الملا والأمير وفخ التقية
أمير طاهري/الشرق الأوسط/29 أيلول/16
واجه ملالي إيران، منذ أن استولوا على السلطة في عام 1979، تحدي صياغة التوليفة ما بين الخيال والواقع.
وكل حالة تقريبًا من محاولات الاستبدال بالواقع تصورات الغايات المثالية، تنتهي بمأساة. وفي كثير من الحالات، كان النظام الآيديولوجي مستعدًا للتضحية بالواقع الحقيقي في سبيل الخيال المتصور. وكان المهم هو ما تبدو عليه الأشياء، وليست حقيقة الأشياء.
وكان النظام الخميني في إيران هو أحدث الأمثلة البارزة على ذلك.
انتهت أزمة احتجاز الرهائن الأميركيين في عام 1979 بكارثة شديدة الوقع على الاقتصاد الإيراني، ناهيكم بهيبة الدولة التي ذهبت أدراج الرياح. ومع ذلك، أعلن آيات الله انتصارهم على «الشيطان الأكبر».
وفي عام 1988، كانت لحرب السنوات الثماني مع العراق نهاية شديدة الهوان للجمهورية الإسلامية. ولكن، وفي هذه المرة أيضًا نعق الخميني وأنصاره بالانتصار الساحق، وأمر بإعدام الآلاف من السجناء بغية تشتيت الانتباه عن الواقع.
وفي الآونة الأخيرة، وصف الرئيس حسن روحاني ما يسمى بالاتفاق النووي مع القوى الدولية بـ«أعظم انتصار دبلوماسي في تاريخ الإسلام»، في الوقت الذي تقبل فيه بعضًا من أشد الشروط هوانًا التي أمليت على الحكومة الإيرانية في أي فترة سابقة من فترات ضعفها التاريخي.
وعلى مر السنين، تعلمت معظم الدول التعامل مع قادة الجمهورية الإسلامية في طهران، كما تتعامل مع المراهقين المتعجرفين الذين قد يخطئون أو يفشلون بكل سلاسة ما داموا يحافظون على ماء وجوههم أمام الجميع.
في الشهر الماضي، قام وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف بجولة زار فيها عددًا من دول أميركا اللاتينية ذات الأنظمة اليسارية المفلسة، وقال إن الجمهورية الإسلامية صارت الآن زعيمة الكتلة الجديدة من القوى الثورية. ولم يكن مهمًا أن كوبا، وبوليفيا، ونيكاراغوا، وفنزويلا لا تملك فلسًا أو فلسين تبتاع بهما أي شيء يذكر. وكانت لمدير عام القطاع الاقتصادي بوزارة الخارجية الإيرانية، السيد حقبين، الجرأة الشديدة للتصريح بأن السيد ظريف «هبة من هبات البشرية»، لأنه «تمكن من خلق إطار جديد لتحقيق الازدهار العالمي».
وعلى مدى عقدين من الزمان، حاولت الجمهورية الإسلامية أن تنال حق العضوية الكاملة فيما يسمى بـ«مجموعة شنغهاي»، وهو تحالف تقوده روسيا والصين. وفي كل عام، يُنحى طلب عضوية طهران جانبًا بكل أدب. وفي كل عام أيضًا، تعلن طهران عن «الانتصار الدبلوماسي العظيم» بسبب الوعد بدراسة الطلب في العام المقبل.
ومر عقدان من الزمان أيضًا أعلنت فيهما الجمهورية الإسلامية «الانتصار الدبلوماسي» فيما يخص الاتفاق على الوضعية القانونية لبحر قزوين من قبل الدول المطلة عليه. ورغم ذلك، فإن الدول الأربع التي تشارك إيران في هذا البحر – وهي روسيا، وكازاخستان، وأذربيجان، وتركمانستان – قد عملت ببساطة على عزل إيران واستمرت في فعل ما يصب في مصالحها، بصرف النظر عن أي اعتبارات أخرى. ولقد انتهكت روسيا ثلاث معاهدات يكون بحر قزوين بموجبها خاليًا من الوجود العسكري تمامًا.
وفي الشهر الماضي، التمس السيد ظريف كل وسيلة ممكنة لإقناع قمة رابطة دول شرق آسيا (آسيان) للاعتراف بإيران عضوًا من الأعضاء. وعندما عاد إلى طهران أعلن «الانتصار الدبلوماسي للإسلام» كالمعتاد، متجاهلاً حقيقة مفادها أن قمة فينتيان أرجأت الطلب الإيراني مع وعد بالنظر فيه خلال العام المقبل. بدلاً من ذلك، اعترفت القمة نفسها بدولتي تشيلي والمغرب عضوين في الرابطة، على الرغم من أنهما تقعان خارج قارة آسيا.
