تجويع مضايا والمشروع الإيراني في سوريا
خيرالله خيرالله/العرب/15 كانون الثاني/16
هناك نية واضحة لدى إيران في إعطاء الصراع الدائر في سوريا طابعا مذهبيا، على الرم من أنه صراع بين شعب يسعى إلى استعادة كرامته من جهة، ونظام يعمل من أجل استعباده.
أبعد من حصار مضايا، ثم سماح النظام السوري و”حزب الله” بإدخال مواد غذائية إليها، الإصرار لدى جهة معيّنة تقف وراء الحزب على الربط بين مضايا السنّية وقريتيْ كفريا والفوعة الشيعيتين. هناك نيّة واضحة لدى إيران في إعطاء الصراع الدائر في سوريا طابعا مذهبيا، على الرغم من أنّه صراع بين شعب يسعى إلى استعادة كرامته من جهة، ونظام يعمل من أجل استعباده. من هذا المنطلق، لم يكن الحصار الذي استهدف مضايا وتجويع أهل البلدة القريبة من الحدود اللبنانية والذين يقدّر عددهم بنحو أربعين ألفا، مستغربا. إنّه حصار يأتي في سياق عمليات التهجير والحصار التي مارسها النظام السوري منذ قيامه، أي منذ تفرّد حافظ الأسد بالسلطة في خريف العام 1970. الجديد الآن البعد الذي أخذه حصار مضايا. يتمثّل هذا البعد في الانتقال من إفقار سوريا والسوريين.. إلى تجويع البلدة. لم يتغيّر شيء في نصف قرن. كان مطلوبا في كلّ وقت إخضاع السوريين بكلّ الوسائل المتاحة، بما في ذلك تيئيسهم وتحويلهم إلى عبيد في خدمة النظام الأقلوي. لذلك استُحضر علويون لاستيطان مناطق خاصة بهم في المدن الكبرى، مثل دمشق وحلب وحمص وحماة وفي طول الساحل السوري وحيث وجدت مدينة سورية ذات شأن.
حيث لا وجود لكثافة سكّانية علويّة، خصصت أحياء جديدة في المدن الكبرى لهؤلاء. شغل هذه الأحياء جنود وضباط ينتمون إلى حاميات مرابطة في تلك المدن أو في مواقع قريبة منها. أما القرى الجبلية التي جاء منها العلويون إلى المدينة ليكوّنوا السلطة الأمنية فيها، فقد اشترى أراضيهم فيها المتمولون الكبار من أبناء الطائفة. وبين هؤلاء عدد لا بأس به من كبار الضبّاط المعروفين. استطاع حافظ الأسد، منذ احتكاره السلطة، تغيير طبيعة المدينة السورية وذلك في ظلّ كرهه لأهلها وحذره منهم. كان هدفه الدائم، وهو البعثي القديم المؤمن بحلف الأقلّيات، ترييف المدينة وفي باله كبار الضباط السنّة، الآتين من المدن الكبيرة، الذين تخلّص منهم الواحد تلو الآخر بعدما استطاع إعادة تركيب الجيش على طريقته، وبما يتلاءم مع النظام الأمني الذي أقامه.
خضع أهل دمشق الذين يمتلكون مزاجا مسالما، فيما جرى تطويع حلب وحمص وحماة بالحديد والنار. كانت هناك انتفاضة في حلب في العام 1980. بلغت حصيلة تلك الانتفاضة التي لم يعد يتحدّث عنها أحد ما يزيد على خمسة آلاف قتيل.
