عن مستويات الحراك في لبنان
سامر فرنجيّة/الحياة/15 أيلول/15
بعد حوالى ثلاثة أسابيع من التحرّكات والتظاهرات الاحتجاجية، ما زال الحراك يترنّح بين حدّي الوجود، كمجرّد حراك اعتراضي في الشارع، والانطفاء كسائر المحاولات التي سبقته، وإن كان شكل كسوف هذا التحرّك قد يختلف عمّا سبقه من تجارب. فبعد عدد من التحرّكات في الشارع وردود الحكومة عليها، بدأت تظهر معالم الحراك ونقاط ضعفه وحدوده التي يجب تداركها، كما ظهرت أيضاً معالم «النظام» وحدود قمعه أو إصلاحه. ويمكن تحديد ثلاثة مستويات للحراك، تتزامن وتتكامل وتتناقض، ولكل واحد منها وتيرته الخاصة، وإن كانت كلّها تتوحّد أو تتلاقى في الشارع. بداية، هناك المستوى «الرسمي» المطلبي، الذي بدأ مع أزمة النفايات ليمتدّ إلى مسألة علاقة البلديات بالمالية العامة، قبل أن يطرح إشكالية المناطق وعلاقتها بالمركز. قد يتطور هذا المستوى ليشمل ملفات أخرى كالكهرباء أو الأملاك البحرية أو غيرها من الأمور المطلبية، كما يمكن أن يعيد فتح ملفات قديمة كموضوع سلسلة الرتب والرواتب. بيد أنّ مسألة النفايات أظهرت «سقف» مطالب كهذه، أو على الأقلّ أظهرت تعقيدات طرح الملف المطلبي. فأولاً، لكل ملف مساره الخاص، الذي قد يأخذ شكل المواجهة أو التفاوض مع الحكومة. فالمطلوب إنجازات أو على الأقل تقدّم في الملفات، وهذا ما قد يتطلّب بعضاً من «الالتباس» في التحرّك. ثانياً، بات النظام اللبناني في فساده المعمّم وتصلّب مؤسساته، غير قادر على تلبية أي مطلب من دون إعادة البحث في تركيبة البلاد المناطقية والاجتماعية والسياسية، ما يتطلّب جهداً ومساومات كبيرة لتحقيق أي تقدّم. وثالثاً، ما زالت المطالب موجّهة للدولة، أي لا تقوم على إعادة التوزيع بين فئات المجتمع، وهذا إذا ما طُرح فإنه قد ينتج اعتراضاً مجتمعياً، كالذي رأيناه في قضية سلسلة الرتب والرواتب، والتعاطي معه مختلف عما رأيناه في الأيام الأخيرة. فالسؤال هنا عن كيفية تفعيل المستوى المطلبي، ما بين ضرورة التنسيق بين المسارات المختلفة وخصوصية كل ملف، لبناء مروحة من الاحتجاجات قد تنجح في إحراز بعض الاختراقات.
المستوى الثاني للتحرّك، الذي ظهر على هامش الحراك العام، هو المستوى الثقافي أو «الجيلي» الذي تجلّى بعدد من «التوترات» الجانبية. ويظهر هذا المستوى من خلال عمر المتظاهرين، والخلاف الكامن على «الأغاني الثورية»، وشكل الحراك، والحساسية حيال رموز سياسية ربطت الخطاب الاحتجاجي بمشاريع سلطة، ورفض الخطاب عموماً أو ترداد مقولات «ثورية» بانتظار خطاب مختلف، وغير ذلك من إشارات.
الصراع على هذا المستوى يُخاض على أرضية محدّدة، وهي معركة الخطاب الاحتجاجي في لبنان وأدوات نقد النظام، وهو ما لم يتجدد منذ السبعينات، لأسباب عدة، منها الحرب الأهلية واستغلال هذا الخطاب من سلطات الأمر الواقع.
