المطران الياس عوده في ذكرى استشهاد تويني: مؤسف أن يعطي إنسان نفسه حتى الموت لوطنه فيما يتنافس آخرون للحصول على وزارة يستعملونها مطية لمصالحهم
الأحد 11 كانون الأول 2016
وطنية – ترأس راعي أبرشية بيروت للروم الارثوذكس المتروبوليت الياس عوده يعاونه لفيف من الكهنة، القداس والجناز الذي أقيم في الذكرى ال11 لاستشهاد جبران تويني ورفيقيه اندريه مراد ونقولا فلوطي، في كاتدرائية القديس جاورجيوس للروم الارثوذكس – ساحة النجمة.
حضر القداس وزير الاعلام رمزي جريج ممثلا رئيس الجمهورية العماد ميشال عون ورئيس الحكومة تمام سلام، النائب عاطف مجدلاني ممثلا رئيس مجلس النواب نبيه بري، النائب باسم الشاب ممثلا الرئيس المكلف سعد الحريري، السيدتان نايلة رينيه معوض وسولانج بشير الجميل، وزير السياحة ميشال فرعون، وزير العدل اللواء أشرف ريفي، النواب مروان حماده، محمد قباني، هنري حلو، دوري شمعون، غسان مخيبر، نديم الجميل، سيرج طور سركيسيان، نايلة تويني، راعي أبرشية بيروت للموارنة المطران بولس مطر، الوزير السابق زياد بارود، المستشار الاعلامي في رئاسة الجمهورية رفيق شلالا، رئيس بلدية الشياح ادمون غاريوس، منسق الامانة العامة لقوى 14 أذار النائب السابق فارس سعيد، الدكتورة مي شدياق، الاستاذ سمير عبد الملك، مسؤول طلاب حزب الوطنيين الاحرار سيمون ضرغام، الاعلاميون سركيس نعوم، نبيل بو منصف، علي حماده وغسان حجار، زوجة الشهيد جبران تويني وبناته وحفيداه جبران وشريف وعائلات الشهيدين مراد وفلوطي وأعضاء من مجلس بلدية بيروت وعدد من الشخصيات السياسية والاعلامية والاجتماعية.
عوده
بعد تلاوة الانجيل المقدس، القى المطران عودة عظة قال فيها: “سمعنا في المقطع الإنجيلي الذي تلي على مسامعنا أن إنسانا صنع عشاء عظيما ودعا كثيرين. في هذا المثل الداعي هو الله والمدعوون هم اليهود. الله دعا اليهود بأنبياء العهد القديم، ثم دعاهم مرة أخيرة بابنه “الذي إذ كان في صورة الله لم يحسب خلسة أن يكون معادلا لله، لكنه أخلى نفسه آخذا صورة عبد” (في 2: 6-7) ليخبر اليهود بأن الوليمة ستبدأ. كل المدعوين اعتذروا عن عدم تلبية الدعوة. كل مدعو أعطى عذرا لعدم تلبية الدعوة، لكن الأعذار كانت ضعيفة جدا وغير مقنعة. كان باستطاعة كل مدعو أن يلبي الدعوة لو أراد، لكن كلا منهم وضع أمورا لا تقاس البتة بالدعوة الإلهية في مقدمة اهتماماته”.
وتابع: “لم يلب اليهود الدعوة، فدعا الله الأمم عوضا عنهم. يقول الرب يسوع في إنجيل متى “لذلك أقول لكم إن ملكوت الله ينزع منكم ويعطى لأمة تعمل ثماره” (متى 21: 43). إذ لم يستجب اليهود دعا الله الأمم: “فقال للعبد اخرج إلى الطرق والسياجات وألزمهم بالدخول حتى يمتلئ بيتي” (لو 14: 23). لا يمنع أحد من وليمة الرب إلا أولئك الذين يرفضون الدعوة.
يقول يسوع لليهود الذين كانوا يستمعون إلى المثل: “إني أقول لكم إنه ليس واحد من أولئك الرجال المدعوين يذوق عشائي” (لو 14: 24). الوليمة كانت وليمة يسوع. كانت وليمة العرس. جاء في سفر الرؤيا: “لنفرح ونتهلل ونعطه المجد لأن عرس الخروف قد جاء وامرأته هيأت نفسها وأعطيت أن تلبس بزا نقيا بهيا لأن البز هو تبررات القديسين. وقال لي: أكتب طوبى للمدعوين إلى عشاء عرس الخروف. وقال هذه هي أقوال الله الصادقة” (رؤ 19: 7-9). اليهود خسروا كل حظ ليتذوقوا هذا العشاء.
اليهودي الذي قال “طوبى لمن يأكل خبزا في ملكوت الله” (لو 14: 15) كان على حق، لكنه رفض الدعوة فخسر فرصة المشاركة في تلك الوليمة، في ذلك العيد، لأنه رفض يسوع”.
