في نقد الأصوليات الدينية واليسارية والقومية
من أجل يسار جديد
الدكتور محمد علي مقلد/الحوار المتمدن-العدد: 5399 – 11 كانون الثاني/2017
هذا النص عن الأصوليات هو، في الحقيقة، إعادة صياغة للحوار المفتوح الذي نظمه موقع “الحوار المتمدن”. المداخلة التمهيدية منشورة في الحوار المتمدن، وتناولها المحاورون بأسئلة ومداخلات طاولت خمسة مواضيع، الأصوليات، نقد الفكر والممارسة، الاستبداد، الديمقراطية، اليسار الجديد. حاولت جمع الردود على الأسئلة والمواضيع المتشابهة، استعدتها بنصوصها الحرفية ولم أحذف منها إلا ما يتنافى مع أصول البحث الرصين، وما يحسب أقرب إلى “المناقرة” منه إلى النقاش الهادئ. غير أن اقتصار التعديل على ذلك لم يكن كافياً لإلغاء الطابع السجالي عن النص، بل جعل أفكاره أكثر تماسكاً وأتقن أخراجاً وأظهره كأنه أعد مسبقاً وتم توزيعه على المواضيع الخمسة.
أولا: في تعريف الأصوليات ونقدها
الأصوليات، تشبه بعضها بعضاً من حيث لجوؤها إلى الكتب لحل مشاكل راهنة، والاستعانة بالسلف الصالح، الذي يمثله الصحابة والأئمة عند الإسلاميين، وماركس ولينين وستالين وماو تسي تونغ عند اليساريين، ومرجعيات أقل شأناً لدى الحركات القومية. لا يعني ذلك اعتراضا على السلف الديني أو اليساري أوعلى القيمة التاريخية والفكرية والاخلاقية التي يمثلونها، بل اعتراض على طريقة توظيف التراث. فالأصوليات تسعى إلى نسخ التجارب القديمة ومحاكاتها، والصحيح أننا نحتاجها لاستلهامها لا لتقليدها أو لتكرارها تكراراً حرفياً آلياً.
وجه الشبه الثاني بين الأصوليات يتمثل في تعصبها للماضي على حساب المستقبل، فيذهب بها التعصب إلى أن يطلق كل منها أحكامه المغلوطة عن ماضيه، فيظهر، في نظر بعض المحاورين، “أنهيار” الرأسمالية واضحاً وقاطعاً، وتغيب، في المقابل، أية إشارة عن انهيار التجربة الاشتراكية، بل يبدو الحديث عنها وكأنها في عز شبابها لولا دمعة حرّى على تراث ستالين.
كنت أتمنى لو اطّلع المحاورون على مضمون كتابي عن -الأصوليات- الصادر قبل نحو من عشرين عاما، وفيه نقد للأصولية اليسارية لا يتبرأ من الماضي، بل يعتز به ويسعى إلى إعادة الاعتبار للاشتراكيةوللفكراليساري.
لا يكتفي الأصولي اليساري بالاستعانة بالسلف، بل هو يستحضر عدة التفكير والمصطلحات من دون أي تعديل على مدلولاتها ومضامينها، وكأن التجربة الاشتراكية ما هزها ريح ولا عصفت بها عاصفة. ربما كانت الإشادة بالتجربة والتغني بانهيار الاشتراكية نتيجة طبيعية لهيمنة التأويلات السوفياتية لهذه المصطلحات، التي بموجبها رأى اليسار القديم أن هذا العصر هو عصر الانتقال إلى الاشتراكية. ألم يحن الوقت بعد لكي يرى العقل اليساري أن الاشتراكية المحققة انهارت وبات من الضروري إعادة الاعتبار إليها بنقد الماضي لا بتأبيده؟
يمكن للمرء أن يتعلم في مدرسة الحزب الشيوعي، أي حزب شيوعي، كل القيم السامية، الأخلاقية والاجتماعية والوطنية، أن يتربى على التضحية والتفاني والصدق والمثابرة والتخلي عن الأنانية المريضة وأن يدافع عن قضايا المظلومين والمفقرين والمهمشين، وأن يناضل من أجل سلام البشرية وتقدم الشعوب وازدهار الأوطان، إلا أن المعارف الأكاديمية لها منصات أخرى، فليس الحزب هو المكان الصالح لاكتساب ثقافة أكاديمية.
فضلا عن ذلك، أيام لينين فحسب، كان المكتب السياسي يضم مجموعة من الفلاسفة والمفكرين الكبار. بعده ساد نهج ستالين مع المثقفين، فهو أمر بإعدام استاذه( وهو أستاذ فلسفة جامعي) الذي استمر على مدار أربع سنوات يشرح له محاضرات عن الديالكتيك. أعدمه بتهمة انتمائه سابقاً إلى المونشفيك قبل الثورة، وبعد أن أعدمه نشر المحاضرات في كتاب عن الديالكتيك لمؤلفه ستالين. هذا النهج هو الذي قدم المثقف أمام رفاقه على صورة -خائن لطبقته- ما جعله عاطلا عن العلم داخل الحزب، وقد أثبتت تجربة المفكرين الكبار في القرن العشرين أن الفضل في ما بلغوه في مضمار الثقافة والفنون والابداع إنما يعود إلى انتمائهم إلى الماركسية لا إلى التنظيم الحزبي. مع ذلك، فلا أحد ينكر أن تكون وسائل تحصيل المعرفة متعددة، وليس السبيل الأكاديمي إلا واحدا منها.
في المصطلح
قلت عن المصطلح، في رثاء مهدي عامل ونقلا عنه، “قل لي ما مصطلحاتك أقل لك من أنت”.
قد أكون أنا أول من استخدم مصطلح “الأصوليات” في عام 1994. في حينه كان استخدامه مغامرة فكرية وسياسية، وقد خضت المغامرة وحيدا، في مواجهة الحزب الشيوعي وأنا منه وفي لجنته المركزية. ساعدني على خوضها كريم مروة الذي كان مسؤولاً عن مجلة الطريق التي يصدرها الحزب. نشرت يومذاك في المجلة بحثاً طويلا عن الأصوليات الدينية، واكتشفت خلال البحث أن أحزابنا، على اختلاف منابعها الفكرية، تتحمل مسؤولية عن الحال التي وصلت إليها بلدان العالم العربي، ورحت أبحث عن القواسم المشتركة بين هذه الأحزاب، فوجدت أوجه شبه كما وجدت اختلافات جوهرية فيما بينها. لهذا قد يكون مفاجئاً للبعض الكلام عن وضع كل الأحزاب القومية واليسارية والدينية في سلة واحدة، لاعتقاد هذا البعض باستحالة وجود أوجه شبه بينها.
من الإجحاف بحق الأحزاب المناضلة والمكافحة من أجل المستقبل وضعها على السوية ذاتها مع الأحزاب الدينية التي تشد التاريخ إلى الوراء، ومن الجحود بحق اليسار إغفال القيم التي سعى إلى نشرها، والتي كان يلخصها شعار يرفعه الشيوعيون في كل مكان من بلداننا : النضال من أجل الخبز والعلم والحرية. ومن قصر النظر إغفال التضحيات الكبرى التي بذلتها الأحزاب اليسارية دفاعا عن قضايا شعوبها، وما أسماء شهدائها الكبار من أمثال فرج الله الحلو اللبناني والشفيع السوداني وفهد العراقي وسواهم من آلاف الشهداء الشيوعيين في لبنان الذين سقطوا دفاعا عن قضيتهم الوطنية وعن القضية القومية الأولى للشعوب العربية، أي القضية الفلسطينية، ولا التضحيات التي بذلتها الجيوش العربية بقيادة الحركة القومية العربية باسم مواجهة المشروع الصهيوني.
منطلق بحثي عن القواسم المشتركة ( وكان ذلك غداة اغتيال مهدي عامل الذي كان صديقي ورفيقي وأستاذي في النضال والفلسفة والماركسية)هو أن قاتل مهدي عامل طرف حليف للحزب الشيوعي في مقارعة “الامبريالية والصهيونية والاستعمار” وليس عدوا له. مهدي قتل في شارع في بيروت برصاص “أخوي أو رفاقي” فطرحت على نفسي السؤال، لماذا يقتل الأخ أخاه والرفيق رفيقه؟ وجوابي مشتق من مثل شعبي متداول “ليس العدو إلا عدو الكار”، وتداعت أفكاري لأكتشف أن الحروب بين الأشقاء والإخوة والرفاق التي كانت تسمى “حروب الخندق الواحد” في لبنان، هي صورة مصغرة عن حروب الأشقاء الكبار، بين دول الوحدة العربية، العراق وسوريا ومصر، أو بين أحزابها، وخصوصا البعث والتيارات الناصرية والأحزاب الشيوعية. فمن هو العدو ومن هو الصديق من بينها؟
كما نهض أمامي سؤال آخر عن سبب هزيمة مشروع الحركة الوطنية اللبنانية، مع أن مشروعها لم يكن سوى نسخة معدلة من مشروع الثورة الفرنسية ، على ما قال كمال جنبلاط في كتابه المنشور بالفرنسية ، من أجل لبنان pour le Laban،وتساءلت عن العائق الذي منعها من تنفيذ مشروعها الهادف إلى تعزيز النظام الديمقراطي اللبناني وإلغاء الطائفية السياسية، مع أنها كانت تسيطر على ثمانين بالمئة من الأراضي اللبنانية؟ كان قد أتاني الجواب مرات ومرات، أول مرة يوم اغتيال كمال جنبلاط برصاص حليف وبمعرفة قادة العالم العربي الذين نصحوه بعدم العودة إلى لبنان حفاظا على حياته، ثم اغتيال مهدي برصاص حليف، ثم من خلال سلسلة الاغتيالات التي كان آخرها في العام 1987 عشرات القادة الشيوعيين الذي قتلوا برصاص “رفاق الخندق الواحد”. عنى لي كل ذلك أن اليسار ممنوع من الانتصار وأن من يمنع عنه انتصاره هم حلفاء له في الحركتين القومية والإسلامية. إذن علام يتحالف اليسار معهم؟ والجواب أن هناك قاسما مشتركاً يجمع بين هذه الأحزاب، ليجعل كلاً منها الحليف اللدود للآخر.
رحت أبحث عن هذا القاسم المشترك فوجدته متعدد الوجوه، ورأيت من الأفضل الآن أن أستعيد ما كتبته عام 1995 في مجلة الطريق، ثم ضمنته في كتاب نشرته عام 1999 عنوانه “الأصوليات: بحوث في معوقات النهوض العربي”، وفيه بحث واحد عن الأصوليات الإسلامية وبحوث كثيرة عن الأصوليات اليسارية، تناولت فيها بالنقد كتاباً وفلاسفة يساريين كباراً، مثل محمود أمين العالم والطيب تيزيني وحسين مروة. وقد ركزت على أوجه الشبه بما يخدم فكرتي في نقد التحالف بينها ولم أتعرض لأوجه الاختلاف لأنها كانت خارج دائرة اهتمامي في بحثي يومذاك، وهي خارج اهتمامي في البحث اليوم، وسيكون لها محل آخر من النقاش، أبقى فيه منحازا إلى خياري اليساري الماركسي من غير تردد.