تجديد الخطاب الاحتجاجي يأتي في لحظة خاصة، تمرّ فيها المنطقة بتقلبات الثورات العربية، مع مدّها وجزرها اللذين غيّرا وجه المنطقة، كما يأتي في لحظة تمرّ فيها البلاد بأصعب لحظاتها، مع تراكم الأزمات الاقتصادية والسياسية والميثاقية. أو بكلام آخر، تأتي مرحلة التجديد في لحظة مشابهة بخطورتها للحظة الحرب الأهلية التي قضت على بوادر الحركة الاحتجاجية في السبعينات. فالسؤال الذي يواجه من يهتم ببلورة هذا الخطاب هو: كيف يمكن ربط المسائل الاجتماعية والتحررية بالمسألة السياسية والميثاقية، لتجنّب الوقوع في المسار التدميري العام؟ أو بكلام آخر، كيف يمكن التفكير بخطاب احتجاجي يدرك شروط إمكانيته، أي وجود حدّ أدنى من السلم الأهلي ومن المؤسسات التي يمكن معارضتها. غير أنّ العقدة الأساسية اليوم، تقع على المستوى الثالث، أي المستوى السياسي الآني. فإذا وضعنا جانباً شعار «إسقاط النظام» الذي سُحِب أصلاً من التداول، أو محاولة «١٤ آذار» التلاقي مع الحراك من خلال مطالبته بنزع سلاح حزب الله وتبنّي أولوية الانتخابات الرئاسية، أي بأن يتحوّل الحراك إلى الوجه الجديد لـ «١٤ آذار»، يبقى هناك طرح واحد لا يزال يتمّ تداوله. فهناك مقولة أو مخرج سياسي أو عرض من قوى الأمر الواقع يفترض التلاقي حول الانتخابات النيابية أولاً. وهناك جاذبية لطروحات كهذه بين عدد من مكونات الحراك المدني، وبينهم الوزير السابق شربل نحاس الذي اعتبر أن تعميم الفساد «يندرج في إطار فشة خلق» يجب استيعابها. فتتويج الحراك سياسياً يكون في قانون انتخابات يعطي الغلبة لقوى «٨ آذار». ويمكن تسمية هذا الخيار بأنّه خيار «الإصلاح والتغيير تحت منظومة السلاح والقتل»، مطالباً المتظاهرين، ليس فقط بتناسي دور حزب الله التخريبي في لبنان والتدميري في سورية، بل أيضاً فساد هذه القوى، لينتهي هذا المسار بتحويل الشباب إلى نوع من «سرايا المقاومة المدنية». فإذا كان هذا الخيار مرفوضاً، بقي خيار آخر يعتبر أن هدف هذا التحرّك هو «تحسين شروط العيش في ظل الأزمة السياسية والميثاقية والسيادية». ومفاد هذا الخيار دفع أو إرغام السياسيين على تحييد بعض الملفات الحيوية من تبعات الصراع الحالي، ونقل الخلافات حول الرئاسة أو السلاح أو قانون الانتخابات إلى طاولة حوار، يُفضل عقدها نهار الأحد، وليس في منتصف الأسبوع. هذا الخيار ليس فقط براغماتياً، ومتعلّقاً باستحالة أن يخوض الحراك اليوم أي معركة سياسية، بل ينطلق من ضرورة «تسييس الحياة اليومية» الذي يحتاج الآن إلى بعض من «الحياد» السياسي. ففي ظل التصارع السياسي بين قوى ٨ و١٤ آذار الذي شلّ البلاد، قد يكون من المفيد النزول إلى مستوى ما دون سياسي لبناء الحاضنة المؤسستية للحراك المطلبي والصراعات الجانبية. ولربما شكلت الانتخابات البلدية في ٢٠١٦ نقطة البداية لإعادة ابتكار سياسة مختلفة؟
اهبل أو شاطر
راشد فايد/النهار/أ15 أيلول 2015
فجأة، صار الفساد على كل شفة ولسان، كأنه أمر مستجد على اللبنانيين، أو كأن هؤلاء مقطوعون عن ماضيهم، أو كأن الفساد لا يكون فساداً إذا كان مردوده تحت الملايين، وبالدولار طبعاً. الفساد في لبنان نمط حياة. وللناسين أن يتذكروا ما كان يرويه فؤاد شهاب، رئيس النزاهة في تاريخ الجمهورية، ورافعها الى مستوى الدولة. كان يقول إن الوالدة اللبنانية لا تسأل ابنها عن قيمة راتبه، بل عن “البراني” الذي يتصيده. ولأن الفساد نمط حياة، تمر عشرات السنين على فضيحة الأملاك البحرية، القديم منها، والمستجد (مرافئ أمراء الحرب والصفقات)، ولا من يجرؤ على طلب استردادها، أو إرغام مستغليها على سداد بدل استثمارها. والأمر نفسه مع النفط والغاز البحريين المؤجلين حتى يتفق “الغيورون” على ثروات لبنان، ممن ليسوا أصحاب اختصاص ولأن الفساد نمط حياة، يتساءل كل لبناني، عند الاعلان عن تلزيم مشروع، أو اصدار قانون: كم هو المبلغ “المسرّب” منه، أو عبره، الى جيوب النافذين، ليس من باب الإدانة، بل من زاوية الاعجاب بـ”الشطارة”. فالمختلس، في بلاد الأرز، شاطر “بيعرف يدبر حاله”، والأمين النزيه “طيب” أو “آدمي” بمعنى ساذج وحتى “أهبل”. والفساد، في وطن جبران خليل جبران، درجات، من سمسرات الدوائر والادارات، في كل الوزارات، الى الصفقات. والصمت في الحالتين، جزء من الفساد الوطني. للتذكير، في عهد الحكومة السابقة، كشف الوزير غازي العريضي عن تهريب جمركي في المرفأ يفوِّت على الدولة سنوياً ما لا يقل عن مليار دولار. لم يهتز جفن حزب الأمين العام، المعني بالتهمة. مع ذلك يقول وزير المال الحالي “إن الاجراءات التي اتخذت رفعت مستوى الضبط الجمركي”. من يمكنه أن يصدق؟
قبله، حاول وزير العمل قوننة الرشاوى في وزارته التي يعرف القاصي والداني انها، تاريخياً، ومنذ عهد الوصاية، من أهم أوكار الفساد وأشهرها. ليس المجال لعرض مواقع الفساد، فهذه تتزايد بتزايد هزال المؤسسات الرقابية، التي تهاوت “وهرتها” مع اشعال الحروب في لبنان، ونهش قوى الأمر الواقع سلطتها. هل تذكرون ما بنته “البيئة الحاضنة” على الأملاك العامة في “الرمل العالي” والاوزاعي؟ لكن قمة الفساد، وذروته، اجهاز فئة، بالمعنى السياسي والديني والمذهبي، على احتكار الدولة للقوة، لا سيما العسكرية، ومجاهرتها بالتبعية لدولة خارجية، وتجرؤها على “إلغاء” نتائج الانتخابات، بفرض “الوفاقية” في ادارة الحكم، ما جعل الجميع في الحكومة وخارجها، في آن واحد، ومنع محاسبتها. فمفهوم الوفاقية محيّر: هل هي بين الطوائف (بسبب الثنائية الشيعية المهيمنة تحديدا)، أم هي سياسية (بسبب هيمنة سلاح الامين العام)، أم هي عددية بسبب “نظرية” الأمين العام نفسه عن الاغلبية الشعبية مقابل الاغلبية النيابية؟
مع ذلك، “يفاجئنا” الفساد؟!
