مبــارك الذي أتى بأســـم الشعـــب
ادمون الشدياق/شهادتنا/23 آب/16
في ذكرى انتخاب الرئيس الشهيد الشيخ بشير الجميل رئيسا للجمهورية اللبنانية.
دخول هيكل رهبة الكلام عن البشير، فكأنك تخال العليقة مشتعلة أو كأنك تحاول قياس الخيال فمن أين لقلم وورقة أن يجسدا الحلم الذى ضجّ في ضمائرنا، وجذوة الحماس التي استعرت في شراييننا، وروح المقاومة الطاهرة التي تغلغلت بين ضلوعنا، وبرعم السياسة القومية الذى نبت في ارض لبناننا التي قحلت لزمان طويل قبل بشير الجميل.
نحن الآن ، نشعر اكثر من أي وقت مضى بالفراغ الذي تركه بشير في حياة كل واحد منّا، واكثر من ذلك بالفراغ الذي تركه على صعيد الوطن ككل. ونشعر أيضاً أكثر من أي وقت مضى بأهمية ما كان يقوله ويحلم به ويحاول تحقيقه بشير الجميل. لقد أراد وطنا بحجم الحلم فجعل الحلم جدول أعمال ومخططات للتنفيذ، وإنجازات.
اعظم إنجازات بشير الجميل انه أرانا الطريق التي عبّدها بالدم آلاف الشهداء من قبلنا، وعلّمنا كيف نرفع رؤوسنا ونتطلع الى القضية كمنارة لئلا نضيع في متاهات هذا الشرق المظلمة التي تعبق منها رائحة نتانة كل سياسة في العالم. واعظم من هذا كله انه لقحّنا ضد كل الأمراض التي تنبعث من تلك النتانة، لقحّنا بأقواله، بأعماله وبأعظم ترياق، استشهاده. لقحّنا ضد الاستزلام إلا لقضيتنا ووطننا، لقحّنا ضد الاستعباد والانبطاح وتقبيل أحذية المستعمرين، لقحّنا ضد القبول بالوطن المزرعة والرئيس الذي لا يعّبر عن إرادة الشعب، والشعب وحده.
كان قبل انتخابه قد حدد مواصفات الرئيس الذي يستحق قيادة بلد مثل لبنان، مواصفات الرجل الذي يمكن ائتمانه على ال 10452 كلم2 وعلى ال 6000 سنة من الحضارة فقال:”نريد رئيسا يقيم علاقة متناسقة بين حواس الوطن. ويكون صاحب رؤية وطنية تبلغ حد الحلم، لا صاحب شهوة سياسية لا تتعدى حدود الحكم، نريد رئيسا وقف ولو مرة واحدة أمام قبر شهيد. نريد رئيسا يستعمل أفعال الغضب وأدوات التحذير وأحرف الرفض وأسماء الجزم، يأتي لينقض لا ليكمل، ينقل لبنان من حال التعايش مع الأزمة ومشاريع الحلول إلى حال الخروج من الأزمة وفرض الحلول.”
وبعد 23 آب 1982 قضى بشير 22 يوماً رئيساً منتخباً رسم فيها خطوط لبنان الجديد، لبنان الذي “لن يكون بعد اليوم مكسر عصا، ولا حيط واطي، بل سيكون دولة بكل معنى الكلمة، قادر على حماية نفسه، وعلى حماية مصالحه ووجوده، وعلى حماية أمن أبنائه وممتلكاته، لن نكون مرتهنين لأحد، ولا نرضى بأن يكون أحد وصي علينا، ولا وصي حتى على شبر واحد من ارض لبنان، مساحة لبنان 10452 كلم2 وستبقى كذلك.”
آمن بأن لبنان الحر السيد لا يمكن أن يكون، بوجود جيوش غريبة، وأن وجود هذه الجيوش أو أي جيش رديف يعطل أي دور للجيش اللبناني ويقضي على الحرية والديمقراطية فقال وكأن كلامه نبوءة لوضعنا الحالي:”ولكن أين اللبنانيون الذين ينتخبون رجلاً قوياً مع وجود 30 ألف جندي سوري، وألوف عناصر المخابرات و600 ألف فلسطيني. إن انسحاب الجيش السوري من لبنان ضرورة وشرط لإجراء انتخابات رئاسية نزيهة.”