قلت بالحرف الواحد( ص36 من كتاب الأصوليات) -إن هذه الأحزاب، الشيوعية والقومية والدينية هي أحزاب متشابهة، ويعتبر كل صنف منها الوجه المقلوب للصنف الآخر. فهي جميعا، من ناحية، أحزاب تقوم دساتيرها أو أنظمتها الداخلية على أسس غير ديمقراطية، غير شوروية، وتبني هياكلها على أسس هرمية يتحول فيها رأس الهرم، الأمين العام أو الأمير أو الرئيس، إلى حاكم يتمتع بصلاحيات استثنائية نتيجة هالة القداسة التي يحاط بها، والحظوة الكاريزمية التي يحظى بها. وهي، من ناحية ثانية، كلها أحزاب “دينية” لأنها تنطلق من الحقائق المطلقة ومن إيمانها الراسخ بامتلاكها أجوبة نهائية عن كل الأسئلة…. وهي أحزاب “دينية” لأنها أحزاب إيديولوجية، أي أنها تحوّل الإيديولوجيا إلى برنامج تعبوي تحريضي، وإلى برنامج عمل وخطط تفصيلية، وربما يكمن خطأها القاتل، لا في كونها تعتمد إيديولوجيا معينة، فالإيديولوجيا ضرورة بنيوية في قيام الحزب، أي حزب، بل في كونها تستسهل الأمر فتجعل الإيديولوجيا ذاتها برنامجا بدل أن تستلهمها وتستنطقها لتصوغ من الحياة برنامجاً. خطأها قاتل لأنها، في ما تفعله، تلوي عنق الواقع والحقيقة لتجعله مطابقاً للأفكار، ولم تجدها نفعا دروس التاريخ التي بينت أن الحياة، أي الواقع، أقوى بكثير من كل الأفكار، وأنها وحدها مختبر كل الأفكار. هذا الخطأ القاتل هو الذي ” قتل” التجربة الاشتراكية في بلدان أوروبا الشرقية، ومن المؤسف أن بعض الأحزاب الماركسية لم تتعلم الدرس جيداً”
ثم اكتشفت على الصعيد العملي وجه شبه آخر وهو أن الأصوليات الثلاثة التي كانت تبحث في الكتب والنصوص عن حلول لمشاكل الحياة الراهنة، حددت جبهة أعدائها المشتركين: الصهيونية ( ولا فرق عند الإسلاميين بينها وبين الديانة اليهودية)، والامبريالية ( هي دار الكفر عند الإسلاميين)، والاستعمار ( وهو العدو الديني في نظر الاسلاميين لأنه قادم من بلدان مسيحية). وجه الشبه هذا هو الذي جعلها تقيم تنسيقا عسكريا في ما سمي مقاومة الاحتلال الصهيوني لأرض فلسطين ولأراض عربية في المرحلة الأولى، ثم مقاومة الاحتلال الاسرائيلي للبنان في فترة لاحقة نشأت فيها ما اصطلح على تسميته “المقاومة الوطنية والإسلامية”، وهو ما تحوّل في مرحلة ثالثة إلى جبهة الممانعة التي جمعت القوى الثلاث في حلف واحد في مواجهة الربيع العربي. ذلك أن موقف اليسار الشيوعي المرتبك حيال أحداث الربيع والمتعاون مع الأنظمة ضد قوى الثورة لم يكن خافياً على أحد، وحجته في ذلك دوره الضعيف في أحداث الربيع. (درست استفتاء الحوار المتمدن الذي أجراه على شكل استجواب لحوالي مئتي يساري من العالم العربي، ويمكن أن يعود القارئ إليه ليكتشف حجم الارتباك في الإجابة على الأسئلة ، كما يمكنه أن يكتشف ذلك من بيانات الحزب الشيوعي اللبناني مثلا الذي يصر على التعاون مع “الإخوة والرفاق” في جبهة الممانعة، ومن بينها حركة أمل وحزب الله، بحجة مشاركتهما “الطليعية” في القتال ضد إسرائيل، مقرراً عن سابق تصور وتصميم أن يكون حليفا لهما، حتى لو كان التحالف من طرف واحد… مع أن مثل هذا التحالف لن يكون سوى إذعان والتحاق.
يحق لنا أن نطرح السؤال عما إذا كانت إحدى العلامات الفارقة في الماركسية دعوتها إلى نقد الماضي كسبيل للتغيير، فهل يكون التمسك بأخطاء الماضي اليساري والدفاع عنها غير صيغة مبتكرة من التمسك بالأصول المقدسة والكتب وأحاديث السلف؟ أفلا يستحق يسار كهذا نعته باليسار الأصولي؟
أما عن الحركة القومية فإني أحيل إلى آخر كتاباتي المنشورة في الحوار المتمدن عن الأصولية القومية ، وإلى كتابي “هل الربيع العربي ثورة”، لعل القارئ يجد فيه إجابة أكثر إسهاباً على بعض الأسئلة والتساؤلات.
الأصولية مصطلح ليس من اختراعي، لكنني أزعم أنني أول من استخدمه بهذه الصيغة، أي بتوصيف أزمة العمل السياسي في بلادنا حين نظرت إلى العطل المشترك الموجود في أنظمتنا وفي أحزابنا على السواء. كان ذلك في سياق البحث عن قانون يشخص حالتنا. فصلت ذلك في كل كتبي، الأصوليات، الشيعية السياسية، اغتيال الدولة، وهل الربيع العربي ثورة، وليس هنا مجال لإعادة تلك التفاصيل. أهديت كتابي الأول، لمهدي عامل، بعبارة: إلى مهدي عامل، معلّماً أصولياً بامتياز، ومفكراً أصيلاً بامتياز. وفي لاوعيي كنت أميز بين الأصالة والأصولية. وربما هذا ما التبس في ذهن بعض اليساريين الذين يرون أن نقيض الأصولية هو التراخي، غير أنها لا تعني الشدة ولا التشدد ولا الحزم ولا الثبات على الرأي بالمعنى الإيجابي للثبات.لا. الأصولية بالمعنى الذي استخدمته هي العودة إلى الأصول الأولى والنصوص الأولى والسِّيَر الأولى، وكأن العقل البشري القادر على إنتاج تلك الأصول صار عقيماً وعاجزاً عن التجدد. الأصولي هو الذي، حين يبحث عن حل لمشكلة راهنة، يفتح كتابا قديما للسلف الديني(الأئمة والصحابة والسنة النبوية مثلا) أو للسلف اليساري (ماركس ولينين وماوتسي تونغ وتروتسكي وسواهم). استناداً إلى هذا التعريف للمصطلح لا يكون نقيضه التراخي بل التجديد الفكري. كل جيل جديد هو أكثر قدرة على فهم واقعه من الأجيال القديمة. من غير أن يعني ذلك أن كل نتاج فكري يموت بموت صاحبه. ألا ترى كيف بقيت علوم الأولين وفلسفاتهم حية عبر القرون والأجيال، ألا ترى معي كيف يحيا أرسطو وأفلاطون بين سطور المفكرين المعاصرين، ألا ترى معي كيف يصنف الماركسيون الفكر بين مادي ومثالي ويستحضرون التاريخ ليؤكدوا صحة وجهة نظرهم؟ الماضي لا يموت لكننا نحن الذين نقتله حين نستحضره، حين نحاول تطبيقه بحرفيته، حين ننقله من دون أن نأخذ بالاعتبار خصوصيات ظروفه.
الأصولي اليساري ينقل عن لسان لينين كلاماً لا ينقصه سوى أن يكون مسبوقاً بعبارة، لينين “كرم الله( أو الثورة) وجهه، أو رضي الله (أو ماركس) عنه”، ليستقيم الخطاب الأصولي.
كل فكرتي عن الأصولية هي اعتراض على هذه العودة “الحرفية” إلى كلام السلف اليساري الصالح. من قال لك أن الإمام علي يعرف أكثر من حسن كامل الصباح في شؤون الكهرباء أو من رمال رمال في شؤون الذرة؟ النبي محمد قال لسائليه أنتم أعرف مني بشؤون دنياكم. ومن قال أن لينين يعرف أكثر منك ومني في شؤون بلداننا فيما تفصلنا عنه مدة قرن من الزمان. لا إسرائيل كانت موجودة في أيامه ولا نظام البعث الأسدي الأبدي أو الصدّامي ولا أنظمة السلالات، ولا عمر البشير ولا عصابات الصومال البحرية والبرية، ولا كان الربيع العربي ولا الحادي عشر من أيلول ولا حكم الملالي في إيران ولا نفط الخليج ولا حرب الخليج ولا سقوط المعسكر الاشتراكي…..
ربما كان لينين على حق في كل ما قاله عن مجتمعه وثورته. التاريخ هو الذي سيحكم على أقواله وأفعاله. لكن أقواله ليست بالضرورة قابلة للتطبيق الحرفي في كل زمان ومكان. هذا ما علمتنا إياه الماركسية
في نقد الفكر والممارسة
نعم الإصلاح السياسي أولا. هذه هي فرضيتي، الاستبداد كان يبدد نضالاتنا اليسارية، والاستبداد له أب وأم وشجرة عائلة، ونقيضه وبديله النظام الديمقراطي، الذي يحترم حق الاختلاف ويقوم على تداول السلطة. أحزابنا كلها، الدينية والماركسية والقومية لم تكن تعترف بالآخر ولا بتداول السلطة، وبسبب طبيعتها الاستبدادية هذه لم تبلغ التضحيات اليسارية الكبرى الصادقة نهاياتها السعيدة. ولهذا السبب أيضاً سقطت التجربة الاشتراكية الكبرى في الاتحاد السوفياتي، فيما راحت التجربة الموازية في الصين تبحث عن مخرج لها بتحرير الاقتصاد والإبقاء على نظام سياسي مغلق، وهو ما لا يكفي لتنجو من ربيع ما في يوم ما.
أوروبا دفعت الثمن غاليا ومعها كل البشرية في حربيها العالميتين وحروبها التي سبقت قبل قرنين لتكتشف أن إنجازات الثورة الفرنسية لم يكن ممكنا الحفاظ عليها من غير الديمقراطية واحترام التنوع وتداول السلطة. هذا هو الحل لمشاكل بلادنا. كل حزب سياسي لا ينطلق من هذه الحقيقة سيصيبه ما أصاب سواه من القوى الحاكمة أو المعارضة وسيتعرض لعواصف ربيعية عاجلا أم آجلا.
من المؤكد أن إيجاز كتاب في مقالة لن يوفي الكتاب حقه، لكن المداخلة التي رغبت أن تكون مدخلا لحوارنا حاولت أن تعرض أفكار كتابي عن الربيع العربي بتسلسل، لا أزعم أنه الأفضل، لكنه شديد الوضوح ، آملا أن يتسع صدر القارئ لأعيد صياغة الأفكار الأساسية في كتابي “هل الربيع العربي ثورة؟ قراءة يسارية” لعلني أوضح ما بدا غامضاً في مقالتي الافتتاحية لهذا الحوار.
- ما حصل ويحصل في العالم العربي ثورة وهي الأولى بعد ثورة النبي محمد، وما تبقى كان مجرد انقلابات فوقية في رأس هرم السلطة.
- عانى العالم العربي ويعاني ليس فقط من أنظمته بل من أحزابه أيضاً لأنها جميعها قائمة على الاستبداد.
- التشخيصات السابقة اليسارية( ضد الرأسمالية) والقومية ( ضد الاستعمار) والدينية ( ضد الكفر والالحاد) ، بصرف النظر عن مدى صوابية أو عدم صوابية هذه الأفكار، أوصلت العالم العربي إلى طريق مسدود، بل إلى خروجهم من التاريخ( عنوان كتاب لفوزي منصور)
- هذا مدعاة لإعادة صياغة المصطلحات المتعلقة بالثورة والتقدم والاشتراكية، وبشكل خاص ما يتعلق بالثورة السياسية التي من دونها يستحيل الحفاظ على أي إنجاز”ثوري أو تقدمي” في أي من المجالات الأخرى
- الثورة السياسية لا تعني الانقلاب على السلطة، بل الانتقال من نظام الوراثة (كلام أكثر تفصيلا عن هذا النظام في الحضارة الاقطاعية) إلى نظام تداول السلطة (كلام تفصيلي عنه في الحضارة الرأسمالية، التي ينبغي التعامل معها على أنها حضارة، وهذا مفصل أيضا في الكتاب)
- شرط قيام النظام هذا، أي نظام تداول السلطة هو وجود وطن ودولة، وهذا يتطلب إعادة النظر في القراءات اليسارية (الماركسية خاصة) والقومية والدينية لمصطلحي الوطن والدولة ( الوطن العربي أم الأوطان، الأمة العربية أم الإسلامية أم الأممية، الدولة الديمقراطية أم الدولة الاشتراكية أم الدولة الإسلامية أم دولة الوحدة العربية … ال)
ما حصل في العالم العربي هو ثورة ضد هذه الأنظمة الاستبدادية، وهي ثورة بدأت داخل الأنظمة “القومية التقدمية” لكنها لن تتوقف إلا بعد أن تعم كل العالم العربي من المحيط إلى الخليج.
موضوع حوارنا، كما حدّده النص التمهيدي لا يتعدى قضية بناء يسار عربي جديد، ولهذا قد يحتاج بحث هذه القضية إلى المرور على قضايا أخرى تكون رئيسية في أبحاث أخرى( كقضية انهيار الاتحاد السوفياتي والتجربة الاشتراكية) لكنها ثانوية هنا، وإن تم تناولها هنا فلكي نبني بعض الاستنتاجات العاجلة التي تخدم القضية المحورية في بحثنا، وبالتحديد دور اليسار في ثورة الربيع العربي. أما أسباب الانهيارات الكبرى، فقد تناولتها عشرات الكتب ومئات المقالات ولا حاجة لتكرار الأفكار التي وردت فيها، والتي تتراوح بين اعتبار الانهيار ناجماً عن أسباب بنيوية داخلية أو اعتباره نتيجة مؤامرة امبريالية عالمية، أميركية على وجه الخصوص, وهذا في جميع الأحوال ليس بندا من بنود حوارنا الحالي الذي يتركز على تجديد اليسار وإعادة الاعتبار للفكر الاشتراكي وإعادة تعريف المصطلحات المتعلقة بالثورة والتقدم والعدالة، وإعادة التوازن بين الحرية والعدالة… كل ذلك من أجل إعادة العالم العربي إلى قلب التاريخ الحديث للبشرية، بعد أن خرج من التاريخ بسبب أخطاء ارتكبها سياسيوه من حكام وأحزاب في السلطة وفي المعارضة
من هنا يحق لنا التساؤل، ألم يحن الوقت ليعيد اليساريون الذين استفتاهم الحوار المتمدن حول شؤون الربيع العربي منذ أكثر من عامين… ليعيدوا النظر بما قالوه في حينه؟ كثيرون أجابوا على أسئلة الموقع حينذاك وتفاوتت إجاباتهم بل تناقضت، فقال بعضهم إن اليسار كان غائبا كليا عن ساحة الربيع، فيما رأى آخرون أنه لعب دورا محورياً، وكان هناك شبه إجماع على ضرورة إخراج اليسار من أزمته. من جانبي، أرى أن هذه الضرورة ملحة إلى آخر الحدود، ولا يمكن أن تترافق عملية التجديد مع التمسك بالماضي الغني الذي لا تقاس إنجازاته إلا ضمن حدودها التاريخية
مع ذلك ليس من حق النقد أن يتجاوز الحد حين يتناول سيرة مناضلين وقوى سياسية كان لها دور وفعل في التاريخ، على غرار ما فعله بعض المحاورين حيال الحزب الشيوعي اللبناني وأمينه العام السابق. وليس من النقد بشيء التجديف على تاريخ هذا الحزب الغني بتجربته وصاحب الريادة داخل الحركة الشيوعية بتضحيات مناضليه وعطاءات مفكريه وعدد شهدائه دفاعا عن قضية شعبه وعن قضية الشعب الفلسطيني. ولا أعتقد أن من اللياقة التهجم على اختيارات الحزب التنظيمية والسياسية بأسلوب الشخصنة.
