نداء الدماء
الـيـاس الزغـبـي/لبنان الآن/15 تشرين الثاني/15
تتساقط تصريحات الاستنكار كسابقاتها مع أوراق الخريف، وتبرد المواقف. وحدها الدماء تبقى حارّة في وجَع الناس وهلَع الوطن. لا يمكن أن تنتهي مذبحة برج البراجنة كما انتهت سابقاتها، إلى مزيد من الولوغ في الدماء، في دورة الموت التي لا تنتهي. فالحدّ الأدنى من الوعي والمنطق يفرض الابتعاد قليلاً عن ساحة الموت، والتفكير بهدوء في ما كان وصار، ومراجعة ما على لبنان وما لَه. وليست الدعوة إلى الهدوء والمراجعة نوعاً من التوظيف في المأساة وتحريك السكّين في الجرح، بل هي نداءٌ عاقل للتبصّر وإجراء جردة حساب بسيط للأسباب والوسائل والنتائج. لا يمكن البناء على تصريحات عاطفيّة متسرّعة صدرت عن بعض السياسيّين المزايدين والمحدوديّ الأفق، الذين حرّضوا على مزيد من التورّط في سوريّا تحت شعار محاربة الإرهاب في عقر داره. وكان الأسوأ في تعليقاتهم على المقتلة أنّها نتيجة يأس المهزومين في سوريا وانتصار النظام، وتساؤلهم عن عدد التفجيرات اللازمة كي يقتنع “البعض” بوجوب التصدّي للإرهاب خارج الحدود اللبنانيّة، ما يعني تشجيعهم “حزب الله” على انغماسه ودعوة الآخرين للحاق به إلى هنالك. من السهل تحريض “حزب الله” على المزيد، بينما المحرّضون متفرّجون، أو غارقون في لعبة النفوذ والسلطة والمال. وكلام العقل أصعب وأثقل على المحترق بالنار، وهو يفضّل الحكّ على حروقه وجروحه، ولا يتقبّل بسهولة نصيحة هنا أو إشارة هناك. وحقيقة المصيبة أنّ الجروح والحروق لا تُصيب “حزب الله” وحده، بل لبنان بأسره. ومهما تمّ عزل الضاحية فهي في صلب النسيج اللبناني، بمجتمعه وأمنه واقتصاده وسياسته ودورة حياته. وما يُصيبها يُصيب كلّ الجسم اللبناني.
هذا ليس من باب التعاطف مع الضحايا فقط، بل من باب المصلحة اللبنانيّة العامّة التي تفرض سلامة المكوّنات وتكاملها وتفاعلها في الجسم اللبناني. فالضاحية، مهما انعزلت أو عُزلت، عضوٌ حيّ في هذا الجسم. لذلك، لقد آن عمل العقول الباردة، ووقف العواطف المزايدة. وقد جاءت إشارة قويّة إلى هذا التوجّه من السيّد حسن نصرالله نفسه قبل يوم واحد من تفجيرات البرج. فللمرّة الأولى يتخلّى قائد “حزب الله” عن لغة الحرب والردع، ويبتعد عن منطق الغلبة بالسلاح، وعن وصف 7 أيّار بـ”اليوم المجيد”. بل ذهب إلى حدّ القول باستحالة تكراره لانشغال الإقليم والعالم عنّا بشؤون وشجون أكبر وأخطر، ودعا إلى تسوية سياسيّة شاملة.
وليس من المنطق أن تؤدّي مجزرة الضاحية إلى التراجع عن هذا التوجّه التسووي، بل إلى تقويته وتثبيت الإيمان به والبحث في خطواته العمليّة، وأوّلها تسوية في ملفّ انتخاب رئيس الجمهوريّة. كما أنّ انخراط “حزب الله” في الحرب السوريّة مرشّح لإعادة النظر، ليس بقرار ذاتي منه، بل نتيجة انخراط إيران في تسوية فيينا، وتصدّر روسيّا واجهة القرار في سوريا. وأيّ تقويم سياسي هادئ لنتائج 4 سنوات من الإنزلاق في الوحول السوريّة، يتوصّل إلى استنتاج حالة التعقّل المنتظرة، بعد إمعان النظر في كلّ المعارك من القلمون والزبداني والجولان إلى حمص وحماه واللاذقيّة وإدلب وحلب، بإخفاقاتها وخسائرها وأثمانها، واستحالة الانتصار فيها، ونفقها الأسود الطويل. وبدلاً من السؤال عن عدد التفجيرات التي يجب أن تحصل كي نتصدّى للإرهاب، علينا أن نسأل: كم من الضحايا والقرابين يجب أن نقدّم بعد إلى إله الحرب العبثيّة و”المقاومة” التي تأكل أبناءها، وتأكل معهم مصير لبنان؟
في بيتنا دماء كثيرة، وخوفنا أن يبلغ سيلها الزُبى. وهي تناشدنا وقف آلة الموت. والكلمة الآن للعقلاء، كي يستجيبوا نداء الدماء.
