Quantcast
Channel: Elias Bejjani News
Viewing all articles
Browse latest Browse all 21056

عبد الرحمن الراشد: رفع وتيرة الحرب قبل فيينا/أمير طاهري: سوريا دراسة في السخرية الدولية/رضوان السيد: المؤسسات الدينية وتدبير الشأن الديني

$
0
0

رفع وتيرة الحرب قبل فيينا
عبد الرحمن الراشد/الشرق الأوسط/16 كانون الثاني/16

الروس، منذ بداية أكتوبر (تشرين الأول)، صاروا رأس حربة في معارك سوريا ومحيطها، بعد أن كانوا يلعبون دورًا خلفيًا، بالتمويل والمعلومات والعمليات المحدودة. النتيجة أن قوات النظام السوري مع القوات الإيرانية، التي تقود ميليشيات متعددة الجنسيات، تشعر لأول مرة بانفراج في عدد من مناطق القتال. وبات من الواضح نوايا التصعيد هذه، إلا لوزير الخارجية الأميركي المصر على قناعته بنوايا الروس الحسنة التي شكلها بناء على حواراته المتعددة معهم في أوروبا وموسكو. والمشكلة لم تعد في فك شفرة النوايا الروسية لأن فعلهم أوضح من أقوالهم، بل المشكلة في فهم نوايا الوزير جون كيري؛ هل هو أيضًا يريد التخلص من المعارضة المسلحة السورية المعتدلة، أي التي ليست «داعش» ولا «النصرة»؟ وهل يبيت النية للقبول أخيرًا باستمرار نظام بشار الأسد؟ حاليًا، في سوريا تشن حربان؛ واحدة من جانب التحالف الأميركي تستهدف التنظيمات الإرهابية: «داعش» و«النصرة»، والأخرى من الجانب الروسي تقوم بقصف التنظيمات المعارضة الوطنية. النتيجة، أن الأسد والإيرانيين يقومون برفع الأعلام على المناطق «المحررة» أميركيًا وروسيًا! وفي نفس الوقت يشجع الروس والإيرانيون التنظيمات التركية الكردية المسلحة لضرب تركيا، وبالتالي تجويع المعارضة السورية وعزلها. وصار الجانبان، الأميركي والروسي، يقاتلان في صف نظام الأسد وحليفه الإيراني، إضافة إلى تعزيز وضع القوى الموالية لإيران في العراق بشن الحرب نيابة عنهم، وتحرير المناطق التي استولى عليها تنظيم داعش. تكون السياسة الأميركية منطقية ومقبولة، لو أن هناك حلاً سياسيا مؤكدًا يوازي العملية العسكرية، لكنها الآن تقوم بعكس ذلك، بإضعاف الحل السياسي بتنظيفها المناطق لصالح الإيرانيين والروس، فهل يستطيع أحد أن يشرح لنا، أين المنطق هنا؟ منطق واشنطن في البداية كان مفهومًا ومقبولاً. إرسال القوات الأميركية بهدف محاربة تنظيمين إرهابيين: «داعش» و«النصرة»، إثر تنامي خطرهما في سوريا والعراق، بعد عمليات التهجير الواسعة للإيزيديين في العراق، والاستيلاء على مدينة الموصل، واستهداف إقليم كردستان، ومشاهد الذبح والحرق المروعة. ووجد تجاوبًا واسعًا من معظم القوى السياسية الدولية، بما فيها الإقليمية التي شاركت في دعمه.

إنما هذا الهدف يستحق، الآن، أن يعاد النظر فيه نتيجة استغلال الروس والإيرانيين للوضع، وتغييرهم قواعد اللعبة، ومحاولتهم فرض نتائج مختلفة. فالسياسات الطائفية أصلاً هي سبب الفوضى، فممارسات حكومة نوري المالكي السابقة في العراق ضد المعتدلين السنة جلبت «داعش» الذي استولى على ثلث العراق. وفي سوريا تسببت عمليات القتل المستمرة من قبل قوات النظام وحليفها الإيراني، التي فاضت بثلث مليون قتيل، في جلب «الجهاديين» من أنحاء العالم. نحن نفهم لماذا تفعلها إيران، فهي تسعى لفرض أنظمة حليفة للسيطرة على البلدين، لكن من غير المفهوم أن تختصر السياسة الأميركية الأزمة المتعددة في موضوع واحد؛ الجماعات الإرهابية. وحتى لو نجحت القوات الأميركية في هزيمة آلاف الإرهابيين، كيف ستستطيع بعد ذلك حراسة الأرض المحروقة حتى لا يعودوا؟ وكيف ستمنع الإرهابيين من عمليات التجنيد اللاحقة بين ملايين السنة الذين يتم تشريدهم على أيدي قوات النظام السورية، والقوات الإيرانية، والروسية؟