طرح أحدهم قضية على غاية من الأهمية سبق أن تناولها عدد من المفكرين العرب الكبار من خلال مناهج متعددة. حسين مروة، الطيب تيزيني، محمود أمين العالم وآخرون على منهج المادية التاريخية الماركسي، جورج طرابيشي على منهج التحليل النفسي، محمد عابد الجابري وتلامذته من فلاسفة المغرب ومحمد أركون وسواهم، على مناهج مركبة من الألسنية والبنيوية والماركسية والتحليل النفسي. فيما تناول آخرون قضايا النهضة العربية وهم أكثر من أن يعدوا ويحصوا.
هؤلاء الأساتذة أسهبوا وأجادوا في التحليل وزودوا المكتبة العربية بزاد غني من عشرات الكتب وما نطرحه اليوم في بحثنا يستفيد مما قدموه، ويحاول أن يستكمله بما نظنه مفيدا لتعميق البحث.
التاريخ ثروة بإمكاننا أن نوظفه ليكون حافزا وملهما ، كما أن من الممكن توظيفه في غير مصلحة التقدم. الأصوليات لا تحسن قراءة التاريخ ولا التراث. هذا ما تفعله كل الأصوليات، بما فيها اليسارية، وليس فقط الدينية والقومية. الفكر القومي الأصولي مثلا راح يبحث عن مقومات الأمة في التاريخ، والاشتراكيون راحوا يبحثون عن بذور الاشتراكية في بعض كلمات عن العدالة والاسلاميون راحوا يبحثون عن الديمقراطية في كلمة الشورى. هذا النوع من البحث غير تاريخي ولا يفيد المستقبل.
ما أراه ضروريا في معالجة موضوع الأصوليات هو عدم التعامل مع النصوص بصورة جامدة وعدم السعي إلى تطبيقها تطبيقاً حرفياً وعدم نقلها نقلا ميكانيكياً. كل كلمة قيلت كانت لها ظروفها، والقوانين العامة في التاريخ تخضع لمبدأ يعبر عنه مهدي عامل في كلامه عن “التنوع والكونية في الماركسية اللينينية” أي أن لكل قانون من قوانين التاريخ والعلوم الاجتماعية خصوصية في التطبيق تتعلق بالظروف الملموسة لكل مجتمع، وبناء على ذلك يتوجب على المناضلين في كل التيارات أن يشخصوا مشاكل بلدانهم لا بمعايير النصوص القديمة، بل بتفحص دقيق لأعراض الأزمات الراهنة في كل بلد من بلدانهم.
بناء على ذلك أظن أن المسؤولية المباشرة لا تقع على النصوص بل على تأويلاتها. حتى النصوص الواضحة التي لا تحتاج إلى تأويل والتي تدعو إلى العنف مثلا في النص الديني، فعلى قرائها أن يأخذوا بالاعتبار الظروف الملموسة التي أنتجتها. من ناحية أخرى ليس هناك من نص بشري مقدس، وإذا كان هناك من قداسة فهي تلك المتعلقة بالألوهة وهذا بعض من تجليات الإيمان لا العلم. أما العلم فهو يخضع لمعايير أخرى، من بينها أن لكل جيل من العلوم حدوداً تاريخية، أي أن الجيل لا يبقى صالحا لكل زمان ومكان، لكن الجيل الجديد لا يلغي القديم بل يتجاوزه بالمعنى الإيجابي، أي يستوعبه ويستكمله ويبني عليه ويضيف إليه، وهكذا تتوالد العلوم من بعضها، وعلى المنوال ذاته تتوالد الأفكار وتتطور إلى أن يحدث اكتشاف جديد، فيكون من شأنه أن يحدث – ثورة- علمية. هكذا مثلا حصل بعد اكتشاف البخار أو بعد اكتشاف الذرة.
آفة الأصوليات في السياسة هي أنها تحيط الإيديولوجيا بهالة من القداسة، والإيديولوجيا مستبدة لأنها لا تعترف بسواها ولهذا تتصارع الأحزاب الإيديولوجية لتلغي بعضها بعضا، اعتقادا من كل منها أنها وحدها تملك الحقيقة المطلقة.
أزماتنا السياسية ناجمة عن هذا النوع من التفكير. والحل ، ولا حل غيره هو البحث عن صيغة للتفاعل بدل الالغاء، عن صيغة لقبول الآخر، عن صيغة لحماية التنوع والتعدد. لا حل غيره، القانون وسيادة القانون التي تجسدها دولة المؤسسات. الدولة الديمقراطية، التي بإمكان المرء أن يناضل فيها من أجل التقدم والتغيير … وإذا حانت في المستقبل لحظة الثورة فلا بد من أن يتوفر لينينها ، ولكل حادث حديث.
أزمة الحزب الشيوعي اللبناني
انتهت مرحلة نهوض الحزب الشيوعي اللبناني عام 1983 ودخل في مرحلة أزمته تزامنا مع بداية ظهور الأزمة في الاتحاد السوفياتي، لكن الأسباب المباشرة لأزمة الحزب كانت ذات طبيعة مختلفة متعلقة بالدرجة الأولى باصطدام مشروعه الوطني مع “حلفائه ” في حركة التحرر الوطني، وشركائه في النضال ضد العدو الصهيوني، فضلا عن وقوف الأنظمة العربية كلها موقفا واحدا معارضا للتغييرات الديمقراطية التي شارك الحزب، مع الأحزاب والقوى الوطنية المنضوية في إطارالحركة الوطنية اللبنانية، في المطالبة بها وطرحها في البرنامج المرحلي للاصلاح السياسي. تولى النظام السوري ضبط “الحركة الثورية” في لبنان وضبط إيقاعها على استراتيجيته للمواجهة مع العدو الصهيوني، القائمة على تأجيل المعركة صونا للنظام الأسدي الأبدي (الأسد إلى الأبد) من أي أذى.
انفجرت الأزمة أواخر الثمانينات لهذا السبب بالذات، لكن الانفجار تزامن مع انفجارها في موسكو، ما جعل الاعتقاد يسود بأن أسباب الأزمة خارجية، ولا شك أن هناك أسباباً عامة متعلقة بالتجربة الأم، غير أنه إذا كان انهيار التجربة الاشتراكية ناجماً عن مؤامرة امبريالية، كما توهمت الأصولية الشيوعية، فمن الطبيعي، بناء على مقتضى هذا الوهم، ألا يكون للحلفاء المحليين أي دور في الأزمة، وأن تركز الاتهام، بالتالي، على دور الامبريالية وحلفائها، ما استتبع مزيدا من التضامن مع من يزعم المواجهة مع الامبريالية والصهيونية في العالم العربي، فتعمق التحالف مع قوى الممانعة المرتبطة بالنظام السوري.
في هذه المرحلة من الأزمة حصل انقلاب(سلمي) داخل الحزب على قرارات المؤتمر السادس، وتولت قيادة جديدة إدارة شؤون الحزب، وكان قرار جورج حاوي بالاستقالة من القيادة تعبيراً عن أمرين، الأول إعلان نهاية المشروع الوطني الديمقراطي الذي طرحه الحزب بقيادة جورج حاوي في مؤتمري 68 و73 تحت عنوان لبناني “في سبيل حكم وطني ديمقراطي في لبنان يفسح في المجال أمام الاشتراكية”، وعنوان عربي طرحه مؤتمر 79 “نحو حركة تحرر وطني من طراز جديد”. الثاني عدم اقتناع الحزب بسقوط الشعارين والبرنامجين وباستحالة تحقيقهما، بل هو لم يقتنع بأن هذا السقوط ناجم عن اصطدامهما لا بالامبريالية والصهيونية والاستعمار، بل بالحلفاء في حركة التحرر الوطني، الأنظمة العربية التقدمي منها والرجعي، والأحزاب القومية والدينية.( في تلك المرحلة مني الحزب بخسائر كبيرة، عشرات من قياداته ومناضليه سقطوا برصاص “أخوي رفاقي”.
مع ذلك أصرت القيادات المتعاقبة على الحزب مع ثلاثة أمناء عامين على البحث عن مخارج من فتات البرامج القديمة، وعلى التحالف مع القوى التي أعاقت تنفيذ الشعارين والبرنامجين المطروحين في مرحلة النهوض. بات الحزب في هذه المرحلة الممتدة من أول التسعينات حتى اليوم يغرف من معين تاريخه النضالي العريق، وتحول هذا النهج إلى مزيد من الغرق في “الأصولية” ، حتى أن بعضا من اللاوعي النضالي لم يكن يصدق أن الاتحاد السوفياتي انهار ولم يصدق أن روسيا أيام بوتين هي غيرها أيام الأممية المنهارة.
من المؤتمر السابع وحتى الأخير كانت قيادة الحزب تدير الأزمة الداخلية من غير أن يكون له قضية مستقلة، وبات على الحزب أن يناضل من أجل قضايا سواه، الدفاع عن “المقاومة” التي كان له فيها باع طويل، لكنها لم تعد مقاومته، بل صارت مقاومة ضده، والدفاع عن النظام السوري بحجة أنه يدعم المقاومة، وبحجة أنهما (النظام السوري والمقاومة) يمثلان رأس الحربة القومية ضد العدو الصهيوني والامبريالية، لكن هذا التحالف معهما كان حباً من طرف واحد، دفع الحزب بسببه من هيبته ونفوذه وسمعته وموقعه وتاريخه. أفدح الأثمان دفعها حين وقوفه إلى جانب النظام السوري بعد خروجه من لبنان ثم ملحقاً بحلفاء النظام عند اندلاع ثورة الربيع العربي في سوريا ومدافعا عن السياسة الإيرانية بحجة أنها في مواجهة الامبريالية والصهيونية.
المؤتمر الأخير خطا خطوة إلى الأمام لكنها خطوة متعثرة. فهو حقق مبدأ التداول السلمي للسلطة في الحزب، لكن ذلك حصل بتسوية بين فريقين في السلطة يعتقد كل منهما أن أزمة الحزب أزمة تنظيمية لا علاقة لها بالشأن السياسي. ولهذا فقد سلكت القيادة الجديدة نهجاً أكثر مرونة في إدارة الحوار بين الشيوعيين واليساريين، لكنه حوار يعيقه موقف سياسي لم يغادر موقعه السابق كحليف لقوى الممانعة. كان من نتائج ذلك تنفيس الاحتقان الذي بلغ ذروته قبل المؤتمر ثم تراجع بصورة ملموسة إثر إخراج المسؤولين المباشرين عن الاحتقان من قيادة الحزب.
من بداية الأزمة طرحنا على قيادة الحزب ما نطرحه الآن على اليسار اللبناني وعلى اليسار العربي، وخلاصة طرحنا هو إعادة النظر بسياسات اليسار التي كانت مبنية على أساس الفرضية السوفياتية القائلة إن هذا العصر هو عصر الانتقال إلى الاشتراكية، وضرورة البحث عن فرضية جديدة بعد انهيار الاشتراكية المحققة والمعسكر الاشتراكي والدول الدائرة في فلكه أو في الفلك الصيني، وخلاصة فرضيتنا هي التالية: إعادة الاعتبار للفكر الاشتراكي مهمة ملحة، لكنها لا تقع على عاتق اليسار اللبناني وحده ولا العربي، بل هي مهمة كونية على المفكرين اليساريين في العالم، ولاسيما منهم الماركسيون، أن يعيدوا صياغة المشروع الاشتراكي، وهذا قد يتطلب عقودا. بانتظار ذلك على اليسار في كل كيان وطني أن يتولى صياغة قضيته الخاصة، انطلاقا من الظروف الملموسة في كل بلد. وقد ظهر لنا من التجربة اللبنانية أن الأنظمة في العالم العربي كله، من محيطه إلى خليجه، وضعت شعوبها أمام خيارين لا ثالث لهما، إما تأبيد الاستبداد بصيغته الجمهورية الوراثية أو صيغته القروسطية في السلالات الملكية إما الحروب الأهلية. قلنا ذلك قبل اندلاع أحداث الربيع العربي بأكثر من عقدين. وبناء على ذلك تغدو المهمة الملحة هي البحث عن الخيار الثالث البديل عن هذين الخيارين الخطيرين على مستقبل الأوطان العربية. البديل الوحيد الممكن في ظل الظروف الدولية الراهنة والتي ستستمر طويلاً، هو مواجهة الاستبداد وحماية الوطن من ويلات الحرب الأهلية، ولن يتم ذلك إلا بقيام دولة تنظم التنوع الاثني والطائفي والديني والسياسي واللغوي( وهو تنوع موجود داخل كل وطن عربي) بدل أن تفجره بالحرب الأهلية على غرار ما حصل في لبنان والصومال والسودان والجزائر، وأخيرا في ليبيا واليمن وسوريا). الدولة الديمقراطية هي الحل، دولة القانون والمؤسسات والكفاءة وتكافؤ الفرص والحريات والعدالة.