وفي العام 1982، انتفضت حماة فأزيلت أحياء كاملة من المدينة عن بكرة أبيها وشرّد أهلها. أمّا عدد الضحايا، فزاد على عشرين ألف قتيل. هناك عائلات كاملة أُبيدت على يد قوات تابعة للنظام. كان كبار الضباط العاملين في خدمة النظام، على رأسهم رفعت الأسد، يتبارون في مجال ممارسة الوحشية في المدينة وحيال أهلها بحجة أن القتال دائر مع “جماعات إسلامية متطرّفة لجأت إلى الإرهاب”. أمّا حمص، فكانت موضع ضغوط مستمرّة. كان مهمّا للنظام تعزيز الوجود العلوي فيها، على حساب السنّة والمسيحيين أيضا، نظرا إلى موقعها الاستراتيجي على الطريق الذي يربط بين دمشق والساحل السوري حيث الثقل العلوي.
كان الهدف من تدجين المدن الكبرى، أيّام الأسد الأب، تدريب المواطن السوري على الانصياع والرضوخ لشعار “سوريا الأسد”، أي لسوريا التي تمتلكها العائلة الحاكمة.
ما يحصل في مضايا التي تعرّضت ولا تزال تتعرّض الآن لحصار يشارك فيه “حزب الله” اللبناني، لم يعد يستهدف الترويج لـ”سوريا الأسد” وفرضها كواقع على السوريين الانصياع له. ما يحدث اليوم يأتي في سياق إقامة الدويلة العلوية المرتبطة بممرّ إلى قسم من الأراضي سهل البقاع اللبناني يسيطر عليها “حزب الله”. يحصل ذلك بعدما حوّل الحزب نفسه وصيّا على الدولة اللبنانية وعلى شؤون اللبنانيين. المخيف أن العالم، على رأسه الإدارة الأميركية، يتفرّج على المأساة السورية، وهي مأساة تتمّ فصولا وتشمل عمليات تطهير ذات طابع مذهبي.
المؤسف، أن لا وجود لأيّ رد فعل دولي على الجرائم التي يتعرّض لها السوريون يوميا. من الواضح أنّ هناك مشاركة روسية وإيرانية في عملية تهجير السوريين من أرضهم، وتنفيذ عملية تبادل سكاني من منطلق مذهبي. كان ملفتا مسارعة إيران والناطقين باسمها من لبنانيين وغير لبنانيين إلى الربط بين حصار مضايا من جهة، والقرى الشيعية، مثل الفوعة وكفريا، القريبة من حلب من جهة أخرى. الهدف الإيراني بات مكشوفا. خلاصته أنّه ما دام ليس في الإمكان السيطرة على سوريا كلّها، خصوصا في ضوء سقوط النظام، ليس ما يمنع القيام بعملية جراحية تؤدي إلى تقسيم الكيان السوري بإشراف بشّار الأسد الذي فقد منذ فترة طويلة قدرته على اتخاذ أيّ قرار ذي شأن. مفهوم لماذا تريد إيران ذلك وتسعى إلى تحقيقه عبر “حزب الله” وميليشيات جاءت بها من العراق وغير العراق. هناك مشروع توسّعي إيراني يقوم أساسا على إثارة الغرائز المذهبية، ولكن ما ليس مفهوما أين مصلحة روسيا التي تستهدف المعارضة المعتدلة في تقسيم سوريا؟ هل التغاضي عن تجويع مضايا يمكن أن يفيد موسكو في شيء؟ يعتقد فلاديمير بوتين أن في استطاعته استغلال السياسة الأميركية المتسمة باللامبالاة تجاه المأساة السورية لإثبات أنّ روسيا استعادت مواقعها في الشرق الأوسط. إنه تفكير ينمّ عن قصر نظر في أحسن الأحوال. يمكن أن تربح روسيا في المدى القصير، خصوصا أنّها تنسّق عن كثب مع إسرائيل. ولكن هل سينسى أهل المنطقة من العرب، خصوصا أهل سوريا، من وقف معهم ومن تعمّد تجويعهم وتهجيرهم؟
لن يصنع تجويع مضايا من روسيا قوّة عظمى، ولن تحقّق إيران أي هدف من الأهداف التي تسعى إلى تحقيقها، مهما طال الزمن ومهما تفنّن “حزب الله” في تطوير أساليب الحصار للقرى والبلدات السنّية السورية القريبة من الحدود اللبنانية.