واضاف: “يسوع أعطى هذا المثل أولا لليهود في بيت الفريسي، لكن هذا المثل كتب لنا أيضا. لقد كتب لكل إنسان، لليهودي وللأممي الذي دعاه المسيح إلى وليمته. كل الذين يسمعون كلام الرب يسوع المسيح هم مدعوون. الرب يسوع يقول لنا اليوم تعالوا إلى وليمتي. ما هو جوابنا؟ هل نحن كاليهود نضع الأمور الأخرى أولا؟ إن كنا نفعل هذا سوف نخسر فرصة الاشتراك في وليمة الرب”.
وقال عودة: “يا أحبة، دعونا نبتعد عن الإهتمامات الدنيوية ونحب الرب أكثر من أي إنسان، حتى القريب. “نحن نحبه لأنه هو أحبنا أولا” (1 يو 4: 19)، وقد أوصانا: “من أحب أبا أو أما أكثر مني فلا يستحقني. ومن أحب ابنا أو ابنة أكثر مني فلا يستحقني” (متى 10: 37) أنظر (مرقس 10: 29-31). هو يخبرنا في أي وقت نهتم بهم ولكن عندما يدعونا لا نتأخر. فهل نلبي الدعوة عندما يدعونا؟
لا أحد يستطيع أن يدخل الملكوت إن لم يدعه الله إليه. لكن الإنسان يستطيع أن يرفض الدعوة. ليس من إنسان يستطيع أن يخلص نفسه، لكن الإنسان يستطيع أن يحكم على نفسه. الرب لا يرفضنا. نحن الذين نرفضه. قال يسوع “… من يقبل إلي أنا لا أخرجه خارجا” (يو 6: 37) و “الذي يؤمن بالإبن له حياة أبدية. والذي لا يؤمن بالإبن لن يرى حياة بل يمكث عليه غضب الله” (يو 3: 36)”.
اضاف: “لقد خلقنا الله على صورته ومثاله وأعطانا الحرية الكاملة. لذلك نحن مسؤولون عن خياراتنا، لكنه أعطانا أيضا المثال بابنه. وكما أرسل الله ابنه الوحيد يسوع المسيح إلى العالم ليدعو كل إنسان إلى وليمته، هكذا يرسلنا يسوع إلى العالم لكي ندعو نحن أيضا الآخرين إلى وليمته: “كما أرسلتني إلى العالم أرسلتهم أنا إلى العالم” (يو 17: 18).
أتباع يسوع هم صورة عنه. لا يستطيع المسيحي الحقيقي أن يتصرف بما يسيء إلى صورة خالقه. نحن نستعد للاحتفال بذكرى ميلاد ربنا يسوع المسيح بالجسد، هذا الإله الذي تنازل ليتخذ بشريتنا من أجل أن نتأله. لذلك حياة المسيحي الحقيقي جهاد مستمر من أجل الوصول إلى أعلى درجات الكمال، “إلى ملء قامة المسيح”.
وتابع: “في الرسالة التي تليت على مسامعنا اليوم يقول بولس الرسول إلى أهل ك ولوسي: “إطرحوا…الغضب والسخط والخبث والتجديف والكلام القبيح من أفواهكم، ولا يكذب بعضكم بعضا بل اخلعوا الإنسان العتيق مع أعماله والبسوا الإنسان الجديد الذي يتجدد للمعرفة على صورة خالقه.
هذا الكلام الذي كتب في بدايات المسيحية ما زال صالحا في أيامنا، وينطبق، للأسف، على اللبنانيين وعلى غيرهم، لأن الإنسان ما زال يغضب ويسخط ويجدف ويضمر الخبث والحقد والشر، وينطق بالكلام القبيح ويقوم بأعمال سيئة لا يرضى عنها الضمير ولا الله، ويسيء بها إلى نفسه وإلى أخيه الإنسان”.
اضاف عودة: “جبران وأحباؤنا الآخرون الذين استشهدوا من أجل لبنان كانوا يحلمون بوطن ديموقراطي، حر، منفتح، مزدهر، عصري، تسوده العدالة وتطبق فيه القوانين، ويكون الإنسان فيه محترما، والدستور.
ماذا نشهد اليوم. إنحطاط أخلاقي قبل الإنحطاط السياسي والإقتصادي والإعلامي. أنانية لم يشهد لها لبنان مثيلا وفساد ليس بعده فساد.
العالم يتقدم ويتطور واللبنانيون يتقوقعون طوائف ومذاهب وقبائل عوض العمل على بناء الدولة التي تجمع كل اللبنانيين، ويكون الولاء فيها للدولة والجيش والدستور، أي للوطن لا للحزب أو الطائفة أو القبيلة.
الإيمان بالله أمر ضروري، لكن الإيمان لا ينفي الوطنية والصدق. إيمان الإنسان بالله ينمي فيه روح التواضع والمحبة وقبول الآخر المخلوق على صورة الله ومثاله، والإصغاء إلى صوت الضمير الذي هو صدى لصوت الله، فيصبح مواطنا أمينا، صادقا، خلوقا، يحترم الآخرين ويعاملهم كما يحب أن يعامل.