لقد عرضت في كتابي عن الربيع العربي منهج التفكير الممانع المدافع عن الاستبداد والمتضامن مع الأنظمة ضد الثورات، وتوجهت فيه إلى أهل اليسار الممانع الذي كان يتظاهر في بيروت أمام السفارة المصرية دعما للثورة، قائلاً لهم “أيها المتضامنون هذه الثورة قامت ضدكم”. كتبت ذلك في شباط 2011 أي قبل أن ينتبه اليسار الخشبي إلى أن الثورة ليست ضد الاستعمار ولا ضد أعداء الاتحاد السوفياتي بل هي دعوة لإسقاط أنظمة الاستبداد.
وفي هذا الكتاب ناقشت كبار فلاسفة الاقتصاد، وهم أساتذتي، ومن موقع الاحترام الكبير لهم، معترضا على منهجهم في قراءة أحداث الربيع العربي. قد تكون الأسباب، في التحليل الأخير، وأشدد على التحليل الأخير، متعلقة بالبنية التحتية والاقتصاد، إلا أن المحرك الرئيسي لإحداث الربيع العربي كان سياسيا بامتياز، أو على الأقل، إن أي حل للأزمة الناشبة لن يكون إلا حلا سياسيا: الدستور، الحياة الديمقراطية، تداول السلطة… باختصار، الشعب يريد إسقاط النظام الوراثي. نحن في لبنان ابتكرنا شعاراً آخر يتناسب مع أوضاعنا. في لبنان الدستور موجود، لكنه “معلّق” بطريقة مبتكرة. ينتهكه أهل السلطة بقوة ميليشياتهم، ولذلك رفعنا شعار”الشعب يريد تطبيق النظام” أي احترام الدستور وتطبيق القوانين.
ما العمل؟
أما السؤال عن الحل، فهو ذاته السؤال الذي طرحه شكيب أرسلان منذ أكثر من قرن، على الشكل التالي، لماذا تقدم الغرب وتخلف المسلمون. ثم طرحه من بعده وحاول أن يجيب عليه رواد الإصلاح الديني والسياسي والثقافي في عصر النهضة، بدءا بالأفغاني ومحمد عبده وانتهاء بالأحزاب الدينية المعاصرة، الجماعة الإسلامية ومتفرعاتها وحزب الله وأشباهه، مروراً بالحركة القومية ورموزها من سعد عرابي إلى الأحزاب الناصرية والبعث، ثم الأحزاب اليسارية الشيوعية منها والاشتراكية.
لم يتوصل أحد إلى وضع العالم العربي على سكة التطور الصحيحة، رغم مظاهر التقدم التي أحرزت على الصعيدين الاقتصادي والثقافي. هذه هي فرضيتي في كتابي، هل الربيع العربي ثورة؟ تقول الفرضية إن العالم العربي دخل في الحضارة الحديثة ( الحضارة الراسمالية) من بابي الاقتصاد والثقافة إلا أن القوى السياسية الحاكمة والمعارضة امتنعت عن ولوج الباب السياسي لهذه الحضارة، أي باب الديمقراطية التي تعني أول ما تعني القبول بالتنوع والتعدد ، أي قبول الآخر، وهي السبيل الوحيد لتفادي الحروب الأهلية، خصوصاً أن أنظمة وأحزاب الاستبداد وضعت الشعوب أمام خيارين، إما الاستبداد (أحكام عرفية ، أنظمة بلا دساتير أو بدساتير معلقة) إما الحروب الأهلية، وقد نفذوا وعيدهم في لبنان والجزائر والسودان والصومال وسوريا واليمن. وحيث أمكن التوصل ، بالحد الأدنى، إلى تعديلات دستورية وإلى تطبيق هذه التعديلات بما يضمن تداول السلطة، تأمنت شروط استقرار سياسي ينبغي تثبيته وتطويره نحو الأفضل( تونس والمغرب بشكل خاص، ومصر التي نجحت في تفادي الحرب الأهلية، لكن ثمن ذلك دور متزايد للمؤسسة العسكرية. الحل بالدولة المدنية الديمقراطية، دولة الدستور والمؤسسات وتداول السلطة.
الاستبداد آفة العصر
المعيار الذي نعتمده في قراءتنا النقدية هو الموقف من أنظمة الاستبداد، واستناداً إليه كل أنظمة الاستبداد سواسية حيال قضايا الثورة، ولا فرق بين استبداد ملكي أو استبداد جمهوري. أما المطالبة بإصلاحات فهي البديل عن الحروب الأهلية، وربما شكلت تجربة المغرب العربي في الإصلاح السياسي نموذجاً إيجابياً مقبولاً يمكن البناء عليه، وإلا فلا مناص من الحروب الأهلية التي، في حال نشوبها، خصوصاً في أنظمة النفط الخليجية، لن تستعيد إلا صورة داحس والغبراء، مع فارق بسيط، بسيط جدا، جدا جدا، وهو أن نيران النفط ستحرق الأخضر واليابس من حاضر السلالات ومستقبل شعوب المنطقة
نعم الإصلاح السياسي أولا. هذه هي فرضيتي، الاستبداد كان يبدد نضالاتنا اليسارية، والاستبداد له أب وأم وشجرة عائلة، ونقيضه وبديله النظام الديمقراطي، الذي يحترم حق الاختلاف ويقوم على تداول السلطة. أحزابنا كلها، الدينية والماركسية والقومية لم تكن تعترف بالآخر ولا بتداول السلطة، وبسبب طبيعتها الاستبدادية هذه لم تبلغ التضحيات اليسارية الكبرى الصادقة نهاياتها السعيدة. ولهذا السبب أيضاً سقطت التجربة الاشتراكية الكبرى في الاتحاد السوفياتي، فيما راحت التجربة الموازية في الصين تبحث عن مخرج لها بتحرير الاقتصاد والإبقاء على نظام سياسي مغلق، وهو ما لا يكفي لتنجو من ربيع ما في يوم ما. أوروبا دفعت الثمن غاليا ومعها كل البشرية في حربيها العالميتين وحروبها التي سبقت قبل قرنين لتكتشف أن إنجازات الثورة الفرنسية لم يكن ممكنا الحفاظ عليها من غير الديمقراطية واحترام التنوع وتداول السلطة. هذا هو الحل لمشاكل بلادنا. كل حزب سياسي لا ينطلق من هذه الحقيقة سيصيبه ما أصاب سواه من القوى الحاكمة أو المعارضة وسيتعرض لعواصف ربيعية عاجلا أم آجلا.
الانتقال إلى الاشتراكية أم إلى الدولة؟
في مقدمة الكراس عن اليسار بين الأنقاض والإنقاذ 2005كتبت في الإهداء:
إلى كل المناضلين الذين يحدوهم الأمل في استنهاض صفحات اليسار الناصعة. وفي التمهيد:
“هذا النص محاولة للبحث عن صورة جديدة لليسار، عن نفحة جديدة لقوى التغيير في المجتمع اللبناني. وهو نوع من المساجلة مع الذات ومع المحاولات المماثلة التي ظهرت منذ انهيار اليسار بمعناه القديم، أي منذ ما يقارب العقدين من الزمن. ولأنه كذلك، فهو سيفتح بعض النوافذ على الماضي، رغبة في تصويب المسار نحو المستقبل
في أواسط الثمانينات من القرن الماضي بدأت تظهر بوضوح علامات سقوط التجربة الاشتراكية السوفييتية، ومنهم من موقعه اليساري من استشرف سقوطها قبل ذلك، غير أن انهيارها لم يتأخر إلا سنوات. ردة الفعل على ذلك كانت متنوعة في صفوف الحركات اليسارية و القومية والتحررية والتقدمية، وفي صفوف الشيوعيين. على جبهة اليسار اختلط الحابل بالنابل، شيوعيون واشتراكيون في حكومات أوروبية، وقوميون وتقدميون من بقايا حركة التحرر الوطني العربية، اصطفوا بالنظام المرصوص خلف القوات الأميركية في حرب الخليج الأولى وفي يوغسلافيا، ولم تعد خطوط التماس واضحة بين اليمين العالمي الذي تتزعمه الولايات المتحدة، واليسار الذي تيتّم بانهيار الاتحاد السوفياتي. إذن صار من الضروري والملح أن يعاد رسم خريطة اليسار العالمي من جديد، بل أن يعاد بناؤه، و صار ضروريا أيضا وضع تعريف جديد لليسار ولليمين يساعد على إعادة تصنيف القوى السياسية محليا وعالميا، ويساعد على فهم اصطفافاتها.القوى المحسوبة في جبهة المواجهة مع الامبريالية حسبت نفسها، ماعدا الشيوعيين، غير معنية بالانهيار-اليساري- المدوي، بل هي راحت، فوق ذلك، ترى أن انهيار الشيوعية هو خير تأكيد على صحة النهج الذي اتبعته في إطار تنافسها مع الحركة الشيوعية على تمثيل اليسار المحلي ، حتى أن بعض هذه القوى أخذت تعد العدة لوراثة الأحزاب الشيوعية المحلية .
أما الشيوعيون فلم ينظروا بعين واحدة لهذا الحدث الكبير. منهم من هلل ( بقايا تروتسكيين وماويين ومغامرين جدد ) لهزيمة اللينينية، الدليل العملي، في نظرهم، على صواب التروتسكيية! ومنهم من جرفه الانهيار بسيله فلم يقتصر تنكره على التنصل من التزامات حزبية، بل طال انتماءه الفكري أيضا، ومن الشيوعيين الأفراد من اعتكف بموقف شريف من مسألة الانتماء متحسرا وغير نادم على ماضيه النضالي ، يحدوه الأمل في أن تتعافى الحركة الشيوعية وتعود بنفحة جديدة، وهؤلاء هم الأكثرية الساحقة من المناضلين في صفوف الحزب الشيوعي اللبناني والأحزاب المماثلة .
الذين أصروا على انتظامهم الحزبي منهم من رأى أن الانهيار مجرد حدث عادي تعود أسبابه إلى مؤامرات حاكتها الامبريالية، وأن عودة الأمور إلى نصابها هي مسألة وقت، فجسدوا بذلك أوضح صور الجمود العقائدي، مقابل تيار واسع تنكب مهمة البحث عن أسباب الانهيار خارج منطق المؤامرة، أي في بنية الحركة الشيوعية فكريا وسياسيا وعلى صعيد التنظيم، وهم، على ما نظن، ما برحوا، في مرحلة البحث هذه ، يحكون الأدمغة مع أمثالهم من المناضلين والمفكرين المنتظمين وغير المنتظمين في أطر حزبية.
-مع انهيار الاتحاد السوفياتي انهارت منظومة القيم النضالية والمفاهيم المرتبطة بها .أول هذه المفاهيم – الضحايا هو مفهوم الانتقال إلى الاشتراكية . فقد كان عصب إي برنامج سياسي لدى اليسار الاشتراكي أو الشيوعي يستند إلى الاعتقاد بأن هذا العصر هو عصر الانتقال إلى الاشتراكية . مع الانهيار فقد هذا الاعتقاد ، ومعه شعاره ، موازين القوى الموضوعية التي قام عليها على مستوى الصراع العالمي- فبات من الضروري الانتقال خطوة إلى الوراء، استعداداً ل-خطوتين إلى الأمام-، والخطوة هذه ليست سوى حك الأدمغة لإعادة صياغة فكرة الاشتراكية من جديد، أو بتعبير آخر، لإعادة الاعتبار للفكر الاشتراكي، وليس لنا غير معين واحد هو التراث الماركسي الغني الذي قلنا بشأنه، ومن غير مواربة، أن العالم اليوم في حاجة إلى اليسار أكثر من أي وقت مضى، ومن حسن حظ اليسار في العالم أنه تحرر من هيمنة التأويلات السوفياتية للماركسية، لأن اليسار اليوم أكثر ما يكون حاجة للماركسية من أجل إتمام هذه المهمة التي لن تتحقق خارج جبهة “حك الأدمغة”
أول نتائج التحرر من الصور النمطية لليسار المتسفيت، أن المشتغلين في جبهة حك الأدمغة، راحوا يتساءلون عن المتغيرات المحلية بعد الانهيار، وكان أبرز هذه المتغيرات انكشاف من جعلهم الاتحاد السوفياتي حلفاء له في صراعه العالمي، ولم يكتف بذلك بل فرض على اليسار المحلي الانضباط تحت أوامرهم، وقد استمر هذا النهج رابضاً على صدر الشيوعيين من بداية تأسيس أحزابهم حتى مطلع التسعينات من القرن الماضي، عندما اكتشفنا، في جبهة حك الأدمغة فقط، أننا مرغمون على التحالف مع -جلاّدينا- من الأنظمة التي استبدت بشعوبها باسم القضية القومية وباسم النضال ضد الامبريالية من ضمن جبهة القوى التقدمية والاشتراكية في العالم وعلى رأسها الاتحاد السوفياتي. أبرز صورة لهذا التحالف المهين تلك التي كانت بقيادة معمر القذافي في لحظة سوداء من نضال الشيوعيين الصادق اندفعوا فيها ليقاتلوا بإمرته في تشاد.
