اتفاق “معراب” وتداعياته السياسية مسيحياً ولبنانياً
موريس نهرا/النهار/27 كانون الثاني 2016
في ظل الازمات المستفحلة على صعيد عمل السلطة ودور الدولة، وعلى الصعد الاقتصادية والاجتماعية، اتى لقاء “معراب” الذي تجلى فيه الاتفاق بين العماد عون والدكتور جعجع، وتبنّي الاخير ترشيح عون لرئاسة الجمهورية، ليشكّل حدثاً بارزاً في الحياة السياسية على المستويين المسيحي واللبناني، ويحدث ارباكاً واهتزازاً داخل الاصطفافين السياسيين 14 و8 آذار، خصوصاً بعدما رشّح سعد الحريري سليمان فرنجية. ومع أنّ عنوان هذا اللقاء هو انتخاب عون للرئاسة، وهذا الامر لم يتضح متى، فإنه يحمل في طياته ما هو أبعد من ذلك، ويرتبط بصورة وثيقة بجوهر الازمات التي تعيشها البلاد، والتي لم تنشأ من الفراغ الرئاسي، بل قبله وبعده ايضاً، لأنها أزمة بنيوية تنبثق من طبيعة نظام المحاصصات الطائفية والمذهبية وما ينتجه من تناقضات وانقسامات وخلل في التوازنات وشلل حتى في تسيير آليات السلطة.
وانطلاقاً من ذلك يمكن النظر الى هذا التفاهم أو التحالف وأبعاده السياسية وتحديد الموقف حياله، وخصوصاً في بعده الطائفي. فإذا كانت غايته التماثل مع الطوائف الاخرى وشدّ عصب المسيحيين، فإنه لا يغيّر شيئاً في الازمات، وهو موضوعياً يستثير العصبيات الاخرى، ولا يصل بلبنان والشعب الى برّ الامان… فقد اظهرت التجربة أنّ تعديل التوازنات والحصص بين الطوائف وزعاماتها لم يُشكّل مخرجاً او عاملاً حقيقياً في بناء الوطن والدولة الديموقراطية المتماسكة ولتوفير الاستقرار الثابت. وهو يبقي الصراع مفتوحاً للانتقال من تعديل الى آخر، مترافقاً بتوترات وهزّات إن لم نقل اضطرابات، ربطاً بالتغيّرات الديموغرافية، وتبعاً للصراع الاقليمي وتوازن القوى بين أطرافه. وهذا أمر لا حدود ولا نهاية له، وكلفته باهظة على لبنان واللبنانيين. فقد كشفت الحياة السياسية في لبنان أنّ كل تكتل أو تحرك يتخذ لوناً طائفياً لا يخدم، بل يضرّ بالمصلحة العامة وجماهير الطائفة نفسها. وهذا ما حدث بعد الحلف الماروني الثلاثي عام 1967 على صعيد لبنان ووضع المسيحيين، وما نجم عنه لاحقاً. والواضح من الظروف والمراحل التي مررنا ونمرّ بها، وخصوصاً ما جرى ويجري للمسيحيين، والاقليات الأخرى، وكل مكونات المجتمع في البلدان العربية، أنّ بقاء الأساس الطائفي أو الديني للنظام السياسي يبقي الخطر على وحدة نسيج المجتمع، وعلى الاستقرار والعيش المشترك، ويطال المسيحيين وغيرهم. إنّ التسويات تحت السقف الطائفي نفسه في بلدنا، لا تلغي بذور الحذر والتباعد والانقسام التي تتغذّى من طبيعة نظام التحاصص الطائفي وسلطته، والتي تتيح استخدامها وتأجيجها، وفقاً لحاجات زعامات هذا الطرف أو ذاك، كما حاجات الخارج وصراعاته، ولا سيما أنّ مطامع الدولة الصهيونية في فلسطين، وفي أرضنا ومياهنا، وإقامة دولتها على أساس ديني، مناقض للتعددية في لبنان، إضافة الى المخطط الاميركي الرامي الى تفتيت بلدان المنطقة، ولجوئه الى استغلال جذور تناقض يعود الى ماضٍ بعيد بين تيارات مذهبية دينية، ودعم تنظيمات ارهابية لتفجير حروب محلية تخدم هيمنته على المنطقة وضرب المصالح التحررية لشعوبنا العربية ونهب ثرواتها… لذلك فإن المعيار الأصح للموقف من اتفاق “معراب”، ومن أي تكتل أو دور، لا بد من أن يُنظر اليه من زاوية مدى ملاءمته وخدمته مصالح لبنان الوطن والشعب، ومن ضمنه المسيحيين. فلا مخرج ولا حل لطائفة بذاتها… والسبيل السليم هو استكمال ما بدأه رواد النهضة الاوائل تمسكاً باللغة والانتماء العربيين، والقيام بدور نهضوي طليعي للبناء على ما يجمع اللبنانيين ويوحدهم. والانتماء الى الوطن هو المرتكز الاساسي الصلب لبناء الوطن والدولة الديموقراطية العلمانية المتماسكة والجامعة لكل ابنائها على قاعدة التساوي في الحقوق.
