تصادم الميثاقيّة والوفاقيّة
الـيـاس الزغـبـي/لبنان الآن/20 شباط/16
على مدى 46 عاماً (1943 – 1989)، لم تصنع سلبيّتا “لا للشرق ولا للغرب” سوى أزمات وحروب صغيرة وكبيرة، ودولة مضطربة، ووطن باحث عن هويّة ثابتة.
إلى أن جاء اتفاق الطائف كي يحسم ب”نعم”: “وطن سيّد حرّ مستقلّ، نهائي لجميع أبنائه… عربيّ الهويّة والانتماء”.
وكلّ الاختلالات التي حدثت منذ 27 عاماً كانت بسبب خرق هذه القاعدة التي توّجت الدستور، سواء تحت وصاية النظام السوري حتّى الـ2005، أو تحت وصاية وريثه “محور الممانعة والمقاومة” حتّى الآن.
وأزمة لبنان المتمادية عبر مأزقه الرئاسي تكمن في الخللَيْن القائمَيْن: استباحة سيادته، وتشويه هويّته.
السيادة مباحة أمام مقولة “توحيد الميادين” و”نكون حيث يجب أن نكون” التي طرحها قائد “حزب الله” والتي تجعل لبنان ملحقاً و”غير نهائي لجميع أبنائه”، والهويّة مطعونة في خروجه عن انتمائه العربي والإجماع العربي خلال المؤتمرات والالتزامات والمواقف الدبلوماسيّة والمصيريّة.
هذا الخلل البنيوي يتمّ إسقاطه اليوم على ملفّ رئاسة الجمهوريّة، حيث أنّ “لاءين” تمنعان انتخاب رئيس، واحدة في اتجاه سليمان فرنجيّه وأُخرى في اتجاه ميشال عون. وكما أنّ اتفاق الطائف أوجد مخرجاً من مأزق السلبيّتين، هكذا يجب على القوى السياسيّة أن تخرج من سلبيّتي الترشيح إلى خيار ثالث مفتوح.
وطالما أنّ الاتفاق بين المرشَّحَيْن يبدو مستعصياً فلا ينسحب أحدهما للآخر، تبدو الحاجة ملحّة إلى جلوس المرشِّحَيْن (سعد الحريري وسمير جعجع) مع قوى أُخرى للبحث معاً، في جلسة عصف أفكار، عن ترشيح عقلاني جديد. خصوصاً أنّ موقفاً حاسماً يلتقيان عليه هو الاحتكام إلى الديمقراطيّة والتصويت في مجلس النوّاب، وعدم تعطيل الاستحقاق والنصاب مهما كانت النتيجة.
لا يقلّ الظرف السياسي خطورةً عن ذاك الذي أدّى إلى تسوية الطائف التاريخيّة. وكما توصّل العقل اللبناني آنذاك إلى حلّ مسألة السيادة والانتماء والهويّة والنهائيّة، يستطيع اليوم أن يبتدع تسوية رئاسيّة على قاعدة الخروج من “اللاءين” إلى “نعم” بنّاءة.
وأكثر ما يجب أن يحثّ القوى السياسيّة على إيجاد مخرج من السلبيّتين، هو أنّ المرشّحَيْن المأزومَيْن (عون وفرنجيّه) ملتبسا التوجّه السياسي والوطني. فالأوّل مرتبط بالتزام خطّي فولاذي مع “حزب الله” و”جبهة الممانعة”، والثاني يجاهر بانتمائه إلى “خطّه” التاريخي تحت راية “سيّد الكلّ”.
لا شكّ في أنّ حركة الحريري وجعجع أطلقت حيويّة في الاستحقاق الرئاسي، وضخّت مياهاً كثيرة تحت الجسور السياسيّة، وأنتجت تصدّعات في الاصطفافات، لكنّها بدأت تدور على نفسها، بعدما اصطدمت بشبه استحالة في وصول من يدعمان.
والجميع غير واهم بأنّ انتخاب الرئيس يمكن أن يتمّ خارج موافقة إيران – “حزب الله”، ليس لأنّهما يحكمان فعلاً بيروت كعاصمة عربيّة رابعة، بل لأنّهما يتمتّعان بقدرة التعطيل، منذ ابتداع فكرة “الثلث المعطّل” القائم على وهج القوّة والسلاح. ولم يعد تعطيلهما للاستحقاق في حاجة إلى إثبات. هو واقع.
إنّهما يملكان تلك الـ”لا” التي تَخلّص منها لبنان في السابق. يرفعانها في وجه لبنان “السيّد الحرّ المستقلّ النهائي لجميع أبنائه العربيّ الهويّة والانتماء”.
وحين يستطيع اللبنانيّون التصدّي لهذه الـ”لا”، بمساعدة العرب والعالم، سيكون لهم رئيس من خارج الثنائيّة المقفلة المطروحة عليهم كقدر لا يُردّ.
لقد بات ثابتاً أنّ ترشيح فرنجيّه وعون حمل بذور سقوطه في ذاته. حتّى أنّ سلاح الميثاقيّة نفسه بات يصطدم بقاعدة الوفاقيّة. الميثاقيّة تقول باحترام إرادة الطوائف والتمثيل، والوفاقيّة تقضي باحترام إرادة الطوائف الأُخرى في انتخاب الرئيس.
الميثاقيّة، في مفهوم عون، تفرض تعيينه عبر انتخاب شكلي لأنّه الأكثر تمثيلاً للمسيحيّين، وهذا إلغاء للديمقراطيّة.
والوفاقيّة، في مفهوم فرنجيّه، تفرض انتخابه لأنّه الأكثر قبولاً لدى الطوائف الأُخرى، وهذا إلغاء لحساسيّة الموازين الطائفيّة.
والنتيجة برج بابل بين الميثاقيّة والتوافقيّة، وبحث خاو في جنس الملائكة.
أمّا حقيقة الحلّ فتكمن في تجاوز السلبيّتين المتصادمتين، إلى إيجابيّة تصنع رئيساً في مجلس النوّاب.