التاريخ الذي نعيش
الكولونيل/ شربل بركات
11 شياط/16
لا نزال نعيش في الشرق الأوسط تاريخا يبعد في الزمن حتى يلاقي بدايات البشرية المتحضرة، ففي لغاتنا المحكية ترقد بعض التعابير التي تعود ربما إلى السومارية القديمة أول الكلام المدون، وفي صلاتنا اليومية كلمات ترددت في هياكل الكنعانيين منذ الألف الثاني قبل المسيح، وفي اسماء الأماكن والقرى آلهة ساد احترامها دهورا وتنقّل اعتبارها بين شعوب وديانات.
إذا ما تتبعنا الألواح السومرية التي اكتشفت في ما بين النهرين نجد كلمات بقي استعمالها في لغتنا اليومية مثل فعل “شولح” الذي يعني رمى بعيدا وهو مركب من كلمة “شو” التي تعني اليد و”لح” التي تعني نظف أو غسل، ولا نزال نستعمل الأخيرة في العامية بشكلها الأساسي ومعناها السومري أي عملية الغسل “لح اديك” (أغسل يديك). ومن السومرية وألواح كتاباتها نتعرف على “ال” وهي مفردة استعملت للدلالة على الاله وكل ما يقع تحت لوح “ال” يصبح ما نسميه اسم علم أي اسما للتعميم ويعني النوع وقد اعتمدت تسميت “ال” هذه بال التعريف وهذه الطريقة دخلت اللغة الكنعانية وشبيهاتها ولكن مع “ها” بدل “ال” ما يجعلنا نتساءل عن “ها” هذا هل هو اسم اله مهم باهمية “ال” ليعتمد في التعريف؟
استنادا على ما تقدم سوف نحاول استيضاح ما يقوله القرآن الكريم عن ابراهيم الخليل فهو يسميه “أول الموحدين” فماذا وحّد ابراهيم وهل تعرّف إلى الاله الواحد كما نفسره أم أنه وحّد فعلا بين تسميتين تخصان الاله أو الالوهة في مناطق مختلفة ليجعل منهما تسمية واحدة للاله المعبود وبذلك وحّد العبادة لمنطقتين تنقّل بينهما معتبرا أن الاله أكبر من أن يحصر في مكان أو منطقة. وهو إذا مزج بين التسميتين “ال” التي تعني العالي أو الساكن في السماوات (ساكن العالي كما يسميه الرحباني) وبين “ها” وهو الصوت الذي يصدر عن النفس ويتعلق بالروح فهو معطي الأرواح أو مصدر الحياة لأنه عندما ينقطع هذا ال”ها” او النفس تنعدم الحياة. فأبرام الذي كان يعبد ككل الآراميين “ال” والذي سمى ابنه الأول “اسمع ال” وحفيده يعقوب تكنى ب”اسرى ال” كان تعرّف على “ها” أو “ياه” وتعبّد له قبل أن يوحّد تسمية الأثنين ولذا فهو نسب إلى معبوده الجديد أولا “ها” أو “ياه” وأصبح اسمه “ابرام- ياه” أو “ابراميه” وهذا الأسم بالذات لا يزال موجودا في اسم قرية لبنانية جنوبية من قرى شرق صيدا “ابراميه” ثم ككل التسميات في المنطقة قلبت الأحرف الأخيرة “ميه” إلى “هيم” ليصبح اسمه الجديد ابراهيم.
وابراهيم هذا سكن حرّان أي حوران اليوم ما هو إلى الشرق من جبل الشيخ أو الحرمون واسم ابيه “تارح” أو “تارخ” بحسب النسب في العهد القديم وهو أيضا مزكور في اساطير أوغاريت الكنعانية تحت اسم امير “قرت ابليم” مدينة القمر والتي تقع إلى الشرق من بحيرة “قنارت” أي بحيرة طبريا أو بحر الجليل (اسطورة اقهات بن دانيال). وتارخ هذا يذكرنا بالتاريخ وهو المتابع “لدورة القمر” قدر أن يربط الأحداث المروية بزمن حدوثها، على ما يبدو، لتختلف عن الأسطورة ( من سطر او كتب) وهي عملية تدوين الحدث بحد ذاته من دون ذكر الزمن بينما يصبح التأريخ رواية الأحداث التي وقعت مرتبطة بزمن محدد.