كان ذاك التحالف مدمراً للقيم اليسارية. كنا متحالفين مع أنظمة متوحشة هي بدورها متحالفة مع أنظمة سلالات لا تقل توحشاً. توحش واستبداد منع الحركة الوطنية اللبنانية من إحراز انتصارها وأرغم أحزابها على اتباع سياسة التحاقية تحت طائلة التهديد بالقتل الصريح، وفي مرحلة لاحقة منع ثورة الربيع العربي من تحقيق أهدافها. لقد عمل اليسار السوفياتي وحلفاؤه على إقناعنا بأن الخطر يأتي دائما من الخارج،إلى أن اكتشفنا أن الخطر الحقيقي الذي دمر كل أفكار -التقدم- وقضى عليها في مهدها هو خطر داخلي عنوانه واحد هو الاستبداد وتجلياته عديدة ومتنوعة. أنظمة الاستبداد هي التي قمعت طاقات الشعوب العربية وإمكاناتها المادية والعلمية، وهي التي، باسم الصراع مع العدو الخارجي، الصهيونية والاستعمار، بنت جيوشاً من المخابرات وكدست ثروات وفرضت على الشعوب واحدا من خيارين إما الحروب الأهلية إما أنظمة الاستبداد الأبدية. نظام الأسد إلى الأبد ليس وحيدا في العالم العربي، بل إن هذه البقعة من الكرة الأرضية هي الوحيدة التي ما زالت تعيش عليها ممالك وسلطنات وجمهوريات وراثية، وكان القذافي، عميد الحكام في العالم ( أكثر من أربعين عاما) هو تعبير صريح عن هذا التخلف السياسي الذي يعيش في ظله العالم العربي، والذي تؤمن التغطية التقدمية لجمهورياته أحزاب يسارية سوفياتية الهوى، فيما تتناغم هذه الجمهوريات الوراثية مع أنظمة السلالات على إلغاء الدساتير أو تعليقها.
الاستبداد علاجه واحد وحيد. لا يعالج الاستبداد بمثله. بل بالديمقراطية. الاستبداد يعني أن يتفرد الحاكم برأيه، وألا يأخذ برأي سواه. والعلاج باحترام التنوع والتعدد، وهذا هو تعريف الديمقراطية الأولي. الاعتراف بالآخر ثم احترامه، لا كما هي الحال في بلاد هذه الأمة من محيطها إلى خليجها، حيث المعارض فيها إما مقتول أو مسجون أو منفي.
انطلاقاً من هذا التشخيص، توصلنا، نحن جبهة حك الأدمغة، إلى استنتاج -يساري- يقضي بعدم الوقوف مكتوفين بانتظار ماركس جديد أو لينين جديد، وإلى أن يتمكن الفكر اليساري العالمي من إعادة الاعتبار للفكر الاشتراكي، علينا أولا ألا نناضل تحت راية قضية خاسرة، وعلينا ثانياً أن يكون لنا قضيتنا ، أن يكون لكل شعب من شعوبنا قضية، وإن على اليسار الشيوعي، في ظل انهيار التجربة الاشتراكية، أن يختار قضية مقنعة، ورأينا، نحن جبهة حك الأدمغة، أن توحيد الأوطان التي هددتها أنظمة الاستبداد ودمرتها بالحروب الأهلية لا يكون بغير بناء الدولة، الدولة الديمقراطية التي عليها أن تحمي حرية النضال، أن تحميه من بطش الأنظمة التقدمية واستبدادها أولا. لذلك سارعنا إلى إعلان ذلك في وثيقة صادرة عن قيادة الحزب الشيوعي اللبناني في الجنوب تحت عنوان، في سبيل إعادة بناء الوطن والدولة، ثم رحنا نطور الفكرة عاما بعد عام، ونبشر بها داخل الحزب الشيوعي اللبناني، إلى أن ضاق الحزب ذرعاً بهذه القضية وعدها “بدعة” وحكم على أصحابها مثلما تحكم أنظمة الاستبداد على المعارضين. منطق التحليل هذا أوصلنا إلى استنتاج آخر فصلناه في كتابنا -هل الربيع العربي ثورة؟ قراءة يسارية-. وسأصغي بتمعن لمن يتجرأ على قراءته قراءة نقدية
ما هي الدولة؟ ما هي الديمقراطية؟
الأزمة في بلداننا ليست في ضعف القوانين ولا في عشوائيتها، بل في غيابها. غير أنه يحلو للبعض أن يقارنوا بين أوضاع بلادنا وتلك التي تعيش في ظلها البلدان الرأسمالية المتطورة، فتتحول المقارنة إلى عائق معرفي، ولاسيما عند حصرتعريف الرأسمالية المتطورة ب”الغرب” والاكتفاء بهذه الصفة وتجاهل الصفة الأساس في تلك الحضارة وهي أنها حضارة. وسأحاول أن أشرح وجهة نظري وأفصل قليلا حول هاتين الملاحظتين.
أولا بالنسبة إلى القوانين. بلدان “التخلف” هي البلدان التي لم تدخل إلى الرأسمالية من أبوابها الثلاثة، بل من بابين اثنين منها ( فرضيتي في كتاب، هل الربيع العربي ثورة، هي أن الرأسمالية بدأت تتكون كحضارة منذ أواخر القرن الخامس عشر، أوائل السادس عشر، وهي بدأت بثورة في الاقتصاد وأخرى في العلوم وتتوجت بعد قرنين عبر الثورة الفرنسية، في السياسة). فضيلة الثورة الفرنسية على سواها أنها كانت ثورة سياسية، وهي كانت ضرورية لحماية الثورات في الميادين الأخرى، وأهم ما أنجزته الثورة السياسية إلغاء أنظمة الوراثة وتحويل الحاكم من ممثل الله على الأرض إلى ممثل للشعب. طبعاً، احتاج الأمر إلى وقت طويل لتستقر الأمور على صيغة معقولة ومقبولة من الديمقراطية، وما كان ذلك ممكنا إلا باعتماد القوانين الوضعية. في بلداننا حصل الدخول إلى الرأسمالية ( ولو مشوّهاً) الكولونيالية بحسب تعبير مهدي عامل، من الباب الاقتصادي ومن الباب الثقافي. أما الباب السياسي فقد أوصده الحكام المحلييون بامتناعهم عن بناء الديمقراطية بل بتقويضهم أسسها وقضائهم على بذورها الأولى. وقد حصلت محاربة القانون إما بعدم اعتماده في البلدان التي لا دساتير فيها، إما بعدم احترامه من قبل الحاكم الذي يتصرف بالشأن العام وكأنه لا وجود لقانون. من أبرز مظاهر ذلك على سبيل المثال، عدم توقيع الحكومات العربية على المعاهدات الدولية، أي على القوانين الصادرة عن المؤسسات الدولية، وعدم الالتزام بالقوانين في حال وجودها وهو ما يفسر حجم الفساد المتفشي في أنظمتنا لأنها لا تخضع لأية معايير قانونية ( متل قانون من أين لك هذا الذي لم يطبق على أي مسؤول.
أما عدم تسمية الحضارة الرأسمالية باسمها فهو طريقة النعامة في التعامل مع المخاطر، وهو يشبه اللغة المستخدمة في أدبيات الحركة القومية القومية حيال الكيان الصهيوني( اعتادوا على ذكره بعبارة “ما يسمى” بدولة إسرائيل) وكأنه يكفي أن نلغي الاسم لنلغي حامله. الرأسمالية حضارة. هذا ما أكد عليه ماركس في كتاباته( وقد ذكرت مقتطفات منها في كتابي ، هل الربيع العربي ثورة). لكن اللينينية والأحزاب الشيوعية وضعت خططها وبرامجها لمحاربة الرأسمالية، بالمعنى المطلق للكلمة، استناداً إلى ثنائية المفاهيم الدينية، الحلال والحرام، دار الكفر ودار الإيمان، فيما لم تطلب الماركسية من الماركسيين والشيوعيين غير محاربة الجانب السلبي من الرأسمالية وهو استغلال الانسان للإنسان، وهذا لب التحليل الاقتصادي الماركسي المتعلق بالقيمة الزائدة وبنهب القيمة الزائدة، وهو ما تعمم اسمه ليصير النهب الرأسمالي والرأسمالية المتوحشة، وهي كلها نعوت تستحقها آليات النهب الرأسمالية. الماركسية لم تدع إلى محاربة العلم والتقدم ولا إلى محاربة التطور السياسي الهائل الذي أحدثته الثورة الرأسمالية بقضائها على أنظمة الوراثة، وهي لم تدع إلى محاربة البحبوحة بل إلى محاربة طريقة توزيعها
في حوار مع السيد محمد حسين فضل الله عن الديمقراطية والحرية أجاب على السؤال حول موقف الحركات الإسلامية من الحرية، قائلاً، إن الإسلام السياسي مع الحرية طالما هو في المعارضة، وحين يصبح في السلطة فلا حكم إلا لله. هذه من أعراض الأصولية التي ظهرت في تعليقات من يطالبون بالديمقراطية كمرحلة انتقالية، أي كإطار يتيح لهم أن يناضلوا من أجل مشروع آخر، وهو ما ينطبق حرفياً على ديمقراطية الشيوعيين التي تعتمد حكم الحزب الواحد. الديمقراطية مهمة وضعها التاريخ على جدول عمله، وستسقط وحدها ( مثيل اضمحلال الدولة )حينما تبلغ حدودها التاريخية( بحسب التعبير الماركسي) ليضع التاريخ على جدول عمله مهمة أخرى. أما التحقيب فهو إرث لينيني أو ستاليني، وهو الذي أوقع الأحزاب اليسارية والشيوعية في المطبات التي أشارت إليها بعض التعليقات، والتي بموجبها راحت تلك الأحزاب تتذاكى في اختيار تحالفاتها المرحلية لتجد نفسها لا في العير ولا في النفير، لا مع الديمقراطية ولا مع الاستبداد، أو قل مع الديمقراطية ومع الاستبداد في آن واحد.
بعض التعليقات انطلقت من تعريف مغلوط للديمقراطية، وترتب على ذلك استنتاجات مغلوطة.
وجود طبقة حاكمة وطبقة محكومة لا يخص نظاما معينا، بل هو أمر مشترك في كل الأنظمة الديمقراطية والاستبدادية الملكية والجمهورية والإمبراطورية والسلطانية والأميرية. إذن تعريف الديمقراطية بأنها تعني -أن هناك في المجتمع طبقة حاكمة وطبقة محكومة – هو تعريف غير صحيح. والصحيح أن الديمقراطية لها أم وأب ، وهي تنتمي إلى شجرة عائلة جذورها الثورة العلمية الفلسفية والاقتصادية والسياسية التي شهدتها أوروبا بين القرنين السادس عشر والثامن عشر، جذرها الفلسفي هو الكوجيتو الديكارتي وجذرها الاقتصادي هو حرية رأس المال , وهي مفهوم أو مصطلح سياسي ظهرت صيغته الجديدة مع قيام النظام الجمهوري في أعقاب الثورة الفرنسية. وقد استمرت آثارها داخل أوروبا حتى نهاية الحرب العالمية الثانية. هي تعني الأغلبية والأكثرية، وتعني صناديق الاقتراع وتعني حكم الشعب وتعني العلمانية، لكنها تعني قبل هذا وذاك أمرا أساسيا وهو احترام الرأي الأخر وعدم إلغائه لا بالقتل ولا بالسجن ولا بالنفي كما هي الحالة في أنظمتنا العربية. على هذا الأساس يكون من الطبيعي أن تكون الديمقراطية مظلة تحمي التنوع والتعدد، وفي ظلها يناضل المناضلون للتخفيف من حدة التفاوت الطبقي. الديمقراطية صيغة لتنظيم الاختلافات لا لتفجيرها. صيغة لتفادي الحروب الأهلية، صيغة للخروج من الخيارين المفروضين على شعوب أمتنا العربية: إما الاستبداد والحكم الوراثي والأبدي إما الحروب الأهلية. هذا ما هو في مقدورنا. أنت وأنا نستطيع فعل ذلك.
عن الديمقراطية اللبنانية
أوافق مع من يقول أن الديمقراطية اللبنانية ” نادرة ” ، وأن النظام نظام محاصصة، لكنني لا أوافق على أنها ديمقراطية طوائف، وأعتقد أن استخدام مصطلح الطائفية في غير مكانه الصحيح يضيع بوصلة التصويب على العلة وعلى الخصم وعلى سبب المشكلة.
هي نادرة وكل ديمقراطية معينة في بلد معين، يمكن أن تكون نادرة حين تعبر تعبيراً مطابقاً عن الظروف الملموسة لذاك البلد. هذا ما يمكن قوله عن الديمقراطية الأميركية مثلا، التي يمكن أن يفوز، بموجبها وبمعاييرها من لا يحوز على العدد الأكبر من الناخبين المواطنين.
