المؤامرة على سوريا.. من 1920 إلى 2016
إياد أبو شقرا / الشرق الأوسط/25 كانون الثاني/16
تبدو الأزمة السورية اليوم تكرارًا مؤلمًا لفصول قضية فلسطين. ذلك أن معظم ثوابت القوى الكبرى إزاء منطقة الشرق الأدنى بعد الحرب العالمية الأولى ما زالت قائمة. فنحن ما زلنا نعيش الاعتبارات الدينية والثقافية والمصلحية ذاتها التي أسّست قبل نحو 100 سنة لصفقة اقتسام تركة الدولة العثمانية تحت اسم «سايكس – بيكو»، ومعها ارتباطات السير مارك سايكس الوثيقة برعاة قيام إسرائيل بموجب «إعلان بلفور». الثورة السورية، كالانتفاضات الفلسطينية في العقود الأولى من القرن العشرين، بدأت انتفاضة شعبية تطالب بالحرية والكرامة وحق تقرير المصير، لكنها سرعان ما وجدت نفسها محاصرة بـ«لعبة الأمم» التي لا تقيم وزنًا لشعب ولا تعبأ بحق. وشيئًا فشيئًا أخذت الأمور تتكشّف بالتوازي مع تبدّل موازين القوى على الأرض. وما كان سرًا الدور الإقليمي لنظام آل الأسد، ذلك أنه اضطلع بتأديته حتى قبل أن يغدو حافظ الأسد الحاكم الرسمي لسوريا في أواخر 1970. كان في صميم مهام حافظ الأسد «رجل اليمين» في حزب البعث العربي الاشتراكي اعتماد سياسة إقليمية «واقعية» تتعايش مع «حقائق المنطقة»، على رأسها احترام وجود إسرائيل وضرب كل القوى الراديكالية من أقصى اليسار الثوري إلى أقصى اليمين الإسلامي، والعمل على اختراق كل التكتلات والمزايدة عليها في كل شعاراتها.. ثم عند الاضطرار اللجوء للقتل والقمع.
طيلة 8 سنوات ناور حافظ الأسد ولعب بمهارة، مدعومًا برضا دولي مستتر، وظلت شعاراته «العروبية» و«الوحدوية» و«العلمانية» و«الاشتراكية الإصلاحية» سلعًا قابلة للتصدير والترويج. وخلال السنوات الثماني وثق به هنري كيسنجر ليكلفه بضرب المقاومة الفلسطينية، و«ضبط» انفلات لبنان خلال عقد السبعينات، على الرغم من خوضه «حرب تشرين» ضد إسرائيل – بل ربما بسبب مشاركته في تلك الحرب «التحريكية» – ولاحقًا في عام 1982 غض العالم طرفه عنه عندما ارتكب «مجزرة حماه» التي يقال إنه قتل فيها ما بين 20 ألفًا و40 ألف شخص خلال 27 يومًا.
عام 1979 عندما انتصرت الثورة الخمينية في إيران، كان الحكم «العروبي العلماني» البعثي في دمشق الداعم الإقليمي الأول لإيران الخمينية، وهذا حتى بعدما أعلنت أن استراتيجيتها هي «تصدير الثورة». وبعدها عندما واجه العراق، مدعومًا بالكثير من الدول العربية المتوجّسة خيفة من أحلام الهيمنة الإيرانية – وقفت دمشق حافظ الأسد «البعثية» ضد بغداد صدام حسين «البعثية».. مؤيدة طهران «الخمينية»! ولكن حتى هذا المفصل، تجاوزه حافظ الأسد بفضل دهائه، وإتقانه تقديم الخدمات الاستراتيجية لـ«الكبار» حين وحيث تقضي الحاجة.
خروج الأسد الأب من المسرح تدريجياً وتولّي جيل الوارثين عام 2000، لم يغير التوجهات العامة للنظام، إلا أنه غير أسلوب تعامله مع الأزمات. فلقد انتهت مرحلة الحكمة في التعاطي السياسي وفق مقولة «ضربة على الحافر وضربة على المسمار»، وبدأ نهج الإقصاء والإلغاء بالقتل.. الذي راكم الأخطاء وشجّع طهران على تولّي دور أكبر في تسيير الشأنين السياسي والأمني. أول الغيث بدأ بـ«الانتحارات» الداخلية بدءًا من رئيس الوزراء محمود الزعبي (قبل أقل من شهر من تسلم بشار الرئاسة)، ولاحقاً غازي كنعان، وغيره. ثم إلغاء المعارضين في لبنان، سياسيًا في البداية، فجسديًا عبر الاغتيالات، وكان أبرزها اغتيال رفيق الحريري. وتوسّع هذا النهج ليغدو استراتيجية التعامل في الداخل والخارج. ولعله عند هذه النقطة ما عاد ممكنًا الجزم تمامًا حيال أين تؤخذ القرارات الأساسية.. في دمشق أم طهران؟!
