منعاً لقيام جمهورية تابعة لإيران
سليم نصار/النهار/24 أيلول 2016
على الرغم من رفض العماد ميشال عون وحضه النواب على مقاطعة مؤتمر الطائف، شارك 63 نائباً في الاجتماعات التي بدأت يوم 30 أيلول 1989. وبعد مناقشات ماراتونية استمرت أياماً، خرج المجتمعون بحل يقضي بتقليص صلاحيات رئيس الجمهورية الماروني، إلى إناطة سلطاته الإجرائية بمجلس الوزراء مجتمعاً، وإنما برئاسة سياسي سني.
معنى هذا أن عملية المقايضة في سبيل إرضاء الشارع الإسلامي الذي قاتل مدة 15 سنة، تمت على حساب الرئيس الماروني الذي حُدِّدَ دوره بعبارات إنشائية فارغة أهمها: “رئيس الجمهورية هو رئيس الدولة ورمز وحدة الوطن. يسهر على إحترام الدستور والمحافظة على استقلال لبنان ووحدته وسلامة أراضيه”. أما العبارة المـُضافة بدون معنى أيضاً، فهي التالية: “هو القائد الأعلى للقوات المسلحة التي تخضع لسلطة مجلس الوزراء”.
لذلك علق الرئيس الراحل سليمان فرنجية في حينه على توزيع الصلاحيات بالقول: “يجب على الموارنة المطالبة برئاسة الحكومة، والتخلي عن رئاسة جمهورية دستور 1943 بعدما نزع إتفاق الطائف كل صلاحياته العملية تقريباً”.
ولكن بعدما صوّت مجلس النواب اللبناني على دستور “الجمهورية الثانية”، كما وصفها الرئيس الياس الهراوي، طلب مجلس الوزراء من العماد ميشال عون إنهاء تمرده على الشرعية والإلتزام بإتفاق الطائف. ولما رفض التقيّد بهذا الشرط، حصل ما حصل. وبقية القصة معروفة.
في أيار قبل أكثر من سنتين، انتهت ولاية الرئيس ميشال سليمان. وكجندي منضبط، جمع أوراقه وذهب الى بيته في عمشيت على أمل إنشاء حزب سياسي يسد الفراغ القائم. ومنذ ذلك الحين، حاول 128 عضواً في البرلمان 44 مرة انتخاب رئيس جديد، فلم يفلحوا. والسبب المباشر أن المرشحَيْن ميشال عون وسليمان فرنجية لم ينجح أي منهما في جمع الأغلبية اللازمة حسب القانون. أما السبب غير المباشر فيكمن عند “حزب الله”، الذي يمانع في انتخاب رئيس للبنان قبل جلاء الصورة الأخيرة لبشّار الأسد. أو قبل أن تظهر الخريطة الفسيفسائية التي باشرت تركيا في رسمها كمنطقة عازلة وآمنة في شمال سوريا تمتد فوق مساحة لا تقل عن خمسة آلاف كيلومتر مربع من خلال عملية “درع الفرات”.
في ضوء هذا التغيير المحتمل، خصوصاً إثر العلاقة الوثيقة التي نسجها الرئيس التركي رجب أردوغان مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، يبدو أن ايران غير قادرة على منع تفكك سوريا… وغير مطمئنة الى بقاء الأسد في الحكم.
أمام هذه الاحتمالات، يتوقع المراقبون أن تزداد الفوضى أكثر فأكثر، الأمر الذي يجعل من تنفيذ وقف النار قراراً صعباً. وما يزيد في صعوبة تنفيذه نشاط سبعين منظمة مسلحة تشكل في غالبية أعضائها سبعين في المئة من سُنّة سوريا. لهذا ترى المنظمات أن إتفاق وقف النار يعكس بالأساس محاولة خارجية (روسية – أميركية) ليس للمتخاصمين مصلحة في تطبيقها.
إضافة إلى هذا، فإن تصور روسيا والولايات المتحدة بأن الهدنة الطويلة تحافظ على وحدة سوريا خاطئ وغير عملي. ذلك أن سوريا باتت منقسمة الى كانتونات على أساس ديموغرافي… والأسد يعرف جيداً أنه لولا المظلة الايرانية والروسية المدعومة من مقاتلي “حزب الله”، لكان بقاؤه في دمشق خطراً. لهذا السبب ترى موسكو أهمية خاصة في استمرار وجود النظام العلوي، مع الأسد وبدونه، خوفاً من التفكك والتشرذم، خصوصاً أن أنقرة تسعى بكل الوسائل المتاحة إلى تثبيت نظام سني في سوريا يحمي خاصرتها.
إذن، ماذا ستفعل ايران في حال فقدت نفوذها على الأرض السورية بسبب تشظي المحافظات وخضوع سكانها الى سلطة أمراء الميليشيات السنيّة؟
الجواب متوافر لدى العناصر المتحالفة مع “حزب الله” في لبنان، بسبب رهانها الأول والأخير على استمرار بشار الأسد في حكم سوريا “المفيدة” وغير المفيدة. وقد وجدت هذه العناصر الفرصة متاحة لطرح فكرة تغيير صيغة النظام الذي وزع مسؤولياته بين السنّة والمسيحيين مناصفة.