على الوعد يا… لبنان!
الياس الديري/النهار/15 أيلول 2015
حال لبنان مع أميركا دائماً وأبداً على الوعد يا كمّون. ليس من اليوم تحديداً، أو من احتجاز الاستحقاق الرئاسي في “ضيافة” طهران، إنما منذ ثورة 1958 حيث فوجئت بيروت بقِطع من الأسطول السادس ترسو بين الجْناح والرملة البيضاء. فبعد التهليل وإطلاق رصاص الترحيب ليلاً، تبيّن مع طلوع الفجر أن الأسطول الأميركي ما شرّق وجهته إكراماً للبنان بقدر ما كان تحرّكه من أجل العراق والأردن وباقي التفاصيل. من ذلك التاريخ إلى يومنا هذا اللبنانيّون صامدون على اقتناعهم أن واشنطن لا ترى من الشرق الأوسط إلا هـَ الكَم أرزة العاجقين الكوْن. وعلى جاري العادة يأكلون أصابعهم ندامة، لكنهم يثابرون على “انحيازهم” ولو لُدغوا سبعين مرة سبع مرات من الجُحر ذاته… لا مجرّد مرّتين. انْوعد اللبنانيّون، من أعلى إلى أسفل، بانفراج أزمتهم الرئاسيّة التي ختمت سنتها الأولى وتكاد تقترب من منتصف الثانية فور توقيع الاتفاق النووي. السفراء الجُدد والقدامى، الموفدون تحت عناوين ولمهمات مختلفة، زائرو واشنطن، الجميع تحدّثوا في الموضوع الإيراني من غير أن يشبعوا أو يتوقّفوا عند حد معيّن. حتى باريس مربط خيْلنا اقتنعت، لسبب من الأسباب، أن البيت الأبيض أسمع طهران إشارات وتلميحات في هذا الصدد، وكان الجواب مشجّعاً. أين الدنيا وأين أهلها. أين الوشوشات، والهمسات، والوعود. تكاد مفاوضات جديدة تبدأ بين أميركا وإيران حول أمور كثيرة في المنطقة، بعدما جلس الاتفاق النووي على عرشه متوّجاً بالرضى الأميركي والعناية الأوروبيّة… فيما لا يزال لبنان مشلولاً. ومن غير أن يرِد ذكر الأزمة اللبنانيّة على لسان أي مسؤول أميركي كبير. حتى السفير الأميركي المغادِر ديفيد هيل يرى “أن الوضع اللبناني صعب وحسّاس في هذه المرحلة. والمشكلة ليست أزمة النفايات وحدها، فالخلل في مواقع أخرى”. وأنهى كلامه بالتمنّي (على اللبنانيّين) “تفعيل عمل الحكومة، وانتخاب رئيس جديد، وأن تُجرى انتخابات نيابيّة جديدة. فهذه المسائل ضرورية جداً”. من هنا كان ترحيبنا المسبق وتأهيل مختلف الفئات بالزيارة التي ينوي الرئيس فرنسوا هولاند القيام بها قريباً جداً لبيروت، رغبة منه في الاطلاع على واقع الحال بالعين المجرّدة، وإلقاء نظرة على وضع المهجّرين واللاجئين… وكيف الوصول إلى حلّ يُخرج البلد الذي كانت تُضرب به الأمثال من حال الشلل والتعطيل إلى دورة الحياة الطبيعية. على الأقل، فرنسوا هولاند لا يخوننا، ولا يسلّمنا للشيطان، ولا يبيع لبنان في سوق المصالح.