«الحالة اللبنانية» كانت خير مؤشر لواقع الأمور في دمشق. فـ«الجهاز الأمني اللبناني – السوري» الذي كان يحكم لبنان فعليًا خلف واجهة رئيس لا يملك من أمره شيئًا، أشرف على عملية بناء «دولة» حزب الله التابعة مباشرة للحرس الثوري الإيراني. واليوم، «دولة» حزب الله أقوى من «دويلة»الجمهورية اللبنانية بدليل رفض لبنان في اجتماعي وزراء الخارجية العرب التصويت لإدانة الاعتداء على السفارة السعودية في طهران، وتكراره الموقف نفسه في اجتماع مؤتمر منظمة التعاون الإسلامي. أضف إلى ذلك منع حزب الله انتخاب رئيس للجمهورية لمدة تزيد على سنة ونصف السنة، وفرضه إطلاق وزير سابق مقرب من الحزب ونظام دمشق رغم اعترافه بالصوت والصورة بنقل متفجرات لإحداث فتنة، وأخيرًا لا آخرًا عجز «الدويلة» الرسمية عن منع «الدولة» غير الرسمية عن خوض حروب خارج الحدود.
ضغط واشنطن بالأمس على المعارضة السورية، المحاصرة بين الاحتلال الإيراني والقصف الجوي الروسي والإرهاب الداعشي أصلاً، يوحي بصحة تقرير الصحافي الأميركي سايمور هيرش عن ضلوع هيئة الأركان المشتركة الأميركية ومعها استخبارات وزارة الدفاع بالتنسيق مع الروس والإسرائيليين والألمان لإنقاذ نظام الأسد. فالموقف الأميركي اليوم يتبنى موقف موسكو تمامًا إزاء النظام والمعارضة في سوريا، وأصوات مسؤولي الاستخبارات الإسرائيلي خلال السنة الماضية تصب في الاتجاه نفسه. أكثر من هذا، فإن التنسيق الأميركي النشط مع الجماعات الكردية الانفصالية في شمال سوريا على طول الحدود مع تركيا ينمّ عن أن واشنطن – بصرف النظر عن «رمادية» كلام نائب الرئيس جو بايدن – تؤيد قيام دولة كردية كبرى في المنطقة. وكان قد صدر كلام لعضو في الكنيست الإسرائيلي عن «استحقاق الأكراد دولة مستقلة لهم». أخيرًا، عودة إلى لبنان، لا بد من تذكر أن البطريرك الماروني بشارة الراعي كان أول من أعرب صراحة في بدايات الثورة السورية عن تحفّظاته عنها، وقوله غير مرة في لبنان وفي زياراته الخارجية، ابتداءً من فرنسا، ما معناه أن نظام الأسد «قد يكون سيئًا، لكن البديل الآتي من الثورة أسوأ». هذا، بالضبط، هو المناخ الذي يتغذّى على ذهنية «تحالف الأقليات» في الشرق، التي كانت في صميم الفكر السياسي للانتداب الأنغلو – فرنسي ونشوء الأوطان الدينية – الطائفية، وأولها إسرائيل. وللأسف الشديد ما كان ينقص «تحالف الأقليات» (غير السنّية) ليفرض خرائطه على المنطقة سوى استيلاد غول «داعش» والاتفاق الإيراني – الأميركي الذي يجعل من «الولي الفقيه» وحرسه الثوري طليعة مضرمي نار الحرب الأهلية الإسلامية – الإسلامية.
