المرشد الأعلى أخيرا يعترف
إبراهيم الزبيدي/العرب/28 شباط/16
أليست أرواح الآلاف من الإيرانيين والسوريين واللبنانيين والعراقيين واليمنيين والفلسطينيين التي أزهقها المرشد الأعلى في عشرات السنين، خسارة؟ من أول أيام الهَبَّة السورية ضد النظام، وبالتخصيص من ثاني أيام العنف الدكتاتوري الأحمق ضد أطفال درعا الذين كتبوا على أحد جدرانها (الشعب يريد إسقاط النظام)، والمرشدُ الأعلى، وجميعُ أبنائه (المجاهدين) من ضباطِ الحرس الثوري، وحسن نصرالله، وزعماء الحكم الديمقراطي الجديد في العراق، وقادة ميليشياتهم، والحوثيون، والمعارضون البحرانيون، بجميع فضائياتهم وإذاعاتهم وصحفهم، وما أكثرَها، كانوا يعلنون بلغة واحدة، وبصوت واحد لا يختلف من واحد إلى آخر، أنهم يواجهون مؤامرة (تكفيرية وهابية) في سوريا. ثم تطور خطابهم ليقول إنها هجمة تآمرية تتحد فيها القوى الاستكبارية والصهيونية والجماعات التكفيرية ضد محور المقاومة. ومن أوائل العام 2012 والمرشد الأعلى ووكيله حسن نصرالله، يزعمان، ويردد زعمهما مئات المذيعين والصحفيين الممولين من النظام الإيراني، بأن إرسال مقاتلي حزب الله كان فقط إلى الحدود اللبنانية السورية، لحماية القرى (المقاوِمة) من التكفيريين السوريين، وفقط إلى مقام السيدة زينب لحمايته من تخريبٍ (سني) محتمل.
ورغم أن التظاهرات الشعبية الصامدة في مئات المدن والقرى السورية كانت، على مدى ستة أشهر، (سلمية سلمية)، ولا تزيد هتافاتها عن طلب الحرية والعدالة والكرامة، فإن حسن نصرالله لم يقصر في الزج بمقاتليه، بكل أنواع سلاحهم الإيراني، في صفوف شبيحة الدكتاتور بشار الأسد، ورش دبَكاتهم الاستعراضية، وأناشيدهم البريئة، وصدورهم العارية بالرصاص الحي. وحين فقد المتظاهرون صبرهم، وقرروا تسليح بعض شبابهم بأسلحة صيد العصافير، لحماية منازلهم ومدارسهم وأسواقهم من شبيحة حسن نصرالله وبشار، أمر المرشد الأعلى المئات من ضباط الحرس الثوري، ومقاتلي ميليشيات نوري المالكي وهادي العامري والبطاط، وبإشراف مباشر من قاسم سليماني، بقصفهم بالراجمات والصواريخ، وتدمير مدارسهم ومستشفياتهم ومساجدهم، وحرق مزارعهم، دفاعا عن آل البيت، وحمايةً للمقاومة.
في كل تلك المسيرة كان المرشد الأعلى مستريحا ومنتعشا بأخبار انتصارات مجاهديه في سوريا، بوجه خاص، وفي العراق ولبنان والبحرين واليمن، بوجه عام. كان يعلّق، بين حين وحين، فيكرّر القول بأن ما يفعله في سوريا جهادٌ مقدس لحماية (الشقيقة) سوريا، ولردع المعتدين على (سيادتها)، وعلى رئيسها المجاهد، وللدفاع عن المقاومة، ولتحرير فلسطين، من النهر إلى البحر، ومحو إسرائيل من الوجود. ولكنه، أمس، وقد تم في طهران وفي مدن إيرانية أخرى، تشييعُ عشرات القادة الميدانيين الذين سقطوا في محور حلب، فاجأ العالم بتصريحات تكاد تكون الأولى من نوعها في عشرات السنين.