التطور الجديد أنه لم يعد للحل السياسي مكان في مفاوضات فيينا المقبلة، فالروس والإيرانيون يريدونها جلسة استسلام، بقتل ومحاصرة المعارضة السورية المعتدلة، وتهديد الدول المؤيدة لها. وطالما أن المشروع الروسي يقوم على فرض حل سياسي بالقوة، بتنصيب الأسد وتسليم إيران المنطقة، فإن واجب دول المنطقة على الجانب الآخر تغيير مفهوم دعمها للمعارضة، برفع مستوى تسليحها، الذي ظل دائمًا محدودًا نتيجة الاشتراطات الدولية، وعلى أمل التوصل إلى حل سياسي يجمع كل الفئات السورية في مشروع حكم واحد. رفع دعم المعارضة قد يكون الطريق الوحيد لتحقيق التوازن على طاولة التفاوض. دون ذلك من الأفضل توفير الوقت، بتسليم الإيرانيين المهمة، ونقل المفاوضات إلى طهران، وتكليف جماعتها بحكم سوريا. وفي نفس الوقت على دول المنطقة، وأوروبا، نتيجة لذلك استقبال المزيد من ملايين الهاربين من سوريا والعراق، لأن المنطقة لن تستقر.

 

سوريا.. دراسة في السخرية الدولية
أمير طاهري/الشرق الأوسط/16 كانون الثاني/16

إذا سارت الأمور بشكل جيد فسوف تنعقد أحدث مناورة سياسية حول سوريا في وقت ما خلال هذا الشهر. ومع ذلك، لا يمكن للمرء أن يتوقع بالتأكيد ما ستثمره جولة المحادثات المقبلة، التي أيدها مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة بالإجماع. إن أول شيء ينبغي معرفته عن الممارسة الدبلوماسية المقترحة هو أنها ترتبط بسوريا بشكل عرضي على أقصى تقدير. ويكمن الغرض الحقيقي من المحادثات في شيء آخر. وهذا يتضح على الفور من أول خطوة اقترحها قرار مجلس الأمن «لتحقيق وقف إطلاق النار في بلد مزقته الحرب». وعادة عندما يقرر مجلس الأمن وقف إطلاق النار، يكون عاقدًا العزم على تحقيقه على الفور. فعلى مدى السنوات السبعين الماضية منذ تأسيسها، أعلنت منظمة الأمم المتحدة العشرات من قرارات وقف إطلاق النار، جميعها دخلت حيز التنفيذ على الفور. لكن هذه المرة، رغم ذلك، يتصور مجلس الأمن وقفًا لإطلاق النار ناجمًا عن محادثات غير محددة في موعد غير محدد. والأسوأ من ذلك، يجري استبعاد أكثر من نصف المتورطين في الحرب السورية متعددة الجوانب حتى من المحادثات بشأن وقف إطلاق النار.

في سوريا، لدينا نوعان من النار..

النوع الأول هو النار التي تطلقها الفصائل المتناحرة، بما فيها بقايا نظام الرئيس السوري بشار الأسد، والتي يعادي بعضها بعضا خلال المعارك العرضية والنادرة. ويوقع هذا النوع عددا قليلاً نسبيًا من الضحايا، حيث لا يمتلك أي من تلك الفصائل القوة الكافية لوضع نتيجة حاسمة وواضحة للمعركة. فعلى مدى الأشهر الـ18 الماضية، تغيرت الصورة المرسومة بأن سوريا أصبحت تحت سيطرة العديد من الجماعات المسلحة. وبالتالي، سواء تمكنّا من وقف هذا النوع من إطلاق النار أم لا، فإنه لن يكون له أثر يذكر على الوضع العام في سوريا.