وفي وقت سابق من العام الحالي، كانت طهران تستعد لما توقعت أن يكون «الانتصار الدبلوماسي الأكبر»، بإقناع الجانب السعودي بمتابعة خطى الملالي، من خلال السماح لهم، كما لو كان يمكنهم إملاء الشروط التي سوف يؤدي الحجاج الإيرانيون مناسك الحج وفقًا لها.
ولكن سرعان ما أصبح من الواضح هذه المرة أن الجانب السعودي لن يلعب الدور المكتوب له في السيناريو المصمم لخديعة الشعب الإيراني، وغيره من المسلمين، والعالم بأسره من دون أدنى شك.
ولقد لعب الملالي لعبة مماثلة في عام 1987، مما تسبب في وقوع مأساة مروعة أسفرت عن مقتل أكثر من 400 حاج، ثم مرة أخرى في عام 1997 عندما استخدموا تكتيك «التقية» المفضل لديهم، لاستئناف محاولاتهم في تسييس مناسك الحج.
وفي سرد لمقدمة تلك المحاولة عرضه آية الله راي شهري، وهو الملا الذي قاد الحجيج الإيرانيين في ذلك الوقت، يوضح (في مذكراته المنشورة في طهران، التي يتذكر فيها الاجتماع الذي جمعه بولي العهد السعودي آنذاك، الأمير عبد الله بن عبد العزيز، ورئيس الجمهورية الإيرانية هاشمي رفسنجاني، في باكستان خلال القمة الإسلامية) أن رفسنجاني كان يحاول إقناع ولي العهد السعودي بالسماح لإيران بأن تلعب لعبة الخديعة، عن طريق التظاهر بأن الحجيج في مكة استجابوا لدعوة آية الله الخميني بالمظاهرات الحاشدة.
ولقد أراد رفسنجاني إتاحة مساحة، أي مساحة، يمكن لبعض الإيرانيين التجمع فيها، وتصوير فيلم للتلفزيون الإيراني وعرضه في طهران، للقول إن الحجاج الإيرانيين بأكملهم استجابوا راغبين في تكريم الإمام الخميني وسياساته.
وسوف تكون مناورة في صورة مظاهرة على غرار فيلم «سيسيل بي ديميل» المصور بالكامل في الاستوديوهات السينمائية.
وبذلك، سوف يتم خداع الإمام الخميني، ويتعرض الشعب الإيراني للتضليل، في حين يعلن النظام الإيراني الحاكم عن انتصار «مزعوم» جديد.
في ذلك اللقاء يقول الأمير عبد الله إن بلاده عانت بما فيه الكفاية مما حدث في مواسم الحج السابقة، موضحًا أنه يمكن تصوير تلك المظاهرات التي يريدها الإيرانيون في الصحراء أو في أوروبا إن شاءوا. وشدد على أن الشعب الإيراني شعب مسلم بالأساس، وإيران كانت الدولة الوحيدة المنضبطة في مناسك الحج. فقد كان الحجاج الإيرانيون أيام الشاه يعرفون أين يقفون وما الذي ينبغي عليهم فعله تمامًا.. على جبل عرفات، وفي منى، وفي غيرها من الشعائر. إلا أن رفسنجاني طلب أن يعطى الإيرانيون مسجدًا في أي مكان في مكة تصور فيه المظاهرة المزعومة. وناشد الرئيس الإيراني الأسبق السلطات السعودية حينئذ أن تعطيهم حتى خيمة صغيرة، تتسع لخمسمائة أو ألف شخص لتصوير الفيلم، مشددًا على أنه لن يُعرض في أي مكان سوى إيران. كما تعهد رفسنجاني بأنه لن يجري تركيب مكبرات للصوت ولن يُفصح عن أي إعلانات. وسيكون الناس هناك لأداء الصلاة، لمدة نصف ساعة أو ساعة كاملة، ولن يدلوا بتصريحات لأي صحيفة.
في النهاية تعهد رفسنجاني أنه مع هذه الترتيبات سوف تكون السلطات السعودية بخير وسيكون الإيرانيون مرتاحين.
ثم يذكر راي – شهري كيف تجاهل المرشد الأعلى علي خامنئي تعهدات رفسنجاني للأمير عبد الله، وكيف أن الآلاف من أفراد الحرس الثوري الإيراني ومن عناصر الأمن الخاصة اندفعوا في حالة من الهياج في مكة المكرمة.
وفي هذا العام، حاول الرئيس حسن روحاني، التلميذ النجيب لرفسنجاني أن يعقد نفس الخدعة التي تهدف إلى خديعة الجانب السعودي بافتراض موافقة خامنئي. وهذه المرة، رغم كل شيء، لم يفلح هذا التكتيك من جانبهم.