ووفقا لوكالة “فارس” فقد نقل هذه التصريحات الأمين العام لمجلس صيانة الدستور، أحمد جنّتي، خلال حفل تأبين القتلى، حيث قال “كنت أتصور أن لا نعلن عن هذه التصريحات التي أطلقها المرشد، بشكل علني. لكنه (المرشد) أكد بنفسه، فيما بعد، أننا لو لم نقاتل في سوريا، لاضطررنا لقتال العدو داخل بلدنا، كمحافظة كرمنشاه، والمحافظات الحدودية الأخرى”.
ومربط الفرس في خطاب المرشد الأعلى الأخير هو اعترافُه العفوي الخطير بخوفه المرضي (الوهمي) من العرب، وكشفُه الدافعَ الأولَ والحقيقي في حروبه الاستباقية تلك. فقد أعلن صراحة أنه يقاتل شعوب سوريا واليمن ولبنان والعراق والبحرين وغيرها لئلا يقاتلها في إيران ذاتها.
أما حين يصف ثوار الشعب السوري وعرب الدول الأخرى الذين يبادئهم بالغزو، ويعبث بأمنهم، ويهدد وجودهم، دون مبرر، ودون مبادأته من أحد منهم بعدوان، بأنهم كفار، فهو إنما يكشف عن رجعية وتخلف وتعصب ونزعة عدوانية متأصلة، وبلا حدود. فهو يعتبر نفسه وأنصارَه المؤمنين الوحيدين، والقيّمين على الدين، أما الذين لا يدخلون في طاعته، ولا يرضون بعدوانه، فتكفيريون، وهو وحده الموكل من الله ورسوله وآل بيته بعقابهم وذبحهم وحرق منازلهم وتهجيرهم بالملايين.
وفي واقع الحال فإن اعتراف المرشد الأعلى بأن حروبه ضد الشعوب العربية هي حروب قومية فارسية حتى العظم، يبرهن على أن كل ما كان يقوله، ويردده من بعده حسن نصرالله، وقاسم سليماني ونوري المالكي وهادي العامري وباقي شلة الردح الطائفي المراوغ والمخادع، من عام 1980 وإلى اليوم، كان كذبا كبيرا على الله، وعلى نفسه، وعلى شعبه، وعلى العالم. لأنه كان يزعم بأن حروبه دفاعٌ عن آل البيت، وعن المقاومة، وهو، باعترافه، أخيرا، إنما يقاتل في خدمة أهدافه وطموحاته التوسعية العنصرية، وأحلامه باستعادة أمجاد الإمبراطورية الفارسية، وهذا خلاف الزمن والعصر والمنطق السليم.
لقد كان المنتظر منه، بحكم واجبه (الديني)، ومسؤوليته (الدنيوية) السياسية السلطوية عن أرواح الإيرانيين، وعن أرواح أبناء طائفته من العراقيين واللبنانيين، أن يتوقع الهزيمة من بداية المأزق السوري، فيحقن دماء الشيعة قبل السنّة، والمسلمين قبل غيرهم من السوريين أتباع الأديان الأخرى، لأن التاريخ أثبت، بالصورة والصوت، أن جميع حملات القتل والحرق والتدمير والتجويع والتهجير لم تكسر إرادة شعب يريد حريته واستقلاله، مهما غلا الثمن، ومهما طال الزمن.
ونسأل، أليست أرواح الآلاف من الإيرانيين والسوريين واللبنانيين والعراقيين واليمنيين والفلسطينيين التي أزهقها المرشد الأعلى في عشرات السنين، خسارة؟ وأليس إهدار الملايين والمليارات من أموال الشعب الإيراني على إنشاء الميليشيات والعصابات، وعلى تسليحها وتدريب مرتزَقتها على تخريب المدن الآمنة، وعلى تهجير الملايين من سكانها، خسارة؟ وهل سيغفر الإيرانيون، له أخطاءه السياسية والعسكرية والاقتصادية والمعنوية، بحقهم هُم، قبل ضحاياه من عرب الدول المعتدى عليها، دون مبرر؟
خصوصا حين يعترف لمواطنيه الإيرانيين والعالم، وبعظمة لسانه، بأن معركته الخاسرة والباهظة والعبثية في سوريا لم تكن من أجل الطائفة، كما ادّعى، ولا للدفاع عن آل البيت، ولا عن مقام السيدة. كما أنها لم تكن، بأيّ حال من الأحوال، من أجل حماية المقاومة ومحو إسرائيل من الوجود، بدليل سكوته المخزي، وقبوله المعيب بمُحالفة الغزو الروسي الأرعن لسوريا، ومعاضدته لطائراته ودباباته وصواريخه وهي تهدم المدن والقرى (المسلمة) على رؤوس أهلها، برغم الاعتراف الرسمي الروسي المتكرر بالتنسيق مع نتنياهو وأميركا وقاتل الأطفال والنساء بشار الأسد.