النوع الثاني هو النار المطلقة من الجو، غالبًا ضد السكان المدنيين. ويخضع هذا النوع لسيطرة عدد قليل نسبيًا من الأطراف اللاعبة في الصراع السوري. يضرب ما تبقى من سلاح الجو السوري أهدافًا مدنية بشكل روتيني، بما فيها الضرب بالأسلحة الكيماوية، مع تغير ضئيل أو معدوم في ميزان القوى على الأرض، وهذا لا يرقى إلى كونه مذبحة بحق المدنيين بقدر ما هو عمل من أعمال الحرب. وكان من الممكن أن يدعو مجلس الأمن بسهولة إلى وقف فوري لإطلاق النار من الجو، غير أنه لم يفعل.

كما تأتي النار المطلقة من الجو مما يسمى بالتحالف الذي تقوده الولايات المتحدة، وفي الآونة الأخيرة من روسيا. وفي كلتا الحالتين، تكون لهذا الأمر أضرار «جانبية» كبيرة، بمعنى أن المدنيين يُقتَلون، من أجل تحقيق مكاسب عسكرية ضئيلة.

وإذا كانت النار الروسية المطلقة من الجو تقتل المزيد من الأشخاص، فإن ذلك بسبب عدم امتلاك الروس هذا النوع من القنابل «الذكية» والصواريخ «الكبريتية» التي يمتلكها التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة. وهنا، أيضًا، كان من الممكن أن يدعو مجلس الأمن إلى وقف فوري للقصف الذي لا يثمر أي نتائج ملموسة، بسبب أن التحالف الدولي وروسيا واللاعبة الأخرى إيران لم تتمكن من ترجمة الضربات الجوية إلى مكاسب سياسية على أرض الواقع. وفي ظل غياب استراتيجية عسكرية متماسكة، فإن هذا الأمر ببساطة مجرد قتل وحشي. ومجددًا، تحرك مجلس الأمن في هذا الصدد.

لذلك، من الصعب اعتبار أن القرار والمحادثات المقترحة هي نتيجة الرغبة الحقيقية في وقف عمليات القتل في سوريا. إنها تنطوي على أغراض أخرى. يكمن أحد الأغراض في خلق الوهم بأن ما يسمى المجتمع الدولي توصل الآن إلى إجماع بشأن سوريا. وهذا غير صحيح بتاتًا.

