحقوق والعمران والعلوم العسكرية الخ… ويعودوا الى مصر ويبنوا مصر الحديثة العصرية المدنية الحضارية. فصارت الجامعات المصرية تُخرِّج العلماء وتعطي شهادات تفتح أبواب النهوض بمصر ولا تعطي شهادات فقر حال، كما هو الحال هذه الأيام. فصارت الجامعات المصرية تُخرِّج العلماء أمثال احمد زويل وصار الجيش المصري يزحف ويحتل الشرق كله ويصل الى أبواب إسطنبول ولا يسقط طيرانه في ست ساعات… و… و… ولكن اردوغان اختار الديكتاتورية العثمانية العصرية، وسار على الدرب السوفياتي الذي يقوم فيه المعارضون بدعم النظام ويتحولون الى وظيفة سوفياتية في مساندته.
كان امام اردوغان اذا أراد القضاء على مصطفى كمال ودولته وثقافته ومدرسته أن يقتدي بمحمد علي الكبير فينفتح على الغرب في العالم والنهضة ويحوّل تركيا الى قلعة إسلامية عصرية ديموقراطية تهز الشرق بقوتها، ولكنه حين قضى على أتاتورك اختار طريق موسوليني ممزوجاً بقليل من برلوسكوني.
وضاعت فرص كثيرة، أهمها الإصلاح الديني العصري.