ترى هل كانت تصريحات المرشد الأعلى الأخيرة زلّة لسان، أم كانت هلوسة سببُها مرارةُ كأسٍ آخر من السمّ يتجرعه، اليوم، في سوريا والعراق واليمن، بعد كأس السمّ الأول الذي تجرعه، قبله، سلفُه الخميني في العراق، قبل عقود؟
وقف النار.. غطاء لحرب على السوريين
خيرالله خيرالله/العرب/28 شباط/16
الشيء الوحيد والأكيد حتى الآن أن ثمة رغبة أميركية وروسية وإيرانية في ايجاد حواضن لـ’داعش’ في كل المناطق السورية وفي كل منطقة فيها أكثرية سنية في العراق. ليس الاتفاق الروسي ـ الأميركي في شأن “وقف الأعمال العدائية” في سوريا سوى غطاء لمتابعة الحرب التي يتعرّض لها الشعب السوري منذ قرّر قبل خمس سنوات استعادة بعض من كرامته. عندما يسمح الاتفاق بالاستمرار في شنّ الهجمات على “داعش” و”النصرة”، متجاهلا النظام الذي يذبح شعبه والميليشيات المذهبية اللبنانية والعراقية والأفغانية والخبراء الإيرانيين، معنى ذلك بكلّ بساطة أنّ الإدارة الأميركية قرّرت السماح لروسيا وإيران والميليشيات التابعة للنظام بمتابعة هجماتها على السوريين. فمن يعرف ولو قليل القليل عن الوضع السوري، يعرف أوّلا أنّ روسيا وإيران وقوّات النظام لم تهاجم “داعش” يوما. على العكس من ذلك، هناك تواطؤ دائم بين “داعش” من جهة وكلّ من روسيا والنظام وإيران وما لديهما من ميليشيات مذهبية من جهة أخرى.
مفهوم الموقف الروسي. هناك رغبة في المساومة على رأس بشّار الأسد، في نهاية المطاف، من أجل قبض ثمن معروف مرتبط أساسا بمنع مرور الغاز الخليجي في الأراضي السورية وتحقيق مآرب أخرى. مفهوم أيضا الموقف الإيراني الذي يعتبر سوريا في غاية الأهمّية بالنسبة إلى المشروع التوسّعي الذي ينادي به كبار المسؤولين في إيران، وعلى رأسهم “المرشد” علي خامنئي.