كانت الامتيازات للمسيحيين وباسم الموارنة حتى اتفاق الطائف، ولم يستمر البلد بخير. وتوالى العديد من الرؤساء وبقيت الازمات وتفاقمت. واتت تجربة المناصفة بعد اتفاق الطائف وانتقل الشعور بالغبن والضعف من جهة الى اخرى، ولم تنتهِ حالة الانقسامات والقلق والفتن والاجحاف. وها هي تناقضات سلطة نظام المحاصصة الطائفية تشلّ عمل السلطة ودور الدولة. ويُعتمد مفهوم الفيتوات للطوائف الست تحت عنوان الميثاقية، فتتراكم المشكلات وتتزايد الملفات ويستمر الشلل، ويدفع الشعب والوطن الأثمان. إنّ الحاجة الملحة الى الانقاذ تستدعي اقامة الدولة الديموقراطية العلمانية وضمان الرعاية الاجتماعية. وهذا ما يوفر الاستقرار ويطمئن الجميع، طوائف ومواطنين. وهو السبيل للحلول التي تحتاج اليها بلدان المنطقة ايضاً.
إنّه «الطائف» يا غبي
علي الأمين/جنوبية/ 26 يناير، 2016
لن يمضيَ وقتٌ طويل حتى يُفرج حزب الله عن سلّة شروطِه الجديدة على من يعتبرهم مهزومين في لحظة القوة الإيرانية في المنطقة العربية. يُخبرنا حزب الله، بكلّ وسائله السياسية والإعلامية، أنّ انتصاراته تتحقق، وأنّها مستمرة في أكثر من دولة عربية، من سورية إلى اليمن والعراق، وصولاً إلى “اجبار الأميركيين على الإنصياع لإيران وإلزامهم بتوقيع الإتفاق النووي الإيراني”، كما تُردد منابره الإعلامية. المُنتصر في المنطقة والمُنتصر في سورية، ولو على طريق تدمير الدولة السورية، أقلّ ما يمكن أن يطالب به في لبنان هو السلطة، كلّ السلطة، لا نصفها ولا الثلث، بل كلّها. لكن حزب الله قلبه كبير ولا يحب أن يمسح خصومه تماماً، هو يُريدهم من النوع اللطيف الذي يفهم ماذا عليه أن يفعل من دون أن يكلّف حزب الله عناء توجيهه… أن يتخلق بأخلاق العبيد، من دون أن يتخلى عن هواياته في الإستعراض الخطابي وما إلى ذلك من مقولات السيادة والإستقلال والحرية. السلّة المتكاملة التي بدأ بعض السياسيين والإعلاميين القريبين من حزب الله يرددون الحديث عنها هذه الأيام، بدأت عملية استعراض محتوياتها: الأساس هو تعديل في صلاحيات رئيس الحكومة، ثم اعتماد قانون انتخاب على قاعدة النسبية. ليس المقصود الخروج على اتفاق الطائف، قالها أمين عام حزب الله، بل كل هذه المطالب تندرج تحت سقف هذا الإتفاق، وليست انقلاباً عليه. بعض المراقبين يؤكدون أنّ الأزمة بنظر حزب الله اليوم تتجاوز اسم رئيس الجمهورية وموقعه السياسي، وتصب، بعد تسليم قوى 14 آذار بانتخاب أحد حليفي حزب الله ميشال عون أو سليمان فرنجية، في قواعد إدارة الحكم والسلطة، تحديدا موقع الشيعة في السلطة التنفيذية، بما يتناسب مع القوة التي يمثلها حزب الله اليوم ومنسوب الانتصارات التي تحققها إيران في المنطقة.