الضاحية الجنوبية.. من يرفع الصوت والموت؟
علي الحسيني/المستقبل/15 تشرين الثاني/15
عاد شبح الإنتحاريين أمس الأوّل ليُخيّم على الضاحية الجنوبية مجدداً، ومعه عاد الخوف ليرسم ملامح مرحلة دموية قادرة على تحويل الأمكنة والأزمنة إلى مُجرّد ذكرى بمجرد الضغط على «زرّ» التفجير مُخلّفة ضحايا وأيتاما لن تنعم عيونهم بعد اليوم برؤية من اعتادوا العيش معهم ولن تُشفى قلوبهم من الحنين إلى لحظة دفء عائلاتهم على غرار الطفل المصاب حيدر حسين مصطفى الذي ينتظر في المستشفى عودة والديه ظنًّا منه أن زحمة السير الخانقة هي التي ما زالت تعوق وصولهما اليه. على مقربة من «الحسينية» في شارع «عين السكة» في «برج البراجنة» كان الحدث. هناك وصل إنتحاريان وفجّرا نفسيهما وسط زحمة السير ليُعيدا إلى الأذهان مجدداً، مرحلة من جنون التفجير الهستيري تناثرت فيها الاشلاء على الطرق وشرفات الأبنية كما تتناثر قطع الزجاج مع فارق أن الأخير يُحدث صوتاً لحظة تناثره بينما هؤلاء الابرياء يرحلون بصمت من دون أن يُحدثوا ضجيجاً كي لا يُزعجوا من لا يريد الاعتراف بهم كأهل للمنطقة لا متاريس يتحصنون خلفها. أمس ثقلت هموم وخطوات أهالي برج البراجنة بعد ليلة دامية أمضوها على الطرق أو متنقلين بين المستشفيات. بحثوا طوال ليلتهم بين الوجوه عمن ينصفهم من الموت الموعود ويزيح عنهم شبح رعب يأبى أن يفارقهم في أيام تحولت كواليسها الى جنون امتزجت عوارضه بالفوضى والخوف. أطفال سألوا عن ذويهم وأقارب لهم، لكنهم لم يجدوا إجابات تُشفي قلقهم على عمر لم يعد يحمل لهم سوى روائح البارود ولون النار. وفي الضاحية كانت عيون الأهالي تراقب حركة الليل قبل أن توصله بنهار مقبل سيحمل هواجس متجددة توصل إلى رصد حركة كل عابر صوبهم وسط خشية من أن يكون هذا العابر إنتحارياً ويحولهم في غفلة من العمر إلى مجرد ذكرى كأسلافهم. لم يتنصل أهل برج البراجنة، وتحديدا سكان عين السكة، لا قبل التفجيرين ولا بعدهما من «المقاومة»، ولم يتوقفوا عن الدعوات لاجتثاث الإرهاب من جذوره، لكن مع هذا فقد سبق أن طالبوا بتنظيم الأمن في منطقتهم سواء كان «ذاتيّاً» ام شرعيّاً وخرجوا من أجل تحقيق هذا المطلب بتظاهرات ورفعوا الصوت عالياً ليُرفع عنهم الظلم الإقتصادي والمعيشي والإجتماعي الذي كانت وما زالت تفرضه عليهم ممارسات قوى «الأمر الواقع»، وهم اليوم يدفعون ثمن ثباتهم على مواقفهم، لكن في المقابل هناك من جعلهم يدفعون فاتورة وطنيتهم هذه مرتين، ويكونون ضحية الحرب والسلم.
تفجيرا الضاحية الأخيران، زادا معظم سكانها إيماناً أن لا خلاص لهم إلا بوحدتهم كلبنانيين رغم بعض الأبواق التي خرجت لحظتها لتحوّل المعركة الى مذهبية داخلية، وأيقنوا أن مؤسسات الدولة وعلى رأسها الأمنية، وحدها قادرة على حمايتهم وعلى ابعاد شبح التفجيرات عنهم تماما كما تفعل عند النقاط الحدودية. وتختلط هذه التأكيدات المجبولة بوجع الأمنيات مع كلام الطفل حيدر القابع في المستشفى لتلقي العلاج بعد اصابته في عينه اليُمنى «كنت مع بابا وماما وطلع فينا انفجار، احترقنا وطلع منا الدم». يومان مرّا على تفجيري الضاحية. أعداد الجرحى تتقلص ويقابلها ارتفاع في أعداد الشهداء، يومان وأصحاب إرادة الحياة يرفضون الخضوع لقرارات الموت على الطرق والذي بدأت تدخل هواجسه إلى نفوس الكثيرين، فمن بين الخراب وحجم الدمار الهائل ورائحة الدماء، مرّ مُعمّر من أبناء «عين السكّة» بالقرب من مكان التفجيرين، إتكأ على عصاه ثم نظر امامه ليبحث في الوجوه عن زمن لا يُشبه زمانه ولا حاضره، تلفظ ببضع كلمات قبل أن يومئ بيده نحو ما تبقى من احد المتاريس المصنوعة من أكياس الرمل، تبسّم ثم مشى في حال سبيله وهو يقول «ما في شي عم يمنع الموت».