فشل يغطي على الإنجازات
بالنسبة إلى إيران، لا خيار آخر سوى الدفاع عن النظام العلوي القائم في سوريا، كونه ضمانه لأن تكون سوريا جسرا إلى لبنان وإلى “حزب الله” بالتحديد. إلى إشعار آخر، يشكّل “حزب الله” الذي وضع يده على مفاصل الدولة اللبنانية الاستثمار الأهمّ لإيران منذ العام 1982، تاريخ تأسيس الحزب الذي ليس سوى لواء في “الحرس الثوري” الإيراني، عناصره لبنانية. تحوّل هذا الحزب إلى أفضل أداة إيرانية توظّف في خدمة مشروع يستهدف مناطق عربية عدّة من لبنان والعراق، إلى اليمن، مرورا بالبحرين، على سبيل المثال وليس الحصر. ما ليس مفهوما هو تلك السذاجة الأميركية التي قد لا تكون سذاجة بمقدار ما أنّها سياسة واضحة تقوم على ترك المنطقة لروسيا وإيران، غير مدركة أنّه لا يمكن شطب العرب بتلك السهولة من المعادلة الإقليمية، إضافة إلى أنّه لا يمكن البحث في مستقبل سوريا من دون مقعد تركي إلى طاولة المفاوضات. لا يمكن تجاهل العرب بأيّ شكل عند البحث في المستقبل السوري، كما لا يمكن تجاوز تركيا والاكتفاء بإلهائها بالورقة الكردية عن طريق تجييش قسم من الأكراد ضدّها. ما الذي تريده الإدارة الأميركية؟ لا وجود لجواب واضح إلى اليوم باستثناء أن باراك أوباما يبدو مصرّا على تفتيت سوريا. فالاتفاق الأميركي ـ الروسي الذي أعلن عنه أخيرا ليس سوى وسيلة لضمان استمرار الحرب التي يتعرّض لها الشعب السوري إلى ما لا نهاية. لو لم يكن الأمر كذلك، لما ميّزت واشنطن بين إرهابيّ وإرهابيّ آخر ولما اختزلت أصلا كلّ ملفات الشرق الأوسط وأزماته بالملفّ النووي الإيراني، ولما تغاضت عن التدخل العسكري الروسي الذي لا هدف له سوى ابقاء نظام انتهى منذ سنوات عدة في الواجهة تمهيدا لليوم الذي يستخدم فيه بشّار الأسد ورقة في لعبة باتت تتجاوز حدود سوريا. من الآن إلى حين انتهاء ولاية باراك أوباما، بعد نحو عشرة أشهر، لا يمكن توقّع شيء من الجانب الأميركي باستثناء التظاهر بأنّ هناك تحرّكا من أجل احتواء الأزمة السورية بدل وضع حدّ لها.
مثل هذا التحرّك يصبّ في اتجاه واحد يتمثّل في الانتهاء من سوريا التي عرفناها عبر تحويلها مناطق نفوذ لثلاثة أطراف على الأقلّ هي روسيا وإيران وتركيا، وذلك بالتفاهم مع إسرائيل طبعا.
ليس بعيدا اليوم الذي ستجد فيه تركيا نفسها مضطرة إلى التدخّل المباشر، أو غير المباشر، لضمان منطقة نفوذ لها في الشمال السوري. لا تستطيع تركيا ترك الأكراد يتحرّكون في تلك المنطقة مستفيدين من التدخل العسكري الروسي. مثل هذا التحرّك الكردي يشكّل تهديدا مباشرا للأمن التركي. سيكون مستقبل رجب طيّب أردوغان وحزبه مطروحا في حال بقي الوضع على ما هو عليه في الشمال السوري. منذ تناسى باراك أوباما في آب ـ أغسطس من العام 2013 أن هناك خطّا أحمر رسمه للنظام السوري وتغاضى عن لجوء النظام إلى السلاح الكيميائي، حصلت نقطة تحوّل. قبل أوباما في الواقع تسليم سوريا إلى روسيا وإيران. استمع إلى ما قال له فلاديمير بوتين وقبل الاكتفاء بأن يتخلى النظام عن الكمية الباقية من مخزونه الكيميائي. كان لا بدّ من التذكير بهذه المرحلة للتأكّد من أن ما يجري حاليا هو في سياق سياسة أميركية تقوم على الاستسلام لروسيا وإيران. من نتائج هذه السياسة النظر بعين واحدة إلى ما يتعرّض له الشعب السوري. مثل هذه السياسة التي تقوم في جانب منها على التنسيق العسكري الروسي ـ الإسرائيلي تتجاهل كلّيا الدواعش الشيعية وتركّز فقط على “داعش” السنّي وتوابع هذا التنظيم. الشيء الوحيد الأكيد حتّى الآن أن ثمّة رغبة أميركية وروسية وإيرانية في إيجاد حواضن لـ”داعش” في كلّ المناطق السورية وفي كلّ منطقة فيها أكثرية سنّية في العراق. هل هذا ما تريده أميركا في الشرق الأوسط؟ هل هذا ما يسعى إليه باراك أوباما الذي ليس معروفا، إلى اليوم، لماذا قرّر رؤية كلّ الألوان باستثناء اللون الأحمر الذي كان لون الخط الذي رسمه للنظام السوري؟ من حسن الحظ أن هناك في الجانب العربي من يعرف تماما أن ليس في الإمكان الاتكال على الولايات المتحدة أو الرهان عليها في أيّ شأن هذه الأيّام وأن لا ضير من إبقاء خط التواصل مع موسكو مفتوحا. الدليل على ذلك الاتصال الأخير بين الملك سلمان بن عبدالعزيز وبوتين الساعي هذه الأيام إلى تفادي مواجهة مع المملكة. فالكلام الروسي عن أن موازنة البلد ووضعه الاقتصادي لن يتأثرا بهبوط أسعار النفط والغاز كلام لا يمكن لأيّ عاقل أن يصدّقه.