وابراهيم بحسب التوراة انتقل من حران إلى الغرب وبعدما اشتبك مع “ملوك” محليين قدّم العشر ل”ملك صادق” كاهن شلم أو “سلم”. و”خربة سلم” و”مجدل سلم” قريتين جنوبيتين تقعان إلى الشرق من قبر “النبي صديق” الذي لا يزال يزيّن مقامه بالقبة البيضاء تلك التلة الجميلة شرق مستشفى تبنين ومنه اشتق اسم قرية صديقين الجنوبية.
وبالعودة إلى التعابير والأسماء الني استمرت طيلة آلاف السنين نجد، وأيضا شرق تبنين، اسم “صفد البطيخ” الذي يقول عنه المؤرخ الدكتور يوسف الحوراني بأنه “صب دو بتاح” أو “صفد الفتاح” وهي غير صفد المدينة التي تقع في شمال اسرائيل وتسمى “صفد العلي” واسمها الأساسي “صب دو عليون” ومعنى كلمة “صب” هو العرش أو المقام أما “دو” فهي سابقة الألوهة عند الكنعانيين وهي التي اصبحت في اللاتينية “ديو” وفي اليونانية “تيو”. إذا صفد اللبنانية هي صفد الفتاح أي عرش أو مقام “ال- فتاح”، وهو من “الكبيروس” وهم التسعة الكبار في الديانة الكنعانية وقد انتقلت عبادته إلى مصر بنفس الأسم “بتاح” وكان الفينيقيون يضعونه على مقدمة سفنهم، وهو أيضا من اسماء الله الحسنى “الفتاح” ونستعمله بحياتنا اليومية “يا فتاح يا عليم يا رزاق يا كريم”. وصب نجدها أيضا في “صف الهوى” على مدخل بنت جبيل والتسمية هي “صب ال- هوى” أي مقام “ال – هوى” وهو نفسه “ها” الذي ذكر سابقا، على ما يبدو، وصفته الأساسية “المحبة” ولا تزال كلمة “الهوى” في لغتنا تعني الحب. إذا اله ابراهيم هو اله (ال-ها) محب يسكن في العالي وهو “ال-اله” الأسم العلم الذي يلخص الالوهة كاملة ومن هنا التوحيد.
وفي الحديث على “ها” أو “ياه” لا بد لنا من ذكر بيت ياحون التي تقع بين صف الهوى وتبنين وهو اسم مركب من “ياه” الكنعاني و”أون” الأموري الذي يقابل بعل عند الكنعانيين وذلك للدلالة على تمازج سكاني وحضاري بين ديانتين. وإذا كان بعل هو القابض على الصواعق (النار اللاهية)، كما “زوس” عند اليونانيين، وهو الذي يرسل المطر ليسقي الأرض (إني ارسلك إلى الأرض التي يسقيها الرب ولا حاجة لك لتسقيها برجلك بعد اليوم، هكذا قال الله لموسى) بينما يفجّر “أون” اله الخير الأموري الينابيع من الأرض، ونحن نسمي حتى اليوم بالعربية النبع بالعين (عين أو عون). إذا بيت “ياه- أون” ترمز إلى فترة التأثير الأموري على هذه المنطقة وتمازجها مع الكنعانية بينما “برع شيت” التي تقع إلى الشرق منها تحمل الأسم الأرامي التوراتي لأبن آدم الثالث “شيت” في اسطورة الخلق الأرامية والتي يوردها العهد القديم في سفر التكوين.
وبالعودة إلى صب نجد تفسيرا لما نردده في صلاتنا المسيحية كل يوم “انت الرب القوي اله الصباؤوت” والصباؤوت هي الجمع ل”صب” إذا الهنا هو اله كل العروش أو المقامات التي يحق لها التكريم وهو الأوحد وقد استعمل العبريون هذه التسمية في كتب الأنبياء. وبما اننا ذكرنا هذا المقطع من الصلاة المسيحية فلنكمل إلى تعبير “هوشعنا في العلى” وكلمة هوشعنا انتقلت إلى اللاتينية كما هي “Osana” و “هو – شع – نا” تعني الاله “هو” الذي أنارنا أو “شع” علينا نوره.