استعادة العربي من الركام
غسان شربل/الحياة/25 كانون الثاني/16
يدفع الشرق الأوسط اليوم ثمن مجموعة من الزلازل ضربَتْه وأطاحت ركائز استقراره. لا مبالغة في القول إننا نتحدث عن منطقة منكوبة. عن كيانات ممزّقة، وكيانات خائفة، قلقة من جيرانها. ومرتبكة بأقلياتها. نتحدث عن أنهار من الدم، وملايين المهجّرين، عن اقتصادات مدمَّرَة، وولاءات عابرة للحدود. عن أزمات هوية وقلق على الوجود. تدفع المنطقة ثمن زلازل تلاحقت. الثورة الإسلامية في إيران وتصدير الثورة والنهوض الشيعي. صعود التيار السنّي المتطرّف. الحرب العراقية – الإيرانية. الغزو الإسرائيلي لبيروت. الاجتياح العراقي للكويت. الغزو الأميركي للعراق وما رافقه وتبعه. انسحاب باراك أوباما من العراق وتركه جمر المنطقة في أيادي أهلها. «الربيع العربي» ومحاولة الإسلاميين الاستيلاء على قطاره. الأزمة السورية بعنفها وتدخّلاتها ودمويتها وصولاً إلى التدخُّل الروسي… والاتفاق النووي الإيراني، هذا فضلاً عن النزاع الشيعي – السنّي. ليس من السهل على دول تعيش بلا مؤسسات راسخة وواسعة التمثيل، استيعاب هذا الدَّفق من الزلازل. هكذا انفجرت كيانات واندفعت مجموعات إلى تصفية حسابات تاريخية ورسم الحدود الجديدة بالدم والفرز السكاني. لا نتحدث عن انهيار أنظمة بل كيانات، ولا نتحدث عن اشتباك بل عن سقوط تعايش. يسمع الصحافي في هذه الأيام عبارات لم يتوقّع يوماً أن يسمعها. يقول المتحدّث: «إذا أدى التدخُّل العسكري الروسي إلى رسم حدود سورية المفيدة فإن لبنان المطوّق سيكون محافظة تابعة لها. لا أعرف ماذا سيكون موقع مليون سنّي لبناني ومعهم مليون سنّي سوري لجأوا إليه. أنظر إلى وضع السنّة في الأنبار ووضعهم في سورية».
ويضيف: «لبنان القديم لم يعد موجوداً. المكوّنان الكبيران فيه يبحران في اتجاهات متعاكسة. التقسيم في لبنان مستحيل. السلام فيه سيكون جزءاً من الهدنة في المنطقة. سيكون الكيان غطاءً هشّاً لمجموعات متربّصة تعيش في بلد فقير». ذكّرني كلام المتحدث اللبناني بما كنتُ سمعتُه في برلين حين أصرّ اللاجئ السوري على أن نتحدث على انفراد. كان ناشطاً في مجال حقوق الإنسان قبل أن يستقيل من وطنه. سألتُه عن رحلته في قوارب الموت فأجاب: «سأقول لك الحقيقة كي لا تخطئ. إنها موجعة ورجائي ألاّ تنشرها كي لا تضاعف آلام السوريين وهي رهيبة».
غالَبَ دموعه وأضاف: «لم تعد هناك سورية. يمكن أن تعثر هناك على سنّي وعلوي ودرزي. على عربي وكردي. لكنك لن تعثر على السوري الذي تتطابق مشاعره مع خريطة سورية التي تعرفها. كيف تفسر أن سوريّاً يقاتل إلى جانب شيشاني لأنه سنّي؟ وكيف تفسّر أن علوياً يقاتل إلى جانب أفغاني لأنه شيعي؟ الأكراد يوسّعون مناطقهم. لن يقبلوا أبداً العودة إلى ما كان. توزّع السوريون على الخرائط الصغيرة. حين يتوقف إطلاق النار، سنكتشف الأهوال ومعها الفرز السكاني. مشكلتنا أعمق من «داعش» على رغم أخطاره وأهواله». تذكّرت أيضاً ما سمعته في بغداد حين قال لي الرجل العراقي: «كان صدام حسين طاغية ومجرماً رهيباً، ولكن كان هناك العراق. قاتلنا لاستعادته منه. أعترف لك بأمانة. ما فعله العراقيون بالعراقيين بعد غياب صدام أقسى بكثير مما فعله بهم. ما حصل بعد رحيل المحتل الأميركي أشدّ هولاً مما حصل خلال الاحتلال. الاغتيالات والتطهير العرقي والفرز السكاني. لا أعفي أي فريق من الارتكابات. عملياً لم يعد هناك العراق. هناك ميليشيات وطوائف وعشائر. هناك عرب شيعة وعرب سنّة وهناك أكراد. العراق الذي كنّا نعتبره دولة عربية عريقة وواعدة لم يعد موجوداً. حين يتوقّف القتال سيكون العراق كياناً هشاً تتعايش فيه مجموعات مثخنة وفقيرة، ومرتهنة للإرادات الخارجية».