سيبقى تجويع مضايا وصمة عار على جبين كل من ساهم في الحصار وكلّ من عمل من أجل تقسيم سوريا. صحيح أنّ هذا التقسيم صار واقعا، لكنّ الصحيح أيضا أنّ المأساة السورية لا يمكن إلا أن ترتدّ على الذين أشعلوا نارها. من كان يصدّق أن الشعب السوري مستمرّ في ثورته منذ أربعة أعوام وعشرة أشهر. من كان يصدّق أن السوريين سيصمدون كلّ هذا الوقت في وجه “داعش” وكلّ الدواعش السنّية والشيعية.. وفي وجه الإمبريالية الروسية التي تدّعي قتال “داعش” في حين أنّها في الواقع شريك فعّال في الحرب على الشعب السوري لا أكثر ولا أقل؟
هذه الإمبريالية الروسية تبدو أكثر من أيّ وقت شريكا في عملية التبادل السكّاني التي تشهدها الأرض السورية، والتي هي جزء لا يتجزّأ من المشروع التوسّعي الإيراني في المنطقة.
بين إعلان مضايا وإعلان بيروت ـ دمشق!
فايز سارة/الشرق الأوسط/15 كانون الثاني/16
عشر سنوات وستة أشهر، تفصل بين صدور إعلان مضايا وصدور شقيقه إعلان بيروت – دمشق. الأول أصدره مثقفون لبنانيون في بيروت أوائل يناير (كانون الثاني) 2016، والثاني أصدره مثقفون لبنانيون وسوريون بالتزامن في بيروت ودمشق بدايات يونيو (حزيران) 2005. وسط تمايزات بين الإعلانين، ومشتركات جوهرية تجمع بين الاثنين. في تمايزات الإعلانين، أن إعلان مضايا صدر في بيروت وحدها، لأن شقيقتها دمشق غارقة في غمار حرب النظام على السوريين، وليس بمقدور دمشق وسط الدم والدمار أن تشارك في إصدار وثيقة تدين نظام القتل والتدمير وحلفاءه، كما أن اقتصار صدور إعلان مضايا على مثقفين لبنانيين، دون أقرانهم السوريين، كان بسبب غرق الأخيرين في أعماق الحرب، موزعين ما بين مقتول ومعتقل ومصاب ومشرد. والتمايز الثالث، هو اختلاف زمن صدور الإعلانين، إذ صدر إعلان بيروت – دمشق في وقت كانت سمته نهوض قوى وشخصيات في وجه الاستبداد والديكتاتورية وأدواتها، فيما يصدر الثاني عشية بداية العام السادس من المذبحة السورية، التي تشكل رأس جبل جليد لمذابح صارت شائعة في أكثرية البلدان العربية، يتشارك في صنعها إرهاب الدولة الذي تمارسه أنظمة بينها سوريا وإيران وروسيا والعراق مع إرهاب الجماعات المتطرفة من حزب الله اللبناني إلى «داعش» و«النصرة» وميليشيات الحشد الشعبي العراقي في قتل الشعوب. إن الأبرز في معنى الإعلانين خروج مثقفين من قلب النار على زمن الصمت واللامبالاة السائد في عموم المنطقة، ليقولوا كلمة حق في وصف ما يجري والحكم عليه، والتصويب نحو ما ينبغي أن تكون عليه الحال من مواقف تصب في المصلحة العليا للبلدين والشعبين وعموم المنطقة في مواجهة تمدد الاستبداد والإرهاب، وشيوع القتل والتدمير وسط شعارات استهلكت وانكشف زيفها وكذبها. لقد بدا من الطبيعي في الإعلانين وصف حالة التردي العام، حيث أشار إعلان بيروت – دمشق إلى ما جرى في الواقع اللبناني عقب اغتيال الرئيس رفيق الحريري عام 2005، وما أعقبه من اغتيالات في صفوف النخبة اللبنانية، وما تركته من تأثيرات سلبية على العلاقات السورية – اللبنانية، فيما أشار إعلان مضايا إلى ما يحصل في سوريا من جرائم، يتم القيام بها ضد الشعب السوري، يشارك فيها «لبنانيون» تحت شعارات وحجج لا صلة لها بالواقع، كما في حالة حصار مضايا وتمويت أهلها، الأمر الذي يؤثر سلبًا على العلاقات السورية – اللبنانية بنقلها من علاقات الأخوة والتعاون إلى علاقات الصراع الدموي.