جبران الذي نصلي من أجل راحة نفسه كان إنسانا عميق الإيمان بالله، لكنه لم يجعل إيمانه مطية لمصالحه ولا أرثوذكسيته عائقا أمام صدق انتمائه الوطني. ومقالاته وحياته ومبادئه خير شاهد على ذلك. حبذا لو كان اللبنانيون يعون عمق الهوة التي وقعوا فيها بسبب تقوقعهم الطائفي”.
واسف “لأن هذا الوطن الذي أحبه جبران حتى الموت يتداعى. لا تدعوا لبنان يضيع في مهب السياسات الصغيرة والمصالح الضيقة وتقاسم الحصص وتقسيم الوطن. لقد رجعنا خطوات إلى الوراء بسبب بقاء الدولة بلا رأس مدة فاقت السنتين. كنا، مع المواطنين الذين وحدهم يدفعون ثمن كل شيء في هذا الوطن، نأمل أن نشهد ورشة بناء عامة وفي كل الحقول، بعد انتخاب رئيس للبلاد، فإذا بنا أمام معضلة تأليف حكومة، لبنان في أمس الحاجة إليها لتسيير أمور الناس”.
وقال: “يخيل إلينا أننا أمام قالب حلوى يتناتشه الجميع. أصبحنا نسمع عن وزارات سيادية ووزارات خدماتية ووزارات دسمة ووزارات من الدرجة الخامسة أو العاشرة لا تجذب أحدا. كما أن هناك وزارات مطوبة لأحزاب أو لطوائف أو جماعات لا يفكرون إلا بأنفسهم، وبالإنتخابات القادمة، وبالخدمات التي سيقدمونها لأزلامهم، ويتناسون أن الوطن بحاجة إلى كل جهد وتضحية، وأن المواطن ما عاد يحتمل، وهو يستحق أن يكون كل وزير وكل نائب وكل مسؤول وكل موظف في إدارات الدولة في خدمته، يعملون من أجل تحسين مستوى حياته وحل مشاكله وتقديم ما هو حق له وواجب عليهم”.
وتابع: “هل يعقل أن يقال في بلد يحترم نفسه أن هناك وزارة سيادية وأخرى لا؟ ووزارة خدماتية وأخرى لا؟ أليست كل الوزارات لخدمة المواطن؟ ثم هل الوزارة هي سيادية أم أن الوزير النشيط، الخلوق، المبدع، الذي يقوم بعمل دؤوب ويطبق القوانين على نفسه قبل غيره، ويكون مثالا لمرؤوسيه في التواضع، والجد، والكفاءة، ونظافة الكف واللسان، هو الذي يجعل من وزارته سيادية وخدماتية ومن الدرجة الأولى؟
مؤسف ومؤلم أن يعطي إنسان نفسه حتى الموت لوطنه فيما يتنافس آخرون كي لا نقول يستقتلون للحصول على وزارة يستعملونها مطية لمصالحهم. هناك من يعطي للوطن الوقت والجهد والسعي والحياة، فيما هناك من لا يحسن إلا الأخذ. والسؤال: أين المواطن الذي يحاسب؟
وختم عودة: “لو كان جبران بيننا لانتفض على هذا الواقع الأليم وتجند، وجند من هم حوله، للدفاع عن مفهوم الدولة وحقوق المواطن، وذكر الجميع أن الدستور فوق الجميع وأن العدالة تكمن في إعطاء كل ذي حق حقه بالتساوي بين الجميع، وأن من واجب الحاكم النظر إلى مصلحة الوطن والمواطن لا النظر إلى مصلحته وأن “المطلوب أولا وأخيرا وفاق وطني حقيقي ينطلق من الإعتراف بالآخر واحترامه والتعاطي معه كشريك حقيقي في ورشة بناء الوطن” كما كتب في إحدى مقالاته (18 / 5 / 2001). ولكان صرخ “من يحاكم من في هذه الدولة الساقطة يا ترى، أو بالأحرى من يحق له أن يحاكم من؟” (4 / 9 / 2003). فاحتراما لذكرى جبران، وكل من بذل دمه فداء لهذا الوطن، وفي مقدمتهم أفراد جيشنا الأبطال الذين يفتدون لبنان بدمائهم، لنلتف جميعنا حول رئيس البلاد، ولنتكاتف ونعمل معا من أجل الخروج من ظلمة الحاضر إلى أفق مضيء نتمناه قريبا. وهذا لن يحصل إن لم يتخل الجميع عن أنانياتهم ويضعوا نصب أعينهم خلاص لبنان، ويطبقوا الدستور والقوانين بلا مواربة، ويبتدعوا الحلول لمشاكل مستعصية أهملت منذ زمن وتراكمت.
رحم الله جبران ورفيقيه ورحمنا جميعا، وسكب سلامه في أرضنا والمنطقة، وفي قلوبنا لكي يتقبل واحدنا الآخر ويعترف به ويتعاطى معه كشريك حقيقي في ورشة بناء الوطن”.