يمتلك محور موسكو – طهران أجندة تهدف إلى إطالة الحكم الوهمي لبشار الأسد في دمشق. وأدركت روسيا فجأة أنها دخلت عش الدبابير ولا تمتلك أي مخرج. وعلى الرغم من أن رئيسها فلاديمير بوتين هو لاعب حذر، فإنه يعلم أن مأزقه السوري قد يستمر لسنوات، في ظل معاناة روسيا من انهيار اقتصادي، وقلق الرأي العام إزاء المغامرة الخارجية المكلفة. ويعلم بوتين أيضًا أنه من خلال دعم الأسد، وقصف المعارضين، فإنه يضمن تدني شعبية روسيا بشكل عميق ودائم في العالم الإسلامي. وبالأحرى، سيكون لادعاء المعارضة الروسية المسلمة أن بوتين يمد مذبحته ضد المسلمين من القوقاز إلى سوريا، صدى لدى العديد من المسلمين في جميع أنحاء العالم. أما بالنسبة لملالي طهران فإنهم يواجهون صعوبات، متمثلة في دفع رواتب ليس فقط المعلمين، ولكن أيضًا ضباط الأمن. وفي الوقت ذاته، منيت إيران بخسائر فادحة، بما في ذلك مقتل 140 ضابطًا على الأقل في غضون شهرين فقط، في ظل عدم تحقيق أي شيء من الناحية العسكرية. ويتمثل الهدف الرئيسي لإيران في إطالة فترة الأسد في القصر الرئاسي، وذلك لحفظ ماء وجه المرشد الأعلى الذي وعد بالحفاظ على حليفه المدلل في السلطة. ولا تهتم الولايات المتحدة، تحت حكم الرئيس باراك أوباما، إلا بشراء الوقت، وخلق الانطباع بأن الممارس الكبير لـ«الدبلوماسية المبدعة» حل مشكلة دولية رئيسية أخرى، في أعقاب نجاحه الكبير في منع إيران من تطوير قنبلة نووية. وبعبارة أخرى، يريد كل هؤلاء الذين شاركوا في طبخ قرار الأمم المتحدة الساخر شراء الوقت. وتوفر تلك الممارسة لهم متسعًا من الوقت. ومن المقرر إجراء محادثات جنيف هذا الشهر، مع الاتفاق على وقف إطلاق النار خلال الأشهر الثلاثة المقبلة. وبعد ذلك بثلاثة أشهر سوف تبدأ المحادثات لتشكيل حكومة مؤقتة، تكون تحت حكم الأسد على ما يفترض. وستكون الخطوة التالية إجراء انتخابات – برلمانية على الأرجح – في غضون 18 شهرًا. كل هذا من شأنه أن يأخذنا إلى عام 2018، إن لم يكن بعده. وبحلول ذلك الوقت، يكون الرئيس أوباما قد غادر البيت الأبيض منذ فترة طويلة، ونشر مذكراته التي يشير فيها إلى سوريا كأحد نجاحاته الدبلوماسية العديدة. وإذا حدثت الأمور بشكل أسوأ في ذلك الحين، فإنه ببساطة يلقي باللوم على خلفه في ذلك.

أما بالنسبة لبوتين فإنه يكون قد حقق شيئًا واحدًا على الأقل: دفع ضمه لأوسيتيا وأبخازيا وشبه جزيرة القرم ودونيتسك في غياهب النسيان. وسيكون المرشد الأعلى لطهران قادرًا على التباهي بأنه حافظ على الأسد في السلطة حتى نهاية ولايته. وإذا انتهى الحال بالأسد بشكل سيئ حينئذ، كما هو مؤكد، فإن المرشد الأعلى قد يتركه كمجرد «شهيد آخر للإمام». كما أتاحت سخرية الأمم المتحدة لتركيا والعرب الخروج من المشكلة بسهولة. فكانت السياسة التركية موضوعة على مسار خاطئ، لأن الرئيس رجب طيب إردوغان حاول استغلال الفرصة التي وفرتها المأساة السورية لتدمير حزب العمال الكردستاني، واقتطاع «منطقة آمنة» من كل من سوريا والعراق. من جانبهم، فشل العرب في تنسيق سياساتهم، وكشفوا عن انقساماتهم التي تشجع أعداءهم فقط. وتلبي ممارسات الأمم المتحدة الساخرة الاحتياجات التكتيكية لكل القوى الخارجية المتورطة في المأساة السورية. والمتروكون فقط هم أبناء الشعب السوري، الذين يستمر قتلهم كل يوم.