النظام اللبناني فيه ملامح ديمقراطية تتمثل في صناديق الاقتراع مثلا أو في تواجد أكثر من رئيس للجمهورية على قيد الحياة، أو في الصحافة الحرة. مع ذلك فهو نظام استبدادي! وليس ديمقراطيا، لأن الركن الأساس في الديمقراطية هو الاعتراف بالآخر، وبعدم إلغاء الآخر. النظام اللبناني يعتمد على نظام انتخابي يقوم على مبدأ الأكثرية، ما يعني إقصاء المعارضة حتى لو نالت 49 بالمئة من أصوات الناخبين. فضلا عن ذلك، لم تتمكن الأكثرية النيابية من ممارسة دورها كأكثرية في دورتين متتاليتين، عام 2005 وعام2009 وذلك بسبب هيمنة العقلية الميليشيوية على آليات العمل السياسي. الديمقراطية الظاهرية المحققة في لبنان تدين بوجودها للتنوع الطائفي، ما يعني أن “الآية مقلوبة” هنا، فبدل أن تكون الديمقراطية هي الضمانة لحماية التنوع يبدو تعدد الطوائف هو الضمانة لحماية الديمقراطية. لكنها حماية سلبية، والحماية الإيجابية هي حماية القانون. لأن الطوائف لا تحمي التنوع احتراماً لمبدأ التنوع، بل بداعي المخاوف المتبادلة فيما بينها، من هنا يصح القول عن استخدام التنوع لا عن حمايته، عن توظيفه لممارسة السلطة الدينية على المواطنين، بعد تحويلهم إلى رعايا كل داخل طائفته.
من ناحية ثانية، نظام المحاصصة اللبناني( وكذلك العراقي بعد تحريره من الاستبداد البعثي) ليس محاصصة طائفية، أي أنه ليس محاصصة بين الطوائف، بل بين سياسيين يزعمون تمثيل طوائفهم، بينما هو لا يمثلون غير مصالحهم، ويستخدمون الطوائف ويستظلون بها ويستنفرونها عند حاجتهم إليها دفاعاً عن مصالحهم لا عن مصالحها. والدليل على ذلك أن الامتيازات التي يتمتع بها زعيم الطائفة لا توزع على أفراد الطائفة بل على بعض المستفيدين من بطانة الزعيم وحاشيته وأتباعه من المحازبين على صورة ابن الرومي في قوله، “… كما تنداح دائرة في لجة الماء يلقى فيه بالحجر”. تتلاشى الدوائر كلما اتسعت وابتعدت عن مركزها، فلا يكون نصيب الأبعدين إلا التصفيق والاصطفاف بين الرعاع والدهماء واستنفار العصبيات وإذكاء التناقضات المذهبية والطائفية والدينية.
اقتصار الديمقراطية على بعض ملامحها يجعل منها قناعا للاستبداد المنتشر في بلدان العالم العربي في صورة صريحة، والمموه في لبنان بديمقراطية مزيفة. ذلك أن لبنان يعتمد الوراثة في نظامه السياسي وفي أحزابه، ويعتمد التعيين في نظامه الانتخابي( المحادل الانتخابية)، فبأي معنى يمكن تسميته نظاماً ديمقراطياً؟ مع ذلك لا بد من التمسك بهذه المظاهر الديمقراطية لأن نواقص الديمقراطية لا تعالج إلا بالمزيد من الديمقراطية
نعم. “مشكلة العرب أنهم لا يحترمون القانون…” يقول أحد التعليقات الذي يحتاج إلى تعديل بسيط في الصياغة. لكنها ليست مسؤولية الشعب الذي “لا يتعلم من تجربته” . الحكام ، نعم. الأحزاب، نعم. فهذه تبديلها أمر ممكن وإصلاحها أمر ممكن، وكذلك النظام. أما الشعب فهو ينطبق عليه القول… كما يول عليكم تكونوا وليس العكس. لأن الحاكم له قدرة التأثير على شعبه في ظل أنظمة الاستبداد انطلاقا من كونه يمثل، في أنظمة الحضارة السابقة، الله أو الخالق، ولا يمثل الشعب.
التعريف الذي يقدمه البعض عن الديمقراطية غير صحيح. هي مصطلح معناه اللغوي، حكم الشعب. استخدم أول مرة عند اليونانيين لكنه كان يميز بين السادة والعبيد. استعادته الحضارة الرأسمالية بعد الثورة الفرنسية وقبلها في بريطانيا وأرفقته بصناديق الاقتراع، لكن الاقتراع لم يكن في البداية حقا لجميع المواطنين، بل لبعضهم. لم تكتسب المرأة الفرنسية هذا الحق إلا في خمسينات القرن الماضي
الدلالة السياسية لهذا المصطلح مبنية على مبدأ الاعتراف بالآخر وبحقه في التعبير عن رأيه وفي التمثيل السياسي. لكن ذلك لم يكن سهل التطبيق، فقد دفعت أوروبا أثمانا غالية، ومنيت معها البشرية (الحربان العالميتان) باأفدح الخسائر، قبل أن تقتنع الدول القومية بأن الحروب ليست السبيل الصالح لحل المشاكل ومعالجة التناقض في المصالح بين الدول. استقرت الديمقراطية على معناها المعاصر بعد الحرب العالمية الثانية، وهي تعني، انطلاقا من الاعتراف بالآخر ، احترام التنوع والتعدد في المجتمع والتعبير عن هذا التنوع في التمثيل السياسي، ولا يحمى التنوع إلا بالقانون والسلطة القضائية، ولهذا لا توجد الديمقراطية إلا بوجودالمؤسسات والأنظمة الدستورية . بناء على ذلك يصبح من الممكن حماية التنوع بالقانون ويصبح من الممكن تداول السلطة ( عدم تأبيدها، أو توريثها)، وفي ظل الديمقراطية يلعب المجتمع المدني ومؤسساته دورا رقابيا …. ألخ ألخ
لا تقتصر الديمقراطية على الانتخابات، بل إن مقوماتها متعددة. وهي ليست صندوقة اقتراع. وهي ليست حلا، بل إطار سياسي يوفر الظروف المؤاتية للنضال من أجل التغيير، وهي إن كانت حلا لمشكلة فهي البديل الوحيد للخيارين اللذين يضعنا الحكام العرب أمامهما : إما الاستبداد إما الحروب الأهلية. بهذا المعنى، الديمقراطية هي الحل الوحيد لهذه المعضلة الناجمة عن استبداد الحكام بشعوبهم… بعد إرساء النظام السياسي على أساس احترام التعدد تصبح المطالبة بالتغيير حقا يصونه القانون
نحو يسار جديد
نشر لي موقع الحوار المتمدن مئة وستة (106) نصوص ، بين بحث طويل ومقالة صحافية تحمل كلها همّاً واحداً هو البحث عن يسار جديد بعد أن مات القديم. بين تلك النصوص عناوين تستبطن الهم وأخرى تصرح به. تجديد اليسار أم يسار جديد22-5-2004 اليسار بين الأنقاض والانقاذ1-6-2005( وهو كراس من الحجم الصغير نشرته في لبنان كمادة تثقيفية لدعم وحدة الحزب الشيوعي) الماركسيون بين اضمحلال الدولة وبناء الدولة2-6-2005، مقدمة كتاب اغتيال الدولة 28-10-2007، المثقف اليساري المتأسلم4-10-2008، أما اليسار فليس أقل غباء5-7-2010، الأصوليات غير الدينية13-5،2011، في نقد اليسار نحو يسار عربي جديد17-4-،2017، فضلا عن كتب غير منشورة في الحوار المتمدن وهي كلها تعالج القضية ذاتها. الأصوليات دار الفارابي،2000 الشيعية السياسية، ناشرون 2012، هل الربيع العربي ثورة؟ ضفاف2015، وأكثر تلك البحوث استفاضة تلك التي نشرتها تحت عنوان:في نقد اليسار، نحو يسار عربي جديد ، بتاريخ 17-4-2012، ويهمني أن أستعيد النص في هذه المناسبة بحرفيته.
تحت وطأة انهيار التجربة الاشتراكية ومعسكرها انقسم اليسار في العالم وفي العالم العربي وتوزع على ثلاثة تيارات رئيسية : تبرأ تيار أول من ماضيه الفكري والنضالي والسياسي محملا رواد التجربة من ماركس ولينين إلى كل القادة التاريخيين في الحركة الاشتراكية مسؤولية الأخطاء النظرية والتطبيقية، نافيا أية فضيلة لتلك التجربة؛ ولجأ تيار ثان إلى نظرية المؤامرة ليفسر أسباب الفشل، متمسكا بحرفية التجربة ومبرئا قادة الفكر والنضال الاشتراكي من أية مسؤولية عن الانهيار، فيما انكبّ آخرون على نقد التجربة وتقويمها واستخلاص العبر منها ، إلى أن جاء الربيع العربي ليكشف بشكل لا لبس فيه أن اليسار، الذي كان غائبا كتنظيمات حزبية عن الثورة على الاستبداد ، كان حاضرا من خلال المشاركة الفاعلة ليساريين من كل الأطياف، ممن تخلوا عن روابطهم التنظيمية وأقاموا على ضفاف الأحزاب التي كانوا ينتمون إليها، أو ممن تمردوا على قرارات أحزابهم الداعمة لأنظمة الاستبداد، كما كان حاضرا، وهذا هو الأهم، من خلال القيم السياسية والثقافية التي عمل على نشرها قبل الانهيار، وبذلك شكل الربيع العربي منعطفا عمليا في نقد ماضي اليسار، موجها الدعوة إليه صريحة ليعيد رسم مستقبله، موفرا للمفكرين والمناضلين فرص الاستفادة من الثورة الشبابية واستخلاص الدروس السليمة منها.
لقد انطلقت ورشة النقاش النظري حول مستقبل اليسار والاشتراكية، وانخرط فيها فلاسفة ومؤرخون واقتصاديون متحدرون من التراث الماركسي. غير أن هذه الورشة افتقرت إلى الحد الأدنى من التنسيق والإدارة الكفيلة باستخلاص النتائج النظرية وترجمتها إلى لغة سياسية وشعارات ومهمات نضالية. إن الجهة الصالحة لإدارة النقاش ولعب الدور التنسيقي والانخراط في الصراع الإيديولوجي المفتوح على مداه، بعد سقوط الأصوليات الماركسية والقومية والدينية، هي يسار عربي جديد يعيد قراءة كل التراث النظري والمصطلحات المتعلقة بالثورة والصراع الطبقي، ويعمل على تأصيلها وتبيئتها وتلقيحها بمعطيات العلوم والمعارف الحديثة .
بزوال المعسكر الاشتراكي زالت الحدود السياسية والجغرافية من حلبة الصراع العالمي وتخلخلت القيم والمعايير وتشوشت الحدود بين اليسار واليمين، ولا سيما بعد أن سيطرت الأحادية القطبية طيلة عقدين كاملين، وشاركت حكومات يسارية أوروبية وأنظمة محسوبة على الحركة القومية العربية في المعارك التي خاضتها الولايات المتحدة الأميركية في يوغسلافيا وفي حرب الخليج الأولى، وقد تفاقم هذا التشوش مع انتشار نظريتي نهاية التاريخ وصراع الحضارات اللتين سرعان ما بهت وهجهما لتنقشع حقائق أخرى كان من أهمها:
1. شكل سقوط الاتحاد السوفياتي والمنظومة الاشتراكية خسارة كبرى على كل الشعوب المستضعفة التي كانت ترى فيهما سندا في مواجهة الرأسمالية المتوحشة ومنظماتها الاقتصادية والمالية ، وخسارة أيضا على كل الأحزاب الملتحقة بهما في برامجها وسياساتها وأولويات مهماتها، والتي تيتمت بغيابهما، بعد أن غلبت عليها صفة ” اليسار الدولي” على حساب وجهها الوطني و المحلي. غير أنه قد يكون من الآثار الإيجابية للانهيار وضع اليسار أمام مسؤولياته التاريخية في أن يتحرر من التبعية ويصبح أكثر ثقة بالنفس فيعطي الأولوية للتناقضات الطبقية والسياسية الداخلية، ويعيد النظر بدوره وبخريطة تحالفاته ورسم سياساته في مناهضة النظام العالمي الجديد، وأن يكون شريكا في المبادرة لبناء أممية جديدة على أنقاض الأممية السابقة.
لقد بدا لشعوب المنظومة الاشتراكية وشعوب العالم الثالث المتحالفة معها أنها دخلت ، بعد الانهيار، مرحلة جديدة تعتمد على( أو تطمح إلى) بناء أنظمة تقوم على الديمقراطية واحترام الحريات السياسية وحرية المبادرة الاقتصادية والاستثمارات المالية . ولئن كانت هذه التحولات قد ظهرت في إسبانيا واليونان وأوروبا الشرقية وفي دول من أميركا اللاتينية قبل الانهيار وبعده ، فهي انتظرت الربيع العربي ليطلق عملية التحول هذه في منطقتنا.ولم يحصل الانفتاح على الديمقراطية والحريات السياسية من دون خسائر، بل ترافق مع انهيار مجموعة من المكاسب والقيم التي كانت قد حققتها الانظمة الاشتراكية لشعوبها وساعدت شعوبا أخرى على تحقيقها، كما ترافقت التحولات مع حالة من عدم الاستقرار لا يمكن التكهن بمداها وبتعقيداتها، وسيكون ذلك رهنا بدور محوري ينبغي أن يلعبه اليسار في البلدان التي حصلت فيها انتفاضات أو ثورات أو تغييرات سلمية.
