الشرق المسيحي والهويات القومية
أنطوان قربان/ترجمة نسرين ناضر/النهار/1 أيلول 2016
كشفت الثورة السورية التي انطلقت عام 2011، وما أسفرت عنه من تطورات، النقاب عن حقيقة كنّا نفضّلُ التطرق إليها همساً، ألا وهي المأزق الذي تجد الأديان التقليدية نفسها فيه في مواجهة الحداثة وعلمانيتها ورؤيتها للنظام العالمي التي تركّز على محورية الإنسان. أضف إلى ذلك تفكّك الكرة الأرضية الذي تتسبّب به العولمة وهيمنة الشبكات، فنفهم بصورة أفضل تخبُّط الشرق الديني الذي لا يزال عاجزاً عن التحاور مع العالم الحالي ويكتفي بتوجيه خطابه إلى العالم الغابر لماضٍ ولّى. وهذا الكلام لا ينطبق على الإسلام وحسب، إنما أيضاً على اليهودية فضلاً عن الطوائف المسيحية المختلفة في المشرق وخارجه.
إن تجاهل الأزمة العميقة لما يمكن تسميته “القومية الدينية” خطأ فادح في فهمِ الطوائف المسيحية الشرقية التي لم تشكّل يوماً مجموعة متجانسة أساسها التاريخي مثير للجدل إلى حد كبير. تَظهر هذه الطوائف، تاريخياً، في صورة أرخبيل أو مجموعة متداخلة من الشبكات الاجتماعية والثقافية التي تمكّنت إلى حد ما من التعايش مع الأمبراطوريات العربية – المسلمة حيث تتواجد منذ قرون طويلة. في هذا الصدد، يبدو أن القومية الدينية هي المشكلة الأكثر خطورة التي واجهتها هذه الجماعات الكنسية الشرقية، الأرثوذكسية كما الكاثوليكية، منذ سقوط القسطنطينية عام 1453، وهو التاريخ الذي بدأ معه التقوقع على الذات. إذا كان هذا الانطواء يتجسّد في أشكال مختلفة بحسب المكان والحجم الديموغرافي والنظام السياسي القائم والانتماء إلى الطائفة الكاثوليكية أو الأرثوذكسية، إلا أن ذلك لا يمنع أن هناك قواسم مشتركة بين جميع الطوائف التي تعبّر، بدرجات مختلفة، عن هذه القومية بنوعٍ خاص. بعض الجوانب المحدّدة في هذه المشكلة معبِّرة جداً مثل التماهي بين الكنيسة والأمة، والكنيسة والهوية الثقافية – العرقية، والكنيسة والأيديولوجيا القومية، والكنيسة والدولة. يقودنا ذلك إلى نتيجة أساسية تتمثّل في الكنيسة العرقية، لا بل الكنيسة القومية؛ ما يعني ضمناً عجزاً ما عن تصوّر الكنيسة ورسالتها وشهادتها في العالم بمعزل عن الرؤية القومية وعن تاريخ قومي، حقيقياً كان أم أسطورياً.
على سبيل المثال، التماهي بين الكنيسة والأمة واضح للعيان في شكل خاص في أوساط الأرمن، ولا سيما في أوساط الموارنة، في المشرق. في الحالة المارونية، يبدو أن الكنيسة تؤدّي دور حارسة الهوية القومية اللبنانية، المفترَضة أو الحقيقية، بسبب ارتباط الهوية المارونية تاريخياً بالأرض اللبنانية. في المقابل، التماهي بين الكنيسة والعرق أكثر وضوحاً للعيان في الأوساط البيزنطية، الأرثوذكسية والكاثوليكية، لهذا السبب لطالما رغبت هاتان الطائفتان في التمايز من خلال هوية عربية أو عربوفونية تتيح لهما مواجهة الهيمنة الثقافية اليونانية التي تشكّل المهد الذي انطلقتا منه.
هذا الدور الوطني، لا بل المرتبط بالهوية، ظاهرة جديدة في الأرثوذكسية المتوسطية، خلافاً للأرثوذكسية السلافية والبلقانية. قبل الحقبة العثمانية، تجاهلت الكنيسة البيزنطية على الدوام، بفضل الروابط مع السلطة الإمبريالية أو بسببها، “المنطق القومي” في علومها الكنسية كما في نظرتها اللاهوتية الخاصة. لهذا أُدينَ المفهوم المسمّى phylétisme، أو الكنيسة القومية ذات السلطة الكونية التي تتخطى الحدود، واعتُبِر هرطقة كبرى خلال مجلسَين انعقدا في القسطنطينية في أواخر القرن التاسع عشر. لكن يبدو أن ذلك لا يثني، في يومنا هذا، أنصار الربط بين الهوية القومية أو العرقية والكنيسة عن التمسّك باقتناعاتهم.
عبر تبنّي هذا المفهوم الجديد بالمصادفة، يبدو أن الكنائس الشرقية تواجه صعوبات خطيرة في الشهادة لطابعها الكوني، ومسكونيتها لا بل وحدة الكنيسة المنتشرة في العالم. فضلاً عن ذلك، تواجه هذه الطوائف المسيحية الشرقية خطر الابتعاد عن حجر الزاوية في العلوم الكنسية التقليدية، اليونانية – اللاتينية، ألا وهو “مبدأ الرابط مع الأرض” الذي يؤسّس الجماعة الكنسية على مفهوم الكنيسة المحلية القائم منذ ألفَي عام، كنيسة المكان، وليس الكنيسة القومية، كنيسة عرقٍ ما أو كيان سياسي ما. مبدأ الرابط مع الأرض هو أفضل رد ممكن، في الوقت الحالي، على التأثيرات الشاذّة للعولمة.
لهذا قد نُفاجأ ببعض الخطب المناهضة للعرب أو للمسلمين التي تروّجها الشبكات. ويُذهلنا أيضاً أن حلم إرساء السلام في المشرق، من طريق تحالف افتراضي بين الأقليات، يلقى أصداء تعاطف في بعض الأوساط المسيحية. هذه الرؤية دليل على أن صاحبها لا يرى نفسه فرداً مستقلاً، بل مجرد جزء صغير في مجموعة لا يتمتع في صلبها بأي مساحة من الحرية طالما أنه مضطر إلى الامتثال، على الدوام، لسطوة التقاليد الجماعية حيث يبدو أن الحياة الروحية تُختصَر بمراعاة الأعراف والطقوس الدينية. لا تحتاج الطوائف المسيحية الشرقية إلى حماية عسكرية بل إلى استمرارية دينامية لوجودها في الشرق. لا يتوقّف بقاؤها على إرادتها في عدم إحداث أي تغيير في نظام “المِلل” العثمانية القديم حيث بلغ الخلط بين الكنيسة والأمة ذروته. بل إن هذا البقاء يتوقف أولاً على قدرة تلك الطوائف على التوحد، ليس على المستوى العقيدي، إنما على الأقل على المستوى الاجتماعي الثقافي الذي من شأنه أن يفصل الهوية الدينية عن الهوية القومية أو العرقية في مكان معيّن. لعل لبنان هو المكان الأفضل لتحقيق مثل هذا العيش معاً لأنه ينطلق أولاً من الذات.