المؤسسات الدينية وتدبير الشأن الديني
رضوان السيد/الشرق الأوسط/16 كانون الثاني/16

قرأتُ أخيرًا مقالةً للباحث الأردني المعروف إبراهيم غرايبة عن التجربة الأردنية في إدارة الشأن الديني. وهو يذكر أنّ الدولة الأردنية تنفق كل عامٍ ما يُناهز المليار دولار على المعْنيين بالشأن الديني في الأوقاف والإفتاء والجامعات والمعاهد الإسلامية والجهات الدعوية والخيرية. لكنّ الجهود الكبرى المادية والسياسية ما أفلحت في النهوض بالمؤسسات، ولا حمت الدين من التطرف، بل إنها ربما أثرت تأثيراتٍ معكوسة أحيانًا. لقد كان غرايبة قاسيًا في الحكم على أعمال المؤسسة الدينية الأردنية وتأثيراتها. لكنّ الموضوع شديد الأهمية، وينبغي أن يخرج إلى النقاش العلني، وأن يجري التداولُ فيه على أوسع نطاق، لأنه لا شيء يفوقُهُ في الاعتبار الآن. فهناك الكثير جدًا من العنف الذي يُمارَسُ باسم الدين بحيث جرؤْتُ على القول إنه حدثت انشقاقات في ديننا، وهذه الانشقاقات تحاول تفجير مفهوم الدين. وبذلك فإنّ التجربة السابقة في النصف الثاني من القرن العشرين في إدارة الشأن الديني ينبغي نقدها ومراجعتُها فيما بين الدولة والمؤسَّسات الدينية والمثقفين وواضعي الاستراتيجيات. وقد اقترحتُ في محاضرةٍ بمركز الملك فيصل بالرياض في مطلع العام 2014 أن تقوم الجهات الأربع الرئيسيةُ السالفةُ الذكر بالتشاور والتداول والتخطيط للقيام بثلاثة أُمورٍ لإصلاح إدارة أو تدبير الشأن الديني، وهي: أولاً، إطلاق عمليات مراجعةٍ ونقدٍ لتحويلات المفاهيم الدينية التي تمكّن الحزبيون والمتطرفون في العقود السبعة أو الثمانية الأخيرة من «إنجازها» لجهات التأويل والتحويل وتغيير الاتجاه والزيادة والنقصان في ثوابت ومسائل حساسة مثل الإيمان والجهاد والخلافة والعلائق العدوانية أو الانفكاكية بالدولة وبالمؤسسات الدينية وبعالم العصر وعصر العالم. والمهمة الثانية: تقوية المؤسسات الدينية بحيث تجدِّدُ كفاءتَها وفعاليتها وتتمكن من القيام بمهامها الأربع الأساسية، وهي: رعاية وحدة العبادات ليظلَّ المسلمون يصلّون معًا ويتشاركون ثوابتَ الدين وأصولهُ وأركانه، والتعليم الديني لتربية الأجيال صغارًا وفتيانًا وكبارًا متخصصين على علاقاتٍ سويةٍ بين الفئات الاجتماعية، ومع الدولة وإدارة الشأن العام. ومع الآخر المختلف بالداخل وفي العالم. والمهمة الثالثة: الفتوى المستنيرة التي تدفع المتدينين باتجاه الفهم والتلاؤم والنظر إلى المشكلات كبيرها وصغيرها بعيون الإقدار والتمكن والأفق المفتوح. والمهمة الرابعة: الإرشاد العام؛ إذ لم تعد جهات وتيارات التأثير على المجتمعات مقتصرةً على الدول، بل التأثير الأكبر للجهات التي تمتلك الإعلام ووسائل الاتصال. ومن حقّ الجهات الدينية المشاركة والتنافس إذا صحَّ التعبير بحكم وظيفتها التقليدية لهذا الجانب، وبحكم الطوارئ في العلاقة بين الدين والمجتمعات، وبين الأصوليات والعصر.

أما الأمر الثالث الذي ينبغي إعادة التفكير فيه والتدبير بشأنه، فهو العلاقة بين الدين والدولة، أو بالأحرى بين الدولة والمؤسسة الدينية. فقد كانت العلاقةُ تعاونيةً وللدولة اليد العليا فيها باعتبار أنها هي التي تنفق على الشأن الديني من خلال تلك المؤسسات. وقد اعتقد المثقفون العرب، وبخاصة اليساريون والعلمانيون، أنّ هنا مشكلتين؛ مشكلة التقليد الديني الذي يتبادل الحماية مع الدولة التي تشجع الاتجاهات «الرجعية»! والمشكلة الأخرى عمل أرباب الشأن الديني في الدفاع عن الأنظمة القائمة أيًّا كان شكلها، وأيًّا كانت شرعيتها. وما كان هؤلاء مع استقلال الشأن الديني والمؤسسة عن الأنظمة، بل كانوا مع إزالتها أو عزلها للقضاء على الموروث الرجعي، وفصل الدين عن الدولة! وقد تبين أنّ هذا الفهم الذي كُتبت فيه نظرياتٌ هائلة تتخلله أخطاء الفهم والاستنتاج من عدة نواح. فالدول «التقدمية» ما كانت تحمي التقليد الديني، بل كانت تريد إضعاف المؤسسة أو إدخالها في عمليات «التحديث». ثم إنّ الأصوليات الانشقاقية خرجت أول ما خرجت على تقاليد فقه الدين وفقه العيش لدى المؤسسات الدينية. وتجاهلت كل موروث التجربة التاريخية الإسلامية، باتجاه التأصيل القاطع في الكتاب والسنة وتجربة الراشدين، التي تفهمها وتفسّرها بحسب هواها ومطامحها أو مطامعها.