وهذا ما دفع وزير الخارجية جبران باسيل إلى تفجير قنبلة “الميثاقية” في جلسة هيئة الحوار الوطني، والجلسة الأخيرة للحكومة. وبرر موقفه بتعليق المشاركة على تجاهل أكبر كتلة نيابية ممثلة بـ”التيار الوطني الحر”. وقال: “هناك إستخفاف بالميثاقية وبحقوق المسيحيين التي تتآكل يوماً بعد يوم. فإما أن نأخذ حقوقنا ويتم الإلتزام بالميثاقية، وإلا فالميثاقية كذب، تتحدثون عنها ولا تطبقونها. نحن نشعر بالغبن والتهميش وما نواجه نتيجة إهمال حقوقنا في الشراكة يجعل قضيتنا قضية وجودية. وإذا استمرت الأمور على هذا النحو، لا لزوم لأن نستمر معاً. نحن نمثل أكبر كتلة نيابية مسيحية، ولدينا الحضور الأكبر في الشارع. وتغييبنا لم يعد مقبولاً”.
وردّ سليمان فرنجية بالقول: “في كل مرة تأخذونا إلى مكان، وعندما لا نقف الى جانبكم، نُفاجأ بكم تتحدثون عن الميثاقية. أنتم تريدون فرض رأيكم على الآخرين، ويُمنَع علينا الإعتراض. لذلك عليكم الكفّ عن سياسة الإستئثار والإحتكار. كنا وقفنا الى جانب ترشح العماد عون لرئاسة الجمهورية، وأكدنا دعمنا له بلا شروط. ولما قوبل ترشيحه بالمعارضة، أعلنت ترشيحي للرئاسة. فهل من خطأ ارتكبته؟”.
وانسجاماً مع حملة الإعتراض والرفض، رفع النائب طلال أرسلان صديق بشّار الأسد، حدّة التحدي عندما أعلن وفاة النظام السياسي في لبنان، وطالب بإحيائه من طريق إقامة مؤتمر تأسيسي تشارك فيه كل الأحزاب والطوائف. وتذكر اللبنانيون أن الأمين العام لـ”حزب الله” السيد حسن نصرالله كان قد دعا، في إحدى خطبه عام 2012، الى أهمية عقد مؤتمر تأسيسي بهدف بناء دولة حقيقية.
ورأت جماعة “14 آذار” في تلك الدعوة محاولة جدية لإلغاء اتفاق الطائف، واستبداله بفرض مثالثة شيعية سنيّة مسيحية. واعتبرت أن مطالبة الشيعة محقة، خصوصاً أنهم يمثلون ما نسبته 40 في المئة من الشعب اللبناني. ولكن انتماءهم للوطن اللبناني لا يعفيهم من الولاء الكامل لايران التي يعلنون دائماً حرصهم على الإنسجام مع متطلباتها. وأكبر دليل على ذلك أن مقاتليهم يموتون في سوريا دفاعاً عن نظام لم تتبنَ حربه الدولة اللبنانية. ومعنى هذا أن المؤتمر التأسيسي سيُعقد بين فريقين لا يملك أحدهما فرص التكافؤ. أي بين فريق يملك خمسين ألف صاروخ وفريق آخر لا يملك سوى قوة المنطق. ولكن ايران التي تتحكم بقرارات “حزب الله” تتبنى موقفاً آخر في لبنان يصب بمصلحتها، ويعزز دورها الآفل في سوريا. وبما أنها مهتمة بتثبيت وجودها السياسي والعسكري على شاطىء المتوسط، فإنها مشغولة حالياً بتحقيق أمرين مهمَيْن، الأول إدخال المثالثة في صلب النظام اللبناني بحيث ينال الشيعة حصتهم، بعد تعديل إتفاق الطائف. الثاني تأجيل انتخاب رئيس الجمهورية إلى حين تبلور صورة النظام السياسي الجديد في سوريا، على إعتبار أن الرئيس المقبل سيكون حارساً ومؤتمناً على نفوذ ايران الواسع في لبنان.
بقي أن نعرف ما إذا كان هذا التغيير العميق الذي يؤسس للجمهورية الثالثة في لبنان، سيمر بدون عوائق… أم أنه سيعرض لبنان إلى حرب أهلية على غرار حرب 1975-1990؟
جماعة “8 آذار” تتهم الجيش اللبناني بأنه دعم تيار “حماة الديار” باعتباره الفريق المناوئ لـ”سرايا المقاومة” التي أسسها “حزب الله”.
والذين عاشوا تجربة الحرب الأهلية اللبنانية الأخيرة، يتذكرون جيداً كيف نشأت الميليشيات المقاتلة، ومن أين تدفق السلاح على عناصرها. وهم يتطلعون الى ظاهرتَي “سرايا المقاومة” و”حماة الديار” كرافعتَيْن شعبيتين سوف يكون لهما الدور البارز في معركة التغيير.
يقول المؤرخون إن مصطلح “فخ ثيوكيديدس” استخدمه الرئيس الصيني تشي جينبينغ، لتطمين أوروبا بعدما ازدادت المخاوف من طغيانها الصناعي – التجاري. وهو يشير إلى الإحساس بالخوف من تنامي قوة جديدة جاهزة للقضاء على القوة القديمة الحاكمة. تماماً مثلما كانت أثينا الحاكمة تخاف من صعود سبارطة الطامحة. أو مثلما تخاف “14 آذار” من “8 آذار” التي أعلنت الحرب بواسطة أنصارها لتهديم الهيكل القديم الذي رُسِمَت معالمه في الطائف، وإرساء دعائم هيكل جديد يجري إعداد مفاصله ومؤسساته في ايران!”.