لم يعد بعيدا اليوم الذي تقتنع فيه روسيا أن ليس أمامها سوى الدخول في مساومة مع الجانب العربي، أقلّه إذا كانت مهتمّة برفع أسعار النفط والغاز. ستكتشف روسيا أن الإرهاب ليس “داعش” وحده. هناك دواعش أخرى في سوريا وغير سوريا. الإرهاب ليس حكرا على أهل السنّة في المنطقة. هناك إرهاب مرتبط ببعض المجموعات الكردية، على حد تعبير أردوغان. وهناك ميليشيات شيعية تمارس كل أنواع الإرهاب في سوريا والعراق وفي أماكن أخرى. متى يعالج الاتفاق الأميركي ـ الروسي هذا الواقع، ويتوقف عن النظر إلى سوريا من زاوية واحدة، سيكون في الإمكان عندئذ القول إنّ وقف النار قابل للحياة. سيكون في الإمكان القول أيضا إن هناك رغبة واضحة في معالجة الأزمة السورية من كل الجوانب بدل الاكتفاء باستيعابها والتغاضي عن الحرب التي يتعرّض لها الشعب السوري.
مبادرات سعوديّة من المغرب الى لبنان
محمد الأشهب/الحياة/28 شباط/16
برجاحة ترتقي إلى درجة النباهة، اختارت المملكة السعودية أن يرافقها بلدان مغاربيان في مساعي حل الأزمة اللبنانية، هما المغرب والجزائر. وعندما تشكلت لجنة الحكماء الثلاثية المنبثقة من قمة عربية طارئة استضافها المغرب، تنبّه كثر إلى أن البعد الجغرافي الذي يفصل بين لبنان ومنطقة الشمال الأفريقي تقلّصت مسافته، لأن الرياض تعمدت الإيحاء بأن أزمة لبنان وقتذاك قضية عربية تذوب فيها جغرافية الحدود والولاءات والانتسابات. بعد من دخول أهل المغرب على خط أزمات المشرق، أن فضائل السعودية ودول مجلس التعاون الخليجي، ألغت الشعور بالتناسي أو الإهمال. فقد سبقت تشكيل اللجنة الثلاثية، مبادرة من ثلاثة أضلاع أقدم عليها ملك المغرب الحسن الثاني، والرئيس الجزائري الشاذلي بن جديد. وروى من عاشر المرحلة، أن العاهل السعودي كان يتنقل بين ثلاث خيام نصبت على الشريط الحدودي بين المغرب والجزائر، عند ملتقى قرية العقيد لطفي. وفي كل مرة ينزع الأشواك والتعقيدات إلى أن تصافح القادة الثلاثة تحت مظلة خيمة سعودية زيّنتها أعلام الدول. في بعض التفاصيل، أنه كلما تراكمت مشاعر الإحباط، وكلما وصلت مساعي لجنة الحكماء إلى الباب المغلق، كان السعوديون يلحون على شريكيهما المغرب والجزائر بالتسلّح بالصبر والