جبران باسيل للعرب: بيروت مثل مضايا
نديم قطيش/الشرق الأوسط/15 كانون الثاني/16
من محن اللبنانيين الكثيرة أن يودعوا في غضون عشرة أيام علمًا من أعلام الدبلوماسية والسياسة، وزير الخارجية اللبناني الأسبق فؤاد بطرس، وأن يستقبلوا فضيحة جديدة لوزير الخارجية الحالي جبران باسيل. كأن جرح الانحدار المريع من بطرس إلى باسيل لا يكفي بحد ذاته، فيزيد عليه الرجل إهانة خالصة مثلها أداؤه في اجتماع وزراء الخارجية العرب، وامتناعه عن التصويت على قرار يدين اعتداءات إيران على السعودية. قرر باسيل أن يغرد خارج سرب إجماع العرب، بما في ذلك العراق الذي اكتفى بملاحظات على القرار لا تقدم ولا تؤخر في حقيقة التصويت. حجته هي حماية الوحدة الوطنية اللبنانية، ونأي لبنان بنفسه عن صراعات المحاور في الإقليم، وهو ما كان يمكن تحقيقه لو حذا حذو العراق بالتصويت على قرار إدانة إيران والتحفظ على وسم حزب الله بالتنظيم الإرهابي. بل كان يمكن حتى فهم الموقف الذي اتخذه الوزير اللبناني لو أن حزب الله ليس واحدًا من الحراب التي تجرح بالمملكة، والفئة التي تتصدر، بلسان عربي فصيح، أعنف الهجمات عليها، خدمة خالصة لإيران، ومن دون مصلحة لبنانية في ذلك. بهذا المعنى بدا واضحًا أن باسيل اختار أن يكون وزير خارجية حزب الله لا الدولة اللبنانية التي مثلّها، حتى لو شاركه في الخطيئة رئيس الحكومة تمام سلام الذي قال إن موقف الخارجية اللبنانية اتخذ بالتنسيق معه وبموافقته. وإذا مثّل الموقف، بسبب دعسة سلام المستغربة، أي شيء له صلة بالدولة اللبنانية، فقد مثل دولة لا تريد أن تتحمل مسؤوليتها حيال الموقف العدواني لحزب الله، الذي تجاوز السياسي إلى المساس بالأمن القومي للمملكة، من خلال التحريض المتكرر على إسقاط النظام أو «التنظير» لحتمية سقوطه.
ليس خافيًا أن حزب الله يطرح إشكالية معقدة على الحياة السياسية والوطنية اللبنانية؛ فمن جهة هناك الإقرار، ذو القاعدة الصلبة، بكونه ميليشيا تشترك اشتراكًا بينًا في العدوان على الأمن القومي العربي، ومن جهة هناك الاضطرار للتعامل معه ومع صفته التمثيلية بصفته حزبًا لبنانيًا شيعيًا في نظام سياسي طائفي، بل مذهبي. وبسبب من هذه الإشكالية، كان على لبنان ألا يقع في فخ مغازلة حزب الله أبعد بكثير من قدرة الدول العربية على تفهم لبنان، وأن يميز بين ما تطلبه إدارة هذه الإشكالية في الداخل، وبين تبعاتها على موقف وموقع لبنان العربي، وحيال دول يرتبط فيها بمصالح اقتصادية وسياسية ودبلوماسية، تطال الدولة وشرائح كبيرة من اللبنانيين. بدل ذلك، انتهينا إلى موقف يجمع، بخفة لا نحسد عليها، بين «الدلع» اللبناني على العرب، وتواطؤ بعض الانتهازيين وعديمي المسؤولية كالوزير باسيل، مفترضين أن سعة الصدر العربي كافية لابتلاع تخلي لبنان عن مسؤولياته، وأن «نكتة الوحدة الوطنية» كافية لأن يغطي فريق لبناني، الاختراق الخطير الذي بات يشكله حزب الله، سمينا ذلك إرهابًا أو خلافه. وقد كشف لي وزير خارجية دولة الإمارات العربية المتحدة الشيخ عبد الله بن زايد آل نهيان، أنه حاول الوصول مع الوزير باسيل إلى تسوية تزال بموجبها الإشارة إلى حزب الله، في مقابل أن يحصل جبران عبر عمه الجنرال ميشال عون على التزام من حزب الله بعدم التعرض للمملكة بما يمس أمنها، مؤكدًا أن بلاده لا تتدخل في موقف حزب الله السياسي الداخلي في لبنان. يعرف الشيخ عبد الله، بحنكته وخبرته، أن مثل هذا الاقتراح لن يمر، وهو ما حصل، لكنه كان يريد من خلاله إحراج باسيل وإفهامه أن الجميع بات يعرف لعبة التذاكي اللبناني، التي تعمل، إما عن قصد وإما نتيجة تخلٍ عن المسؤولية، في خدمة تغطية مشروع حزب الله المعلن بمعاداة العرب ومصالحهم خدمة لإيران، لا أكثر ولا أقل.
لا حاجة للتأكيد أن لبنان لا يزال يقاوم، الاحتلال الإيراني له عبر ميليشيا حزب الله، التي تزداد سفورًا في إعلان هويتها الميليشياوية. لكن هذه المقاومة تضعف، فيما يزداد حزب الله إصرارًا على منطق العدوان. ولئن كان لا بد من استنهاض الهمم مجددًا ومعالجة الاعتياد على تجرؤ ميليشيا حزب الله، لا بد أيضًا من التفات عربي جاد لتعزيز مرتكزات هذه المقاومة، إعلاميًا وسياسيًا، بموازاة إشعار لبنان أن «دلعه» لن يمر. هذه معادلة دقيقة آن أوانها. ما قاله الرئيس سعد الحريري إن موقف جبران باسيل، «لا يعبّر عن رأي غالبية اللبنانيين»، هو كلام ينم عن عاطفة صادقة، لكنه يعبر أيضًا عن واقع سياسي ووطني لبناني، لا ينبغي التفريط فيه. الألم الذي عبر عنه مسؤولون وكتّاب عرب من موقف لبنان، هو تجسيد لخيبة أمل بحجم حبهم لهذا البلد، لكنه يجب ألا يسقط حقيقة حاجة لبنان للعرب أكثر من أي وقت مضى. فلا فرق بين بيروت ومضايا إلا توفر الطعام على موائد المحاصرين، الذين يقاومون، والذين لا ينبغي تركهم.