2. على أنقاض اليسار العالمي المنهار نشأ نظام عالمي أحادي، تمثل بسيطرة اقتصادية للرأسمالية العالمية، معززة بإيديولوجية نهاية التاريخ وصراع الحضارات، التي سرعان ما كشف زيفَها تفاقمُ أزمتيها المالية والاقتصادية اللتين عصفتا بالمراكز الرأسمالية الكبرى، وتفاقم أزمتها السياسية، بعد أن تبددت أوهام السيطرة الأحادية على العالم وظهرت كلفتها العالية. أما وقد انجلى غبار الانهيار وخفت ضجيج السيطرة الإمبريالية وبهت وهج أيديولوجية نهاية التاريخ، فقد بات من الملح أن يخرج اليسار من ذهوله وانكفائه، ليواكب ولادة جيله الثالث، بعد جيله الأول الذي استلهم من الثورة الفرنسية إسمه ومضمونه، وجيله الثاني الذي نشأ في حضن الثورتين السوفياتية والصينية. إن على هذا الجيل الثالث أن يبدد نوعين من الأوهام، الفوكويامية القائلة بنهاية التاريخ، والسوفياتية القائلة بأن هذا العصر هو عصر الانتقال إلى الاشتراكية، ويرسم خطة أكثر واقعية وملموسية تظهر فيها بوضوح خصوصيات البلدان والمجتمعات والدول، بديلا عن الوصفات الجاهزة التي اعتمد اليسار تطبيقها في كل زمان ومكان.
3. اثبت انهيار التجربة الاشتراكية المحققة من جهة، وتفاقم الأزمات الدورية للرأسمالية من جهة أخرى، أن اليسار في حاجة اليوم أكثر من أي وقت مضى إلى الماركسية منهجا علميا لتفسير العالم ومرشدا نظريا لتغييره ، وقد أكد هذه الحاجة إقبال غير مسبوق، من اليسار ومن سواه، على ما كان قد كتبه ماركس عن الرأسمالية قبل قرنين، وذلك بحثا عن تفسير لآخر الأزمات المعاصرة التي عصفت بالاقتصاد العالمي. غير أن هذه الحاجة تتطلب أولاً قراءة غير أحادية للماركسية، تتفادى التعميم السوفياتي وتسعى إلى استخدام ما تضمنه منهجها من قوانين علمية، وتخليصها من الأفكار الإيديولوجية التي أثبتت الوقائع عقمها أوعدم جدواها، إما بسبب التأويلات المتعسفة أو بسبب بلوغها حدودها التاريخية ؛ كما تتطلب ثانيا الكف عن الاعتقاد بإن الماركسية هي نهاية تاريخ العلوم والمعارف، والعمل بالتالي على تجديدها وتحديثها، وذلك بوصلها بكل المعارف والعلوم التي تغني النظرية وتمنح مصطلح الثورة مدلوله الحقيقي بعد أن شوهته الانقلابات الفوقية التي قادها ضباط أو معممون أو رجال مخابرات، واقترنت بالعنف والارهاب وممارسة الاستبداد، واقتصر التغيير فيها على تبديل المواقع في هرم السلطة، كما يتطلب تجديدها وتحديثها إعادة النظر بكل المفاهيم المتعلقة بالثورة والتغيير والطبقة العاملة والبروليتاريا والصراع الطبقي، الخ. وشحنها بمدلولات ومضامين جديدة على ضوء العلوم والمعارف والوقائع والمعطيات الحديثة في العالم.
4. التزاما منه بأولويات الصراع العالمي بين المعسكرين،غلّب اليسار الشيوعي العربي التناقضات الخارجية على التناقضات الطبقية الداخلية، فاتسعت مساحة العمل المشترك مع الحركة القومية العربية ونشأت أشكال من التعاون والتنافس والصراع والتلاقح، فتمركست تيارات قومية، وتخلت أحزاب شيوعية في المقابل، عن الجانب الطبقي من صراعها الداخلي أو جعلته في آخر قائمة أولوياتها، وتشوه بفعل ذلك المضمون التقدمي لفكرة اليسار، ونشأ تحالف هش في مواجهة “الإمبريالية والصهيونية والاستعمار” دفع اليسار كلفته غاليا، بعد أن استولى حلفاؤه على خصوصيته اليسارية والاشتراكية والأممية وحددوا له حجم مشاركته في حمل الهموم القومية من موقع هامشي غير موثوق وغير ثابت ، وانتظروا لحظة الانهيار ليستكملوا تقاسم ثروته البشرية والثقافية والنضالية .
5. لقد انصب اهتمام ماركس على الجانب الاقتصادي من تطور الرأسمالية سعيا وراء تفسير التاريخ واستخراج قوانينه، ولذلك خلت الكتابات الماركسية من بحوث في السياسية توازي ، في عمقها، بحوثها الاقتصادية. كما أن لينين، من جانبه، لم ينطلق من نضج الظروف اقتصادية، بل اقتنص لحظة سياسية كانت فيها الدول الرأسمالية في ذروة تناحرها ، لينآى بروسيا عن الحرب العالمية ويبني فيها نظاما جديدا مستلهما من أدبيات الفكر الماركسي، فاقترن نجاح الثورة بالوصول إلى السلطة فحسب، وجرى تأويل أفكار ماركس المبعثرة عن الدولة تأويلا أيديولوجيا مفاده القضاء على الدولة ( الرأسمالية ) بدل النضال والعمل على تأمين الشروط المادية لاضمحلال الدولة (الدولة بالمطلق بما في ذلك الدولة الاشتراكية). وذلك من أجل بناء مجتمع( فاضل) اشتراكي يمهد لقيام المجتمع الشيوعي.
6. أثبتت نتائج الانهيار أن التجربة الاشتراكية قصرت عن الرأسمالية في تطوير القوى المنتجة لكنها تفوقت عليها في توزيع الثروة توزيعا خفف من حجم الكوارث الاجتماعية الناجمة من التفاوت الطبقي داخل بلدان العالم الرأسمالي ومن التطور اللامتكافئ بين مركزه وأطرافه. ولذلك بات على اليسارالعربي اليوم ، بعد أن بنى برامجه على هاجس الاستقلال الاقتصادي وفك التبعية عن الاستعمار (عن الرأسمالية)، أن يناضل لتحسين شروطه داخل الرأسمالية، مستندا إلى كتلة ضخمة من الدراسات الاقتصادية وضعها مفكرون تقدميون ماركسيون من العالم العربي ومن كل العالم، ومسترشدا بها لإعادة بناء مشروعه الهادف إلى تجاوز النظام الاقتصادي في الرأسمالية، ومسترشدا أيضا بتجارب عالمية تميزت بطابع اشتراكي في بعض بلدان شمال أوروبا ولا سيما السويد والدنمرك وبعض بلدان أميركا اللاتينية ولا سيما البرازيل، وبتجربة الصين التي اعتمدت، بديلا عن اقتصاد السوق والاقتصاد الموجه، نظرية اقتصاد السوق الاشتراكي، الخ. وكذلك بتجارب البلدان التي تحولت من الاشتراكية إلى الرأسمالية في أوروبا الشرقية، كل ذلك بحثا عن حلول اقتصادية مرحلية مناسبة لبلدان العالم العربي منفردة ومجتمعة.
7. بتركيزه على الجانب الاقتصادي، أغفل اليسار كون الرأسمالية منظومة كاملة من القيم الاقتصادية والسياسية والثقافية والاجتماعية والفنية، الخ. شكلت، بحسب ماركس، بديلا ثوريا تقدميا من منظومة أخرى كانت سائدة في حضارة العصور الاقطاعية، وبالتالي فإن تجاوزها لا يتم بالتبسيط الذي تخيله اليسار العالمي، بثورتيه السوفياتية والصينية، أي بمجرد استلام قوى سياسية جديدة، تزعم تمثيلها لليسار، السلطة عن طريق الثورة المسلحة أو الثورة الثقافية أو الثورة الجماهيرية، أو بانقلاب يقوده ضباط أو معممون أو زعماء قبائل، بل هو عملية معقدة طويلة الأمد لا تتحقق إلا عندما تبلغ الرأسمالية حدودها التاريخية وتنضج ظروف بديلها الثوري التقدمي التاريخي كحضارة، أي كمنظومة كاملة من القيم الاقتصادية والسياسية والثقافية والاجتماعية والفنية قد تحمل الإسم الذي أطلقه عليها ماركس : الاشتراكية. هذه المنظومة الجديدة التي تمهد لاضمحلال الدولة تستند إلى نمط من علاقات الانتاج المادي والروحي تتضافر فيه كل مقومات الحضارة الجديدة وتلعب فيه منظومة القيم الأخلاقية دورا مركزيا بديلا عن القوانين الوضعية أو مساعدا لها ورقيبا عليها. إن القيم الأخلاقية في الاشتراكية تلعب دور القوانين في الدولة الرأسمالية. هذه العملية المعقدة تحتاج إلى يسار لا تقتصر مشاركته على النضال ضد الرأسمالية والعمل على تجاوزها فحسب، بل على أنضاج بدائلها .
8. انطلق اليسار من الاعتقاد بأن العصر هو عصر الانتقال إلى الاشتراكية، ورسم برامجه وحدد جبهة أعدائه وجبهة حلفائه على هذا الأساس، فكان من أثمان ذلك، مع استثناءات قليلة لا تغير في طبيعة المشهد العام، تماهي اليسار العربي بالحركة القومية العربية والنضال تحت عباءتها والتخلي عن خصوصيته وتمايزه عنها. وإذا كان من مآثر تلك الحركة مجابهتها الوجود الاستعماري المباشر وتحقيقها انتصارات كبرى من أهمها استقلال الجزائر ومواجهة العدوان الثلاثي على مصر وحصول معظم البلدان العربية على استقلالها خلال العقدين اللذين أعقبا الحرب العالمية الثانية، غير أن هذه الحركة فشلت في مواجهة المشروع الصهيوني الذي اقتلع الفلسطينيين من أرضهم وأسس دولة توسعية عدوانية وهدد مصالح الشعوب و الدول المحيطة تهديدا مباشرا، وسائر الدول العربية تهديدا غير مباشر، كما فشلت في تحقيق أهدافها المعلنة في الوحدة والحرية والاشتراكية، وأوصدت كل الأبواب أمام تطلعات الشعوب العربية إلى التقدم والدخول في حضارة العصر التي كانت أوروبا قد استلمت رايتها، بعد أن حملتها الحضارة العربية، في إطار سباق البدل، مدة ألفية من الزمن. ومع هذا الفشل أطبقت على العالم العربي من محيطه إلى خليجه أنظمة سياسية ترقى إلى حضارة سابقة، وتقوم على توارث السلطة وإحاطتها بنوع من القداسة لا تحظى بها إلا السلالات التي حكمت باسم الله لا باسم الشعب، على الضد تماما من مسار التطور العام في العالم المتجه إلى بناء الديمقراطيات واحترام حقوق الانسان وإقامة الجمهوريات.
لقد جاء الربيع العربي ليعيد الاعتبار إلى حقيقة الصراع الطبقي الداخلي، وليثبت أن الخطر الأساسي الذي هدد مستقبل الأمة العربية تمثل بسيطرة قوى داخلية مارست طغيانها السياسي والاقتصادي تحت ستار محاربة أعداء الخارج، وأن البيئة الحاضنة للخطر الخارجي تمثلت في سوء إدارة الوضع الداخلي، من جانب الحركة القومية التي شكل اليسار جزءا منها ولو غير مرغوب فيه، والتي تمادت في ممارسة الاستبداد والطغيان وطمست الخصوصيات القطرية وأججت مشاعر التنافس الشوفيني بين القوميات والإتنيات والطوائف والأديان التي يتشكل منها العالم العربي من محيطه إلى خليجه، وقد كان من خطايا اليسار، لا من أخطائه فحسب، التي لوثت تاريخه وجعلت سقوطه مدويا، تحالفه مع أعتى أنظمة الطغيان في حركة التحرر الوطني العربي ، في ليبيا والعراق وسوريا وغيرها.