لقد كان بشير واقعيا على الأرض بقدر ما كان صاحب أحلام عظيمة وكان يؤمن بأن الاحتلالات لا تقتلع من تربة الوطن إلا بسواعد وتضحيات ودماء أبناء الوطن أنفسهم فالسيادة يجب أن تنتزع لا أن تستجدى على أبواب الدول الكبرى فقال:”نحن بتنا المسؤولين عن أنفسنا وعن مصيرنا وعن امتنا، وعن كل ما يجري عندنا تحريراً وسيادة، وكل الأراضي التي ستعود لبنانية. فلسنا ننتظر مساعدة أحد، ولسنا في حاجة إلى أن يموت أحد في سبيلنا، فالتحرير إما أن يكون نتيجة عملنا وتضحياتنا وشهدائنا، وإما أن نكون شعباً غير جدير بالحياة والحرية.”
كان بشير وهو الذي أطلق شعار ال 10452 كلم2 يؤمن إيمان مطلق بلبنان المميز الذي وإن كان محدود المساحة فهو عملاق الحضارة، شمولي الفكر، منعوت بذاته، جذوره في الأزل، فروعه في الأبد. وكان يؤمن أيضاً إيماناً مطلقاً بالشعب اللبناني وتميزه، وبأن شعب لبنان لا يزال الوحيد في هذا الشرق الذي يتمتع بتاريخه حاضراً وبرسالته ماثلة وبتميزه حقيقة ساطعة، ينظر إلى المستقبل على ضوء تراثه الأصيل المميز الذي له من مناعته ما يحّصنه ضد أخطار الزوال الذي يريده له المحتلون والطامعون، وقد عبّر عن هذا الأيمان بقوله:”إن اللبنانيين يتمسكون ببقائهم المميّز في هذا المحيط الجغرافي وهم كنقطة الزيت التي تحافظ على حجمها ولونها وشكلها وكيانها وصفائها إذا ما اختلطت بأي جسم آخر مهما كان حجم الجسم ونوعه وتبقى في رأس الأجسام مهما صغرت هي وكبرت واتسعت الأجسام الأخرى. التاريخ مليء أيضا بأمثلة شعوب رفضت الاحتلال وقاومته ومنعت أن يكون أكثر من احتلال ارض ومساحات من دون أن يتعدى ذلك إلى العقل والقلب والنفس.”
مـع الفكـر البشيـري انتهـت أمـور كثيرة، وولـدت أمـور كثيـرة أيضا.ً
– انتهت مقولة قوة لبنان بضعفه، وولدت نظرية قوة لبنان بسواعد بنيه وبسيادة غير منتقصة وبجيش وطني قوي عسكرياً وعقائدياً.
– انتهت سياسة الغش والماركنتيلية والكذب والتنازلات ولبنان المزرعة، وولد الإيمان بلبنان البلد، لبنان الطهارة والصدق والانتصار للحضارة حتى الاستشهاد.
– انتهت نظرية تفصيل القضية على حجم القائد وطموحاته، وولدت نظرية انتقاء القائد على حجم القضية والوطن.
– انتهت مقولة ان لبنان مؤلف من مسيحيين ومسلمين ويهود …الخ، وولد إيمان راسخ بأن لبنان مؤلف من لبنانيين أخوة بلبنان، لأية طائفة انتموا، طالما هم مؤمنون بلبنان الأبي السيد الحر المستقل الغير منتقص السيادة، الصاهر لكل الحضارات، الرافض لأي جيش أجنبي مهما كان نعته.
بشير الجميل كان المنبه الذي أيقظ الروح اللبنانية العظيمة التي كانت في سبات عميق منذ فخر الدين، كان شمعة احترقت على مذبح لبنان لتنير لنا الطريق، شمعة وإن احترقت قبل أوانها فقد ولدت مضيئة ساطعة أبدية في قلب كل مخلص للبنان باق على الوعد.
وننهي بكلمة لبشير ال 10452 كلم2 تفي الموضوع حقه إذ قال:”إن محاولة الاغتيال، إن نجحت أو فشلت، لن تؤثر على قضية لبنان. إن قضية لبنان باقية ما دام هناك محتّل ومستوطن وإقطاع وكبت واضطهاد، ولقد مات روّاد كثر لهذه القضية بعضهم على الفراش وبعضهم في ساحة الشرف، لكن القضية ظلت تتفاعل وتكبر في الضمير والأرض والعالم وكل اضطهاد لأفكارها وروادها يعّمقها في الوجدان، إني معكم في زمن السلم كما في زمن الحرب، أما العمر ففي يد الله…”(فخامة الرئيس الشيخ بشير الجميل – 27 آذار 1979).