العم عبدو.. “وجدت أمينا على القليل فسأقيمك على الكثير أدخل فرح سيدك”..
الكولونيل شربل بركات/14 كانون الأول/16
العم عبدو هو رمز من رموز هذه العائلة التي تميّزت بالطموح والعمل الجاد في المجال الشخصي، وبالانفتاح على الكل بلمسة سحرية تجعل الواجب الاجتماعي جزءً من الشخصية، والصالح العام مهمة ملزمة حتى القداسة…
العم عبدو بالنسبة لي وللكثيرين، كان منهلا للثقافة العابرة للمجموعات واللغات، والتي تسعى، بالانفتاح والتعاون، لتعميم المعرفة سبيلا للتقدم، والتفاهم وسيلة للخير…
لم يكن غريبا على ابن بركات يوسف بركات أن يحمل صفات محببة من كل من عرف، فهو تربى في بيت مفتوح لاستقبال من زار تلك البلاد البعيدة، وقصد عين إبل القرية النائية من جنوب لبنان. كيف لا وجدّه يوسف كان أول من أجمع كل العائلات العينبلية على تسليمه أمورهم، والمناداة به مختارا أوحد يمثلهم جميعا، بعد أن كان النظام التركي يفرض مسؤولا لكل عائلة ليضمن تحصيل وجباية الضرائب. ولكن يوسف بركات، الذي أظهر بشخصيته الفذة، وقوة الاقناع، وعمله في كل مجال لتحسين وضع أهله الفلاحين البسطاء، والمساعدة على بيع انتاجهم، وتحصيل حقوقهم، حتى من “الدولة العلية”، جعل الكل يسعى للتقرّب منه، والوقوف بجانبه، والمطالبة به مشرفا على أمور البلدة، حتى أضحت هذه منارة في كل مجال، خاصة بالتعاون والتماسك. وقد أكمل ابنه بركات الرسالة، فحمل المسؤولية باكرا في مجالات عدة، ذكر بعضها المرحوم قيصر صقر في خطابه بمناسبة شفاء المختار بركات من حادث صحي في 1942، وهو لخصّها بثلاث: بركات منظّم الشباب، بركات المعلّم وبركات المختار، ومن هذه العناوين نعرف تأثير الجدّ بركات على مستقبل البلدة وتكاتف بنيها.
في هذه العائلة نشأ العم عبدو، وقد رضع مع الحليب حب الناس وأهمية العلاقات، في بيت امتلأ بالأخوة والأخوات، وبالجيران والأقارب، وبالمحبين من كل حدب وصوب. وهو التحق بقافلة الأخوة الكبار في مدينة حيفا، الأقرب إلى عين إبل، وتعلّم في مدارسها، وعايش “بيت الشعب”، الذي لم يختلف عن بيت العائلة بكثرة الأحبة والنزلاء، ولكنه عاد مع العائدين ليستقرّ في بيروت، ويدخل الأعمال التي أحب، فرافق تطوّر الحركة الثقافية فيها، وعمل بمجال الكتب، مجاورا الجامعة الأميركية حيث كانت مكتبته ملقى طلاب العلم والثقافة.
عرفت العم عبدو شابا أنيقا، ننتظر قدومه في كل صيف ليسكن معنا في البيت العائلي، حيث يجتمع الأصدقاء من كل الأعمار، وتدور على السطيحة وفي الدار، أهم المناقشات والأخبار التي تملأ المكان بالضحك والمرح، ومنه تنطلق المشاريع والسهرات والرحلات وكل أشكال الفرح التي تمّيز الشباب. ولكني عرفته أيضا منهل المعرفة، فهو أشركني بأول مجلة “بساط الريح” وقد أثّرت على شخصية جيل بكامله، وهو من زوّدنا “بمراحل الكشاف”، الذي اصبح “كالانجيل” بالنسبة “لفرقة كشافة السيدة” في عين إبل، والتي انتقلت معنا من الفرقة الاستعراضية بالمناسبات، إلى العمل الكشفي الفعلي الذي يبني شخصية المراهق، على بذور عمل الخير والصالح العام والبنية الجسدية المتوازنة. وقد كان يرسل لجدي بركات، الذي كان يجب القراءة والاطلاع على الحضارة العالمية، وبعد أن اشركه بمجلة “الهلال” المصرية، كل كتاب جديد يصدر من الأدب العالمي المترجم ليبقي على هذه العلاقة، والتي كان المرحوم جدي بدوره أمينا على نشرها بين ابناء البلدة…
ومرت الأيام ودارت الدوائر، ووقعت الحرب التي منعت التواصل، ففرّقت الأحبة. وأجبرت العم على نقل مكتبته إلى الأشرفية. ومن ثم انتقل الأولاد إلى أميركا لمتابعة الدراسة، ولحق بهم العم وشريكة العمر ليلى. وقد كان لي فرصة رؤيته في زيارة له لكندا قبل أن يستقر نهائيا في كاليفورنيا…
هذا الصيف قررت أن أزور العم عبدو لمدة ثلاثة ايام كانت مهمة بالنسبة لي، فقد تحادثنا عن كل شيء من تاريخ الجدّ والأعمام إلى تاريخ لبنان ومشاكله، وزرنا سوية لوس انجلس وهوليود والاصدقاء في أورنج كونتي. وأخبرني أنه سيزور لبنان في تموز وأنه سوف يزيد على البيت في عين إبل ليكون ملقى الأولاد والأحفاد، ولكنه تعرّض هناك لحادث أخرّ مشاريعه، وسرّع في تغيير وجهة سيره، فقد كان نداء الأحبة في الجانب الآخر، على ما يبدو، أقوى وها هو ينطلق مسرعا ليقدّم الحساب لرب الحصاد، بنفس التاريخ الذي استشهد فيه المرحوم بنوا وبعده الوالدة وبنفس الفترة التي انتقلت فيها العمة ماري وبعدها لور وجوزيف، فهل لنا موعد في زمن الميلاد؟…
عزاؤنا أنه ترك عائلة محبة سوف تحمل المشعل، وزوجة فاضلة رافقته بكل المحبة والاحترام وزيّنت بيته بالبسمة والفرح، فلهم كلهم ولعائلاتهم نتقدم بالعزاء، وللعم العزيز وديع وعائلته، وهو آخر العنقود في هذه العائلة الكريمة، والذي كان رفيقا لعبدو في الدرب الطويل، ولأولاد الأعمام والعمات وعائلاتهم، ولعائلة بركات ودياب وكل ابناء عين إبل وأنسباؤهم في أصقاع الأرض، راجين منه تعالى أن يستقبل العم العزيز عبدو بتلك الجملة المحببة : “وجدت أمينا على القليل فسأقيمك على الكثير أدخل فرح سيدك”…