رجال رفعوا شأن عين إبل- الجزء الثاني
الكولونيل/شربل بركات/03 كانون الثاني/16
كنا ذكرنا أهمية المجتمع الزراعي في عين إبل وبالتالي مهمة الناطور ودقة موضوع الحماية بالنسبة لهؤلاء الفلاحين فالفلاح يعمل كل السنة متأملا بموسم يؤمن له على الأقل الخروج من فصل الشتاء بدون كبير عناء ويكفيه مشاكل الطبيعة ومطالب الدولة أيام السلطنة وبعض الغزاة الخارجيين من البدو أو “الطياحة” أحيانا ولا يمكنه أن يتحمل تعدي الأقارب إن من جهة الرعيان وقطعانهم أو من جهة بعض المتطاولين، من هنا كان دور الناطور مهما والثقة التي تعطى له حساسة لأن عليها يقوم التوازن بين العمل والجهد والخبرة من جهة وبين ما يدخل إلى البيت في آخر الموسم من جهة أخرى.
لم يصلنا الكثير من الأخبار عن الأيام القديمة اي التي سبقت نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن الماضي وذلك بسبب عدم التدوين الذي يغيّب الأخبار مع غياب الأجيال التي عاشت أحداثها، ولكن من المؤكد أن تراثا من التنطيم عشناه في بداية القرن الماضي لا بد وأنه ارتكز على أسس كانت قائمة وقد اضاف إليها أو جددها رعيل أبو يوسف وشقيقه انطانس في موضوع النوطرة زمن تزعم ابو بركات العائلة ومحاولته جمع البلدة والتطلع إلى المجال الأوسع من حدودها في التجارة والعلاقة مع السلطة وفتح الآفاق. وقد تضافرت هذه الجهود لتنتج تماسكا اقوى وتكاتفا من أبناء عين إبل استند على المصاهرة والمشاركة بالانتاج وبالتاكيد نوع من العدالة النسبية لا الاستنسابية التي تاثرت بدون شك بأهمية وهرة السلطة التي كانت رافقت حكم المير بشير (بالمقابلة مع الاحداث التي تلت نهاية حكمه) بعدما ارتاح البلد من سلطة الجزار الظالمة والمتعسفة والتي كانت أدخلت منطقتنا خاصة في فراغ بالزعامة المحلية منذ خسارتها لزعيمها شيخ مشايخ بلاد بشارة الشيخ ناصيف النصار الذي كان متوجها لقتاله. وقد فرض الجزار، يومها، على أبناء المنطقة الخدمة الاجبارية في فرق “السرولي” أو السخرة ما أدخل مصطلح “الطياحة” ومشاكلهم وردود الفعل عليهم، إلى ذهنية ابناء المنطقة. وهنا لا بد من الاشارة لدخول اسم “ناصيف” هذا أغلب عائلات عين إبل دلالة على التقدير والاحترام والتعاون لذلك الذي أعاد بناء وتنظيم بلاد البشارة لأول مرة منذ رحيل الصليبيين والفوضى التي رافقت حكم المماليك بعدهم والتي كانت “أفرغت البلاد من أهلها” كما ذكر المؤرخ الخالدي الصفدي.
بالعودة إلى موضوع النواطير الذي ساهم بدون شك بنهضة زراعية كبيرة في عين إبل نذكر بعض المواقف والاخبار التي تدل على فرض القانون واحترامه فقد قام أحدهم بسرقة بعض ثمار الايجاص فعلم الناطور، وكان أبو يوسف، وتقصى حتى عرف السارق فأجبره على إعادة المسروق وتعليقه في مكانه على الشجرة. وفي إحدى المرات لحق الناطور أثر السارقين وكانوا قد سرقوا بعض رؤوس الماعز حتى وصل إلى مضارب قبيلتهم وكانوا من العرب النازلين في شمال فلسطين بين الحولة وطبرية فدخل إلى شيخ القبيلة بحسب عادات هؤلاء ورفض تناول القهوة لأن “لنا عندكم حق وقد تبعنا الأثر حتى وصل إلى مضاربكم فإما أن تخرجوه وإما أن تعيدوه” وهكذا فقد عاد ومعه المسروق، وإن دلت هذه على شيء فهي تدل على أن الناطور الذي عرف عادات وتقاليد المنطقة وكيفية معالجتها تحمل مسؤولية ليس فقط منع الضرر إنما ملاحقة الحق حتى إعادته لاصحابه وهو ما أعطى قيمة كبرى لمهمته واحترام لملكية الأفراد. ومن أخبار هؤلاء النواطير فقد رأى الناطور، وكان روكس فاعور على ما أعتقد، أحد الخوارنة راكبا دابته على طريق النقار فلحق به وسار بجانبه وخلال الحديث مروا بقرب حقل مزروع حمص وكانت حبوب الحمص في ذلك النهار من اوائل ايار تغري فقال الخوري “شو رايك تجيبلك شوية حمص الدنيا شوب والهيئة صاروا محشيّن” فأجاب الناطور “أنا ما بسترجي بيجيلي الناطور” فقال الخوري “وين الناطور ما بيلحق يطل منكون خلصناهن” فأجابه ” الناطور هذا موجود وين ما كان ما بتعرف إلا وهوي واصل” فقال الخوري “امسكلي هالدابة وأنا راح انزل جيب” فأجابه “على مسؤوليتك انا نبهتك هيدا الناطور ما بينلعب معو” فقال الخوري “خليه يجي شو بدو يعمل” فمسك الدابة وتركه ينزل إلى الحقل وعندما قطف أول بيت حمص صرخ به “وقف عندك أنا الناطور” فقال الخوري “طيب منيح لكن صار فينا نوكل عا رواق” فأجابه الناطور “له اترك اللي بأيدك والحقني لعند المختار بدك تدفع جزا تتوخد الدابة تبعتك” وكان هذا أقسى درس لذلك المسكين لشهوة اشتهاها، وهذه التصرفات تدل أحيانا عن ظلم ولكنها بالحق هي التي صانت أملاك الناس ورزقهم فلا مجال للمناقشة مع الناطور والقرار يعود إلى المختار الذي بدوره يتحمل مسؤولية الناس واستمرار احترام القانون. وهذا الناطور عينه صادر مرة حصان والده وجعله يعود إلى البيت مشيا لأنه لم يطول له في المكان المسموح به ولم ينم الناطور في البيت يومها ولكنه احترم مهمته وأداها بكل تفصيل وبدون مسايرة حتى لوالده. (يتبع)