ولا بد لنا ونحن على أبواب عيناتا وهي التي تقع شمال صف الهوى من التذكبر بكنعانية الأسم وهي سميت على اسم الربة “عناة” ولا تزال باللهجة المحلية تدعى “عنيثا” وعناة هذه هي التي تقاتل “موت” الذي قتل البعل (وتحرقه بالنار وتذريه بالمذراة)، كما تقول الأسطورة وهي نفسها انتقلت عبادتها كالكثير من عبادات الكنعانيين إلى اليونان وأصبحت معبودتهم الرئيسية “أثينا” (“عنيثا” و”عثينا” بتغيير مكان حرف الثاء).
وإلى الجنوب من عنيثا وعلى تلة جميلة يقع هيكل أبولون وديانا الذي كان بني في القرن الأول للمسيح كما يقول ارنست رونان عالم الآثار الفرنسي الذي أخذ منه لوحة تمثل هذين اللاهين (وهي موجودة في متحف اللوفر بفرنسا وقد أهدى المتحف بلدة عين إبل نسخة عنها) وأبولون هذا بحسب الميثولوجيا اليونانية هو اله مشرقي من بيئة رعوية وهو يرمز اليه بشخص يجر الشمس بعربته (للدلالة على مشرقيته) ويحمل بيده قيثارة الرعيان للدلالة على المجتع الرعوي الذي يمثله وهنا لا بد من أن نبحث في اسم عين إبل المشتق من “عين أو “أون” و”آبل” فيصبح “اون-آبل” وآبل هو هابيل ابن آدم بحسب الأسطورة الآرامية التي انتقلت الينا مع العهد القديم وهو الراعي الذي سميت كل المراعي على اسمه في ابل السقي وأبل القمح وآبل الهوى وأبيلينة وعين ابل وهنا وكما بيت ياحون يمتزج اسمه مع أون الآموري وتذكر التوراة بأن الآموريين سكنوا “شعلبين” وهي تلة “شلعبون” التي تقع بين عين ابل وصف الهوى شمال “الدوير” الذي بني عليه هيكل ابولون وديانا. إذا “أون- آبل” أو آبل – أون” هي نفسها التي أصبحت باليونانية “ابولون”.
وإذ نذكر ما ورد في سفر القضاة في العهد القديم عن “شعلبين” التي تقع في سبط “آشير” وسكنها الآموريون نعود إلى ما تبقى من التسميات الكنعانية لنعرف بأن هذه المنطقة من جنوب لبنان كانت تكثر فيها عبادة اللالهة المؤنسة بدءا من “ربة لاتين” بالقرب من عديسة ونسميها “رب تلاتين” (وهي ربة النهر لاتين ليتاني أو ليطاني) إلى “عناة” التي ذكرنا سابقا إلى أشيرة التي يقع هيكلها على تلة جنوب عين ابل (أشيرتا أو شرتا) ولا تزال تسمية “خلة الست” تطلق على الوادي الذي يقع غرب هذه التلة كما نجد مرتفع “اميه” بالقرب من دبل ويذكرنا ب”ام – ياه” وإذا تابعنا غربا نصل إلى المرتفع الأجمل والذي يتوسطه ما يسمى بقصر “بلاط” “بعلة” وبقربه مقام “أم الزينات” ثم “أم عفيه” بالقرب من طير حرفا وأخيرا على الشاطيء تقع “أم العمد” وكل هذه التسميات أو الهياكل مخصصة لللالهة المؤنسة “عشتار” أو أشيرة ولذا فقد سماها العبريون بلاد أشير أو سبط آشير وهي مع انتشار المسيحية فيها تحولت إلى بلاد البشارة لتحل العذراء محل كل الالهة المؤنسة وفي هذه دلالة على احترام المرأة في هذه المنطقة في التقاليد المحلية وقد يكون تكريم السيدة زينب من قبل ابناء المنطقة الشيعة، الذين حملوا هذا التراث، عملية استمرار للموروث بشكل يلائم الدين الذي قبله هؤلاء مع أبو ذر الغفاري.