في أربيل، قال الشاب الذي رافقني في الجولة: «أنتَ تستطيع زيارة بغداد، أما أنا فطُردت من الحي الذي وُلدتُ فيه. الغريب أنني لم أُطرد لأنني كردي بل لأنني سنّي». وتسمع من العراقيين أن السرطان أصاب الكيان العراقي قبل ظهور «داعش» وإن كان هذا التنظيم أدى الى استفحاله وانتشاره. أقسى ما في هذه الصورة أن العربي هو ضحيتها الكبرى. الإيراني ينتظر في دولته وهي غير مهدّدة. والتركي ينتظر في دولته وإن هبت رياح التفكُّك عليها وحولها. والكردي يستعدّ لحجز موقعه في كيانات سايكس بيكو التي شاخت. الكيانات التي تمزّقت عربية. والكيانات القلقة عربية. والقتيل عربي والمهجّر عربي والركام عربي. يعيش العربي وسط الركام وأصوات سيارات الإسعاف. يخاف الحاضر ويرعبه المستقبل. السؤال هو هل يمكن استرداد العربي من الهاوية؟ وهل يمكن إيقاظ العروبة التي تتسع للتعايش والتقدُّم؟ هل يمكن للتمرُّد السعودي على سياسة التدخُّلات الإيرانية أن يتحوّل يقظة عربية لاستعادة التوازن في الإقليم إذا انخرطت مصر وأطراف عربية أخرى في مشروع بهذا الحجم؟ إن المعركة الفعلية هي استعادة العربي من ركام الزلازل ورياح التفكُّك والظلام واستعادة العروبة الرحبة لتنظيم العيش بكرامة مع المكوّنات الأخرى في الشرق الأوسط الرهيب.
«لكم سورية ولنا إيران»… ماذا عن الأسد والمعارضة؟
جورج سمعان/الحياة/25 كانون الثاني/16
أن تعلن المعارضة السورية وفداً للمفاوضات تدرك سلفاً أنه لن يكون مقبولاً يعني أنها تبعث برسالة إلى روسيا. عنوانها أنها لم تستسلم بعد. لن ترضخ للضغوط والمساومات بين موسكو وواشنطن. ولن تنتظر أن يسمي المبعوث الدولي ستيفان دي ميستورا ممثليها إلى «جنيف 3». ليس المقصود بخيارها المتشدد أن تطيح المفاوضات. فهي تريد أيضاً المساومة حيال تهديد الكرملين وخياراته وبدائله الجاهزة والمعلنة. أي أن اختيارها هذه الأسماء ليس نهائياً. فإذا تقدم الآخرون خطوة نحوها تقدمت هي نحوهم بتبديل في تشكيلتها. إنها تخبئ أسماء أخرى. يعني أنها تحمل بيد وفداً متشدداً وباليد الأخرى وفداً معتدلاً. لكنها لا يمكن في نهاية الأمر أن تتجاهل توافق الأميركيين والروس وبعض المعنيين الآخرين مباشرة ورغباتهم، خصوصاً في وجوب حضور «الاتحاد الديموقراطي الكردي» لما له من تمثيل على الأرض يكاد يوازي عملياً حضور الفصائل الإسلامية المعتدلة و «الجيش الحر». إضافة إلى أن الكرملين والبيت الأبيض يراهنان على ذراعه العسكرية، «قوات حماية الشعب»، أداة رئيسية في المواجهة مع التنظيمات الإرهابية من «داعش» إلى «جبهة النصرة». فضلاً عن وجوب حضور «الجبهة الشعبية للتحرير والتغيير» برئاسة قدري جميل، و «مجلس سورية الديموقراطي» برئاسة هيثم مناع. والأخيران من رموز مؤتمري موسكو والقاهرة.