9. سقطت الفرضية القائلة إن البشرية تعيش “عصر الانتقال إلى الاشتراكية”، وبات على اليسار أن يعيد رسم حلمه على أسس جديدة، ويعيد النظر بالبديهيات السابقة التي أنتجتها المرحلة السوفياتية، ويناضال داخل الرأسمالية لتحقيق الشروط الموضوعية لتجاوزها، ويواجه مفاسدها وشرورها، وهي كثيرة، ويستفيد من كونها، كما قال عنها ماركس، شكلت، حين قيامها، ثورة تقدمية ضد علاقات الانتاج السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية والفنية، الخ التي كانت سائدة قبلها. إن أهم درس قدمته لنا هذه الثورة هو أنه ما كان لها أن تنجح وتترسخ في الحقلين الاقتصادي والثقافي لولا الحماية والضمانة اللتين تحققتا في الحقل السياسي( الثورتان الفرنسية والأميركية)، حين انتقل النظام السياسي من السلالات الوراثية إلى دولة الحق والقانون، تتويجا لعمليات التحول الأخرى من الاقتصاد الزراعي والريعي إلى الاقتصاد الصناعي، ومن العقل الغيبي والاسطوري إلى العقل العلمي. لقد شكل غياب هذه الأولوية عن الانقلابات الفوقية، ولا سيما تلك التي عمت العالم العربي في مرحلته القومية، تعبيرا عن فهم مغلوط لطبيعة الرأسمالية، إذ لم يجد فيها اليسار إلا وجهها الاستعماري، وغابت عن تحليله أن الاستعمار شكل مرحلة إلزامية في تطور الرأسمالية حكمته قوانين وآليات توسعها الأفقي والعمودي التي تحدث عنها ماركس.
على ذلك الفهم المغلوط والمجتزأ، حددت الحركة القومية العربية أولويات النضال الوطني، وطمست الصراعات الطبقية الداخلية وشطبت من قاموسها السياسي مصطلح الديمقراطية مع شجرة العائلة السياسية التي ينتمي إليها،(دولة القانون والمؤسسات والكفاءة وتكافؤ الفرص والفصل بين السلطات ، دولة الحريات والديمقراطية وحقوق الانسان، الدولة المدنية ، العلمانية.الخ)، تحت ذرائع ومبررات سوغت لها اعتماد أنظمة سياسية استبدادية مستلهمة من أنظمة القرون الوسطى الوراثية ومن نظام الحزب الواحد في البلدان الشيوعية، أنظمة لم تجد سبيلا لإخفاء عجزها عن تحقيق المهمات التي تنطحت لها (تحرير فلسطين، الوحدة العربية، الاشتراكية، التحرر من الاستعمار) إلا بممارسة الاستبداد وقمع الحريات والقضاء على بذور الديمقراطية التي كانت قد بزغت في مرحلة الاستقلال.
جاء الربيع العربي ليضع تشخيصا جديدا للأزمة وليبدل، على ضوء ذلك، الأولويات في جدول العمل : لقد دخل العالم العربي في الحضارة الرأسمالية من أبواب شتى. غير أن استمرار الباب السياسي موصداً أمام التغيير الديمقراطي، في ظل استمرار أنظمة الاستبداد الوراثية، الملكية والجمهورية، قائمة من المحيط إلى الخليج، ألغى الضمانة الوحيدة لتعزيز إنجازات تحققت على الصعيد الاقتصادي فتفاقمت أعراض الرأسمالية الطرفية، وإنجازات أخرى على الصعيد الثقافي، إذ بقيت نسبة الأمية مرتفعة، ولم يتمكن العقل العلمي والعلماني من إحداث القطيعة المعرفية مع العقل الغيبي الأسطوري، فضلا عن أن أنظمة الاستبداد عجزت عن مواجهة التحدي الخارجي المتمثل بمشروع الدولة الصهيونية، ولم تميز بين المراحل المتعددة من تطور الرأسمالية العالمية، ولا بين الصيغ المتنوعة التي جسدت ميل الرأسمالية إلى التوسع، فلم تتغير صورة الاستعمار، في نظر حركة التحرر الوطني العربية، من بداية تكون الرأسمالية العالمية ( اكتشاف أميركا اللاتينية ) حتى غزو الفضاء والمحيطات وأشكال السيطرة العلمية والاقتصادية والتكنولوجية، الخ. ولم تتغير بالتالي أشكال مواجهتها بل تجمدت على شكل وحيد هو النضال العسكري المسلح ومشتقاته كالمقاومة والممانعة والصمود والتصدي حتى في غياب الوجود العسكري الاستعماري المباشر، وأغفلت معادلات اليسار القومي المتغيرات الهائلة السياسية والاقتصادية والعلمية والعسكرية ، الخ. التي حصلت على امتداد القرن العشرين ، ولاسيما في نهايته عند سقوط الاتحاد السوفياتي والمنظومة الاشتراكية.
10. لقد استخف اليسار العربي بالديمقراطية واستصغر شأنها ورأى أن طرحها على جدول العمل بمثابة شد عربة التطور إلى الخلف، قياسا بمهمة بناء الاشتراكية، وهي مهمة “متقدمة” من وجهة نظره. غير أن الربيع العربي أثبت أن الديمقراطية ثورة وهي ليست أقل أهمية ولا تحقيقها أقل كلفة من المهمات الوطنية والقومية والأممية الكبرى، وأن السبيل إلى الوصول إليها لن يتأمن إلا عبر سيرورة وعملية نضالية طويلة الأمد لن تنتهي بين ليلة وضحاها ، ولن تكتمل إلا إذا تعممت على كل بلدان العالم العربي من محيطه إلى خليجه.
11. على ضوء هذه المعطيات بات على اليسار العربي أن يعيد صياغة برنامج القضية القومية فيخلصها من مضمونها الشوفيني، ويلغي التناقض المفتعل فيها بين مصلحة الشعوب العربية بالوحدة والخصوصيات القطرية التي ترسخت خلال القرن العشرين، ولا سيما أن الربيع العربي قد أكد على عمق الترابط الذي يجمع بين الشعوب العربية ماضيا وحاضرا ومصيرا مشتركا، وعلى أن الأزمة البنيوية في كل بلدان الوطن العربي ، تتمثل بوجود أنظمة استبدادية وملكيات وجمهوريات وراثية، جافت الديمقراطية وحقوق الإنسان وألغت الحريات السياسية والشخصية وعطلت الدساتير وزورت الإرادة الشعبية، كما أكد على أن برنامج الخروج من هذه الأزمة واحد في كل هذه البلدان، وهو برنامج التغيير الديمقراطي الهادف إلى بناء دولة الحق والدستور، دولة الكفاءة وتكافؤ الفرص والفصل بين السلطات، دولة المواطنة والمساواة أمام القانون، دولة المحاسبة والمراقبة التي يختار فيها الشعب بإرادته الحرة نظامه السياسي وممثليه في الحكم بديلا من التوريث والتعيين والاستيلاء على السلطة ومصادرتها والاستئثار بها.
بموازاة برنامج التغيير الديمقراطي الخاص بكل بلد، على اليسار أن يشارك بفعالية في صياغة برنامج قومي تحترم فيه خصوصيات كل بلد، تحتل فيه القضية الفلسطينية موقعا مركزيا، على أساس التضامن مع الشعب الفلسطيني واحترام استقلالية قراره وعدم التدخل في شؤونه الداخلية ولا في شؤون أي شعب عربي آخر إلا من باب التضامن والتعاون، تأسيسا لتكامل اقتصادي وسياسي ومالي وتربوي، الخ. وتطويراً وتفعيلاً لكل المنظمات الإقليمية العربية، بما يمهد لقيام أشكال تدريجية من الوحدة بين بلدان العالم العربي .
12. لقد خرج قطار العالم العربي عن سكة تطوره التاريخي حين اجتمعت الأصوليات اليسارية والدينية والقومية على إعلان عدائها السافر للديمقراطية في بداية القرن العشرين، إلى أن جاء الربيع العربي في بداية الحادي والعشرين ليضعه مجددا على سكة التطور الصحيحة. ومن المؤكد أن فوز الأصوليات الدينية في الانتخابات التشريعية قد حصل في سياق سياسي مختلف عن مسار الصراعات السابقة، وجاء ليطوي صفحة الصراع على المشروع الأيديولوجي، فلم يكن شعار “الإسلام هو الحل ” أساسيا في ثورة الربيع، ولا كانت القضية الاجتماعية ولا القضايا القومية هي المحرك الأساسي فيه ، بل كان إجماع من كل القوى على شعار مركزي هو استبدال أنظمة الاستبداد بأنظمة ديمقراطية. إن الأصوليات المشاركة في الربيع العربي متحدرة من الأصوليات القديمة، ولذلك برزت خلال الثورات بقايا من شعاراتها، وفازت بالأغلبية في أول انتخابات حرة. غير أن ما حصل ليس سوى بداية مخاض طويل، تكون المراحل التالية منه رهن الدور الذي ينبغي على اليسار أن يلعبه لتصويب عجلة الربيع ، ولا سيما أن المشهد العام كان مطبوعا بطابع آخر عنوانه الأول وحدة الموقف الشعبي حول المواطنة والانتماء إلى الأوطان لا إلى الطوائف والمذاهب والأديان، و النضال من أجل الديمقراطية سبيلا لا لإسقاط الاستبداد القديم فحسب ، بل للحؤول دون عودته مرة أخرى عن طريق الأصوليات.
13. إن المعطيات التاريخية والعلمية والمعرفية المعاصرة أثبتت أن تجربة الأحزاب “الانقلابية التآمرية ” السرية، المشكّلة من فرق وخلايا ومجموعات ، في بناء هرمي يقوده أمين عام أو رئيس ومكتب سياسي ولجنة مركزية( يشبه التنظيم العسكري)، لم يعد مؤاتيا. وبات على اليسار أن يبتكر التنظيم الذي يتناسب مع مهمات بناء الدولة الحديثة ، ويستفيد من التطور التكنولوجي وسهولة التواصل وسرعة الاتصال، ويستلهم من تجارب مجموعات التلاقي المختلفة على الأنترنت، وتجارب الصحف والنشرات الإلكترونية ليبني تنظيما حديثا ، يكون العنصر المحرك فيه هو الموقف والقضية، وإطاره هو كل صيغ التواصل الممكنة من اجل تجميع وبناء الكتلة التاريخية القادرة على تحقيق التحول الديمقراطي.
14. ينتظم اليسار في مجموعات تشمل كل المنادين بالعلمانية والدولة المدنية والديمقراطية ، المنتظمين حول قضايا شاملة كالاشتراكية والوحدة العربية، أو وطنية كالعلمنة والدفاع عن استقلالية القضاء، أو بيئية تخص كل بلد،أو حول قضايا مهنية كالنقابات العمالية والمهن الحرة والأجور، أو حول قضايا فكرية، ولا سيما المتعلقة منها بتطوير الفكر الماركسي وبالصراع الايديولوجي،الخ. سعيا وراء تجميع وتشكيل الكتلة التاريخية للتغيير، على أن يستفيد من تجارب أحزاب الكادر كالحزب الاشتراكي الفرنسي، أو لتيارات تمكنت من بلوغ أهدافها التغييرية عن غير طريق العنف، كالبرازيل وبعض بلدان أميركا اللاتينية، على أن تحترم كل صيغ التنوع والتعدد من داخل الوحدة بين قوى التغيير اليساري العلماني.
**الدكتور محمد علي مرتضى مقلد
مواليد جرجوع ، جنوب لبنان ، 1947
دكتوراه من جامعة السوربون – باريس 1987
أستاذ في الجامعة اللبنانية ( الرتبة : إستاذ )
أطروحة الدكتوراه عن الشعر والصراع الأيديولوجي( دراسة عن علاقة الشعر والسياسة في لبنان خلال الحرب الأهلية )
الاختصاص : حضارة العرب وأدبهم في العصر الحديث
مؤلفاته :
الشعر والصراع الإيديولوجي ، دراسة عن علاقة الشعر بالسياسة ، دار الآداب، بيروت ،1996
الأصوليات ، دراسة في معوقات النهوض العربي، دار الفارابي ، بيروت ،2000
قضايا حضارية عربية حديثة ومعاصرة ، دار المنهل اللبناني ،2003
اليسار بين الإنقاذ والأنقاض ، كتيب عن أزمة اليسار اللبناني ،2005
اغتيال الدولة ، دار الانتشار العربي ،2006
ترجماته :
الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية ، ماكس فيبر ، مركز الإنماء القومي ، بيروت ،1990
الجنسانية في الإسلام ، عبد الوهاب بوحديبة ، سراس للنشر ، تونس ،2000
أوهام الهوية ، داريوش شاغان ، دار الساقي ، بيروت،1993
المعجزة في الاقتصاد ، ألان بيرفيت ( بالمشاركة مع بسام حجار) دار النهار ، بيروت ،1997
فلسفة كانط النقدية ، جيل ديلوز ، مركز الإنماء القومي، قيد النشر
نيتشه والفلسفة ، جيل ديلوز ، مركز الإنماء القومي ،قيد النشر
الشيوعية ، أية نفحة جديدة ، لوسيان سيف ، دار الفارابي ، قيد النشر
الفاشية والحركة الجماهيرية ، ميخائيل فايدا ، قيد النشر
مدخل إلى الإبستيمولوجيا الفرويدية ، بول- لوران أسون، مركز الإنماء القومي ، بيروت، قيد النشر
انفجار المشرق العربي ، جورج قرم ، دار الفارابي ، 2006
أوروبا التنوير( سلسلة(que sais-je دار الكتاب الجديد ، بيروت ، 2008
ماكس فيبر = = = = =
كلود ليفي ستروس = = = = =
البوذية = = = = =
المتوسط والعالم المتوسطي في عهد فيليب الثاني ، فرنان بروديل ، دار الكتاب الجديد ، 2008