البدع الدستورية والمسيحيون الأقوياء
نوفل ضو/جريدة الجمهورية/السبت 04 شباط2017
ما يشهده لبنان اليوم ليس بحثاً بين الفرقاء السياسيّين عن قانون للانتخاب يؤمّن صحّة التمثيل الشعبي وشموليته، وإنما سَعي من جانب الكتل الحزبية المتصارعة والمتنافسة، من أجل ضمان قوّة يسعى كلّ منها إليها على خلفية الحسابات المتعلقة بالانتخابات الرئاسية المقبلة. فاللبنانيون عموماً، والمسيحيون خصوصاً، باتوا أسرى «نظرية الرئيس القوي» التي تمّ تعميم «مفهومها المستحدث» قبل انتخاب الرئيس ميشال عون، بحيث بات «الرئيس القوي» في مفهوم بعض الساسة المسيحيّين هو صاحب أكبر كتلة نيابية مسيحية.
وبالتالي، فإنّ الإنتخابات الرئاسية باتت محكومة – حتى إشعار آخر – بهذا المفهوم لـ«الرئيس القوي» بعدما كانت على مدى نحو 15 سنة محكومة بـ«عرف» قائد الجيش الموجود في الخدمة الفعلية هو المرشّح الطبيعي للرئاسة.
لقد سبق للسوريين عندما كانوا يضعون يدهم على لبنان ومؤسساته أن عطلوا الآلية الدستورية البرلمانية الديموقراطية لانتخاب رئيس الجمهورية عندما – بحجة إعادة التوازن الذي كان المسيحيون يشكون من فقدانه – رفعوا شعار ضرورة إيصال «رئيس ماروني قوي» قادر على مواجهة رئيس الحكومة السنّي القوي ورئيس مجلس النواب الشيعي القوي. وانجَرّ المسيحيون من جديد – من حيث يدرون أو لا يدرون – الى تعطيل الآلية الدستورية البرلمانية الديموقراطية لانتخاب رئيس للجمهورية من خلال «الصفقة السياسية الداخلية» التي شكّلت المخرج لانتخاب العماد ميشال عون رئيساً للجمهورية بحجّة إيصال «الرئيس القوي» الذي من شأنه إقامة التوازن مع رئيسي الحكومة السنّي ومجلس النواب الشيعي.
إنّ المفاهيم السياسية المستحدثة لـ«الرئيس القوي» تكاد تتحوّل عرفاً يضرب الدستور اللبناني والنظام الديموقراطي الذي لا يمكن للمسيحيّين أن يكونوا أقوياء سياسياً من دونه. وخير دليل على ذلك ما يشهده البحث هذه الايام في قانون الانتخاب من تجاذبات وبدع واجتهادات وهرطقات، بحيث بات كلّ حزب وكل طامح لرئاسة الجمهورية يحاول تمرير قانون للانتخاب يسمَح له بالخروج على الرأي العام بعد الانتخابات التشريعية المقبلة على قاعدة المفهوم المستحدَث لـ«الرئيس القوي» بمقولة: «أنا مشروع الرئيس المقبل للجمهورية».
إنّ تجاوز الدستور بقوة الأمر الواقع التي لا يتحمّل بعض القادة المسيحيين لوحدهم مسؤوليتها، وإن كانوا رأس الحرب فيها، بات اليوم يُهدّد بالانسحاب على الانتخابات النيابية. فعوض أن يكون رئيس الجمهورية هو الرئيس المنتخب في مجلس النواب بحسب قناعات النواب، بات الرئيس القوي بالنسبة الى البعض هو الرئيس المفروض على النواب والناس بفِعل موازين القوى السياسية والحزبية.
وها هي الانتخابات النيابية المقبلة مهدّدة – بفِعل الصيَغ المتداولة لقانون الانتخاب والأساليب المستخدمة في وضع أسسه – بأن تخرج عن الأصول الديموقراطية الصحيحة وتتحوّل الى ما يشبه «الإستفتاء» على مجموعة من الأسماء التي يرشّحها بعض الطامحين لرئاسة الجمهورية و«الناخبون الكبار» – كما في الدول ذات الأنظمة الديكتاتورية – بمعزل عن القواعد التي تعتمدها الديموقراطيات العريقة في العالم، لا سيما لناحية ضمان التعدّدية الحزبية الصحيحة والتنوّع السياسي الفعلي كشرطين أساسيّين من شروط صحة التمثيل الشعبي وشموليته.
إنّ المفاهيم المستحدثة، بعيداً من الدستور لـ«الرئيس القوي» ولـ«صحة التمثيل المسيحي» باتت تشكّل تهديداً فعلياً للنظام الديموقراطي في لبنان الذي من دونه لا يمكن للمسيحيّين أن يؤدّوا دوراً فاعلاً في الحياة السياسية. وبالتالي، فإنّ المضيّ قدماً في استبدال اللعبة الديموقراطية الصحيحة بلعبة «موازين القوى» على الساحة المسيحية يمكن أن يتحول الى سابقة وعرف لا يعود معهما بالإمكان منع تعميمهما على الحياة الوطنية بمجملها… وعندها في حساب موازين القوى المسيحية – الإسلامية، وفي ظلّ ما للمسلمين اللبنانيين من امتدادات عربية وإيرانية، سيكتشف المسيحيون متأخرين أنهم الحلقة الأضعف وسيجدون أنفسهم مُجبرين على دفع ثمن بدع سياسية ساهموا في التسويق لها، ليس فقط من صحة التوازن المسيحي – الإسلامي، وإنما من جوهر دورهم ووجودهم وحضورهم السياسي والثقافي والحضاري.