يستند «الائتلاف الوطني» وشركاؤه في مؤتمر الرياض في المساومة والمواجهة مع موسكو إلى «الأصدقاء». والواضح تماماً أمامه أن المعنيين بالأزمة السورية لا يتحركون في إطار قراءته للتسوية السياسية أو لبيان «جنيف 1». فهو لم يكن حاضراً لا في لقاءي فيينا وما خرجا به من قرارات، ولا في مجلس الأمن عندما أصدر بالإجماع القرار 2254. القراءة الدولية للبيان هي الإطار ولا مناص من التحرك في هذا الإطار. والواقع أن خيارات الائتلاف ضيقة جداً: إما التسوية السياسية التي يرسمها الرئيس فلاديمير بوتين بتفاهم ضمني مع نظيره الأميركي باراك أوباما، وإما الحل العسكري على الطريقة الروسية التي تتحرك على أساس لائحة واحدة للحركات الإرهابية، لائحتها هي فقط لا غير مهما صدر من اعتراضات ومناشدات من هنا وهناك لم تلق حتى الآن آذاناً صاغية! خلاصة القول إن المعارضة لم تعد تملك باعاً سياسية طويلة يمكنها فرض أجندتها أو قراءتها لمسار الحل أو المرحلة الانتقالية وشكل الهيئة التي ستدير هذه المرحلة. كل شيء رسمه الآخرون في الخارج ودعوها إلى المشاركة. كذلك الأمر على الصعيد الميداني. لم يعد مجال للرهان على خروج الروس من سورية بعدما منحهم النظام قواعد ثابتة ودائمة في البلاد. وبالتالي بات الحديث عن خيار الحسم العسكري مستحيلاً. وهو في الأصل قبل التدخل الروسي لم يكن أحد يتوقع مثل هذا الخيار، لا من جانب النظام ولا من جانب خصومه. ليس هذا فحسب، فالفصائل المعتدلة التي تقاتل النظام تواجه اليوم الآلة الروسية. وتواجه أيضاً التنظيمات الإرهابية. قد تجد نفسها غداً في مواجهة مع «الإدارة الذاتية» لمناطق الكرد. وهؤلاء لديهم قوة عسكرية لا يستهان بها ستتعزز بوجود القاعدة الأميركية التي ستنشأ في شمال البلاد، في محافظة القامشلي. فكيف يفاوض المعارضون ويدهم السياسية قصيرة والذراع العسكرية للآخرين أقوى؟
أما أن تهدد المعارضة بالتخلف عن الحضور إلى جنيف فتلك أمنية الرئيس بشار الأسد الذي لا تعنيه المفاوضات لا من قريب ولا من بعيد. من دون أن يعني ذلك أن مستقبله بات مضموناً أكثر من أي وقت مضى بعدما أخذت روسيا على عاتقها إدارة مسرح العمليات. واستعادت قواته بعض المعنويات. واطمأن أهل الساحل ومجموعات ومكونات من طوائف أخرى تمسكت بالنظام إلى أمنها ومصيرها. هذا ليس كل شيء. فهو يدرك أن البيئة الشعبية التي وقفت معه تعاني من الأزمة الاقتصادية والمعيشية الخانقة، وتراقب بنقمة قلةً من المحيطين تدير اقتصاد حرب وتراكم ثروتها على حساب الناس وقوتهم اليومي. وهذه بلا شك ترى إلى فلاديمير بوتين «رئيساً». مثلما ترى إليه مكونات أخرى في الوسط السني وغيرها منقذاً لها من سطوة الإيرانيين وميليشياتهم، وسطوة الحركات المتشددة… وإن كانت لا تخفي غضبها من رأس النظام الذي أخرج البلاد من احتلال إلى احتلال. فضلاً عن القتل والتهجير والتدمير. ويدرك الرئيس السوري أيضاً أن تفاهم الكبار وإطلاق يد روسيا في التسوية لن يمرا من دون ثمن. وهذا مبعث قلق دائم له أين منه مخاوفه السابقة من المعارضة. وسواء أجريت انتخابات أم لم تُجر فإن سيد الكرملين يبقى هو المرجع أو الناخب الأكبر. وقد لا يخذل أهل النظام وليس الأميركيون وحدهم حين يحين الاستحقاق. وحتى إيران المرتابة قد تسير في ركب التخلي عنه إذا توافرت لها الضمانات المطلوبة. فماذا يتغير إذا تولى القيادة رأس من أهل السنة وظلت إمرة الجيش لأهل الساحل العلوي مثلاً؟