وكما في مثال إعلان بيروت – دمشق الذي أخلى مسؤولية السوريين عن تدخلات نظام الأسد في الشؤون اللبنانية، ورفضه ما تمخض عنها من نتائج، فإن إعلان مضايا أخلى مسؤولية الشيعة اللبنانيين، عما يقوم به حزب الله من جرائم في سوريا، لا يتحملها شيعة لبنان، بل هم يرفضونها ويدينونها بكل المعايير، وهي حالة تكاد تتماثل مع محتوى إعلان بيروت – دمشق في موقفه من ممارسات نظام الأسد في لبنان. وبعيدًا عن وصف الحالة، وإعلان البراءة مما يجري من جرائم، فقد خطا إعلان مضايا نحو معالجة ضرورية بمطالبته بانسحاب فوري للمسلّحين اللبنانيين (وليس الشيعة فقط) المتدخّلين في الحرب السورية إلى جانب النظام، نتيجة ما يلحقه ذلك من جرائم وأضرار على العلاقات الثنائية للشعبين، وهو ذات المسار الذي كان يؤدي إليه تدخل نظام الأسد في لبنان حسبما تضمنه إعلان بيروت – دمشق، معلنًا رفض التدخل السوري في الشؤون اللبنانية.
ولم يقف إعلان مضايا عند حدود الانسحاب من الشأن السوري، إنما ذهب إلى الأعمق في الدعوة «إلى تفعيل الحل السياسي، الضامن لوحدة سوريا وشعبها، وانسحاب كل القوى المتدخّلة في الشأن السوري، وترك الشعب السوري، بأطيافه وتشكيلاته، يقرّر مصيره وحريته»، وهي دعوة تتقارب مع ما أشار إليه إعلان بيروت – دمشق عند تحديداته مصير الشعبين اللبناني والسوري، بالقول «نصرُّ على أن سيادة نظم ديمقراطية في البلدين تشكل أفضل ضمانة لقيام ورسوخ علاقات متكافئة وسليمة بينهما. لكننا نتمسَّك، في الآن ذاته، بحق الشعبين في أن يختارا، بكامل الحرية، النظام الاقتصادي والاجتماعي والسياسي الذي يتلاءم وتطلعاتهما من دون أي إكراه». بين إعلاني بيروت – دمشق ومضايا زمن طويل زاد على عشر سنوات ونصف السنة، لكن روابط الإعلانين كثيرة، والأبرز فيها، أن مثقفين يحملون هم بلادهم، يتابعون ما يجري فيها وحولها، ويؤشرون إلى مواطن الخطر فيما يجري، ليس باعتباره حدثًا راهنًا فقط، إنما باعتباره حدثًا يتطور إلى المستقبل، تاركًا آثاره السلبية على البلد ومواطنيه وعلى ما يجاوره من بلدان وشعوب، الأمر الذي فرض على مثقفي الإعلانين، توصيف الحدث وبيان آثاره، وضرورة الخروج منه، ثم رسم ملامح الطريق الأفضل لتجاوزه، ولعلها النقطة الأكثر أهمية في إعلاني مضايا وبيروت – دمشق.