لحظة القوّة هذه تتمثل في إحكام حزب الله سيطرته شبه الكاملة على مفاصل السلطة في لبنان، وما لا يُحكم السيطرة عليه يبدو تركه تعففاً، أو لأسباب خارجية دولية بالدرجة الأولى لا يقدر على أن يمارس النفوذ عليها كالذي يستطيع أن يفرضه على خصومه في لبنان. ثمّة وجهة نظر، وهي رائجة هذه الأيام في أوساط حلفاء حزب الله وخصومه، تقول بأنّ الحزب يريد أن يُترجم لحظة القوة هذه بتعديلات دستورية، أو باعتماد قواعد جديدة لإدارة السلطة تتيح مزيداً من النفوذ الدستوري والقانوني للشيعة في لعبة تقاسم الحصص بين الطوائف الثلاث الكبرى، أي السنّة والشيعة والموارنة.
هذه الوجهة بدأت تترسخ في عقول الكثير من السياسيين اللبنانيين، إلى درجة قرأ بعض سياسيي 8 و14 آذار خطوة الحريري تأييد سليمان فرنجية بأنّها في مضمونها خطوة استباقية، ومحاولة التفاف على سلّة التعديلات التي يحملها حزب الله لتعديل الدستور وقواعد السلطة التنفيذية. بمعنى أنّ حزب الله لايريد أن يقوم بحملة شبيهة بما جرى في 7 ايار لفرض اتفاق يشبه “الدوحة”، ولا يريد أن ينهمك دوماً بإيجاد قوة تعطيلية من خلال تحالف قد لا يتوفر دوماً كما كان حال التحالف مع العماد ميشال عون والذي يبلغ بعد أيام عامه العاشر.
إزاء كل هذه اللأفكار، التي تتسرب وتتردد في أكثر من محفل حزبي وسياسي، ثمّة نقطة جوهرية لم يبلغها حزب الله ولن يبلغها بتقدير الكثيرين، وهي مسألة وجود قوة حزبية مسلّحة تطمح إلى فرض قواعد جديدة للسلطة من دون أن تبديَ أيّ استعداد للإلتزام بشروط الدولة والدستور. إذ كيف يمكن خلق مناخ تنافسي في أيّ انتخابات نيابية بين جهة مسلحة وأخرى غير مسلحة. هنا يصبح الحديث عن النظام الإنتخابي بلا معنى إن كان نسبياً أو أكثرياً، فهيبة السلاح وسطوته في يد مرشح تخلّ بشروط المنافسة. قد يقول البعض أنّ المال الإنتخابي أيضاً يخلّ وهذا صحيح لكن الحلّ ليس في وجود هذين العاملين السلبيين واللذين يضربان العملية الديمقراطية بل بإلغائهما تماماً. حزب الله يطمح إلى فرض تعديلات على قواعد السلطة مستفيداً من لحظة القوة، لكنه في الواقع هو، كما إيران، يعتبران أنّ دُرَة تاج القوة للمشروع الإيراني في المنطقة هو سلاح حزب الله. وهذا السلاح لن تتخلى عنه إيران ولن يطالب الغرب بإزالته في المدى المتوسط، وليست اسرائيل على استعداد للمغامرة بإنهائه، لأن وظيفته اليوم هي مواجهة عدو مشترك اسمه الأول “الإرهاب” واسمه الكامل “الإرهاب السني”. في لحظة القوة هذه التي يستشعرها حزب الله، يريد تحقيق مكاسب جديدة باسم الطائفة لكن من دون أن يمسّ أحدٌ السلاح… وأيّ دعوة لإزالته أو ضمّه لسلطة الدولة. يضحك الحزب على من يتلهون باسمي عون وفرنجية، في حين أنه لا يريد عنب بعبدا، بل يريد أن يأكل ناطور الطائف.