لا تجري الريح بما تشتهي سفن المعارضة. فحتى عندما تتحدث عن إجراءات لبناء الثقة، عندما تطالب برفع الحصارات ووقف سياسة التجويع ورد البراميل المتفجرة وإطلاق الموقوفين ومنع سياسة التهجير وتغيير الديموغرافيا وتسهيل إيصال المساعدات ووقف البراميل… يرفع الروس وغيرهم بوجهها شعار رفض الشروط المسبقة. كأن هذه المطالب لم تنص عليها ستة قرارات وقعها الكبار في مجلس الأمن! لا يتوقف الأمر عند هذا الحد. موسكو تبدو مصممة على المضي في عقد «جنيف 3» بشروطها المسبقة هي. فما لم يستجب «أهل مؤتمر الرياض» ويعيدوا النظر بأسماء وفدهم إلى المفاوضات والقبول بوفد مختلط ستدفع بوفد آخر اختارته ولم تعد أسماء أعضائه سراً. لعلها تراهن على إحراجهم فإخراجهم. عندها تنفتح الطريق أمامها لمواصلة سياسة الأرض المحروقة. وتتخلص من إحراجات اتهامها باستهداف الفصائل المعارضة بدل تركيز الحرب على تنظيمي «داعش» و «النصرة». وتمضي قدماً في تسوية لا تتجاوز قيام حكومة موسعة بديلاً من الهيئة الحاكمة الكاملة الصلاحيات، تشرك فيها من تعده مطواعاً أو حليفاً. ولعلها تراهن هنا على وهن «الائتلاف الوطني» وشركائه، مما يسهل ضرب صفوفه وشقها، ومغازلة بعض القوى العسكرية وطمأنتها لضرب الفصائل وزعزعة صفوفها المهتزة أصلاً. عندئذ لن يكون أمام المعترضين سوى اللحاق بركب القطار… أو إحالتهم إلى «لائحة قوى الإرهاب»! أحد أكبر العوامل في مأساة المعارضة السورية أن التحولات الجذرية في المشهد الاستراتيجي الإقليمي هي جزء من تحولات كبرى على مستوى العلاقات الدولية والنظام الدولي قيد التشكيل. وما دام أن الأزمة السورية تحولت باكراً عنصراً أساسياً في الصراع بين القوى الإقليمية والدولية، فإن مآل تسويتها سيبقى بأيدي الكبار وتفاهماتهم وتبادل مصالحهم هنا وهناك. ولا يجدي «الائتلاف» أن يشعر بأن الأميركيين خذلوه. إنه شعور كثيرين من أهل الإقليم الذين كانوا لعقود شركاء أساسيين للولايات المتحدة. فليس سراً رهان هذه على إيران. بل لعلها تعد لمقايضة أو تفاهم مع روسيا: لكم بلاد الشام ولنا الجمهورية الإسلامية! لا يعود بعدها همٌّ ماذا يبقى للأسد وماذا يبقى لخصومه. مصير المعارضة السورية لا يعني روسيا لا من قريب ولا من بعيد ما دام الكرملين لا يعير اهتماماً أو وزناً لمعارضته هو في الداخل. والأهم أن هذا المصير لم يعد ولم يكن أساساً الشغل الشاغل لواشنطن وشركائها الغربيين. إنها الحرب على إرهاب بعثته «دولة الخلافة» مجدداً، فتجددت حركاته وتنظيماته ووسعت دائرته في كل القارات. كأنها في سباق أو تنافس في القتل والأعمال الوحشية. لم يعد مكان آمناً لا في الشرق ولا في الغرب. ففي مقابل الحرب الدولية على «داعش» يشن الإرهاب حرباً دولية، وإن اختلفت الأهداف والظروف بين تنظيم وآخر. أمام هذه المعطيات، لا يبقى أمام المعارضة السورية سوى تقديم مزيد من التنازلات. ولن تعدم الديبلوماسية الدولية في إيجاد مخارج لإطلاق «جنيف 3» خلال يومين أو ثلاثة. فماذا لو قدم «أهل مؤتمر الرياض» لائحة معتدلين»؟ وماذا لو ارتضت روسيا بممثلين من لائحتها أعضاء في الهيئة الاستشارية للوفد المفاوض؟ وماذا لو ترك الأمر للمبعوث الدولي؟ فهل يملك الصلاحية أو القدرة على الاختيار بدل أن يظل ينتظر الفرج من واشنطن وموسكو وهو يعلم أن عيونهما تنظر أبعد من بلاد الشام وهي تراقب الرئيس الصيني يجول في المنطقة!