بيد أن هذا وذاك لا يمنع من القول إن تجربة العلاقة في العقود الماضية لم تكن ناجحةً بدليل انفجار الدين بأيدي الدول والمجتمعات والمؤسسات الدينية. فلا بد من التفكير «من خارج الصحن» كما يقال، لإعادة الانسجام بين الدين والدولة في العالمين العربي والإسلامي. إنّ القياس على التجربة الغربية واقتراح حلول بالمنطق نفسه، قد يكون مفيدًا من حيث الكشف عن تعددية الخيارات. أما الواقع فهو أنّ التجارب التاريخية والحاضرة مختلفةٌ تمامًا. فالدين ورجالاته ما حاولوا الحلول محلَّ رجالات الدولة، ولا الاستيلاء على الشأن السياسي. بل إنّ الإمامة (= السلطة) بحسب الماوردي كانت لها مهمتان: حراسة الدين (= حفظه على أصوله المستقرة)، وسياسة الدنيا. وبذلك فهي لا تتدخل في عقائده وعباداته ومعاملاته، لكنها تصون الثوابت والإجماعات، وبلغة العصر: الحريات، حرية العقيدة، وحرية العبادة، وحرية التعليم. وبالطبع، ليس من مصلحة الإدارة السياسية أن يتدخل العلماء في الشأن السياسي بما يتجاوز النصيحة. بيد أن متغيرات الحداثة والعصر أحدثت اختلالاتٍ هائلةً في سائر الجوانب: فالسلطات أرادت المضي في ضبط الشأن الديني، والمثقفون العرب والمسلمون أرادوا إخراج الشأن الديني من المجال العام، والشبان تمردوا على الجهات الدينية والسياسية، وأرادوا استعادة الشرعية الدينية للمجتمع والدولة من خلال الاستيلاء على إدارة الشأن العام وتطبيق الشريعة!

ما كانت تجربة المؤسسات الدينية في العقود الخمسة الأخيرة رائعةً أو واعدة. ولا يرجع ذلك إلى التبعية للسلطات وحسْب، ولا إلى مجاملة الأصوليات في مسألة الدين والدولة وحسْب؛ بل وإلى أنها ما كانت ناهضةً وقويةً بحيث تصبح مهيبة الجانب، وموضع ثقة، وموضوع نظر من المجتمعات والعالم. إنما ولكي نقدر مدى أهمية تلك المؤسسات، لنَرَ كيف تنافست الأنظمة والأصوليات في دول الاضطراب على تخريبها وقتل شيوخها. كل العرب، بل كل المسلمين، بل كل البشر، مشغولون اليوم بمواجهة العنف باسم الدين تحت اسم الإرهاب. وبالطبع، لا مجال للتردد في ذلك. لكن مجتمعات المسلمين مجتمعات ضخمةُ، وثلث المسلمين بعد هذا يعيشون في مجتمعاتٍ أكثرياتها غير مسلمة. فلا بد من التفكير منا جميعًا بمراجعة تجارب الماضي القريب للعيش فيما بيننا ومع العالم. ولا بد من التفكير بطرائق تسكين الدين أو القلق الديني. وكما لم نستفد من سيطرة الدول على الشأن الديني، فكذلك لم نستفد من ضعف المؤسسات الدينية واستتباعها واختراقها من جهةٍ أخرى من جانب المتشددين: فهل يمكن استعادة الانسجام بين الدين والدولة في مجالنا الاستراتيجي من طريق تعاون السلطات والجهات الدينية والمثقفين في «حفظ الدين على أصوله المستقرة، وأعرافه الجامعة»؟!

 


Viewing all articles
Browse latest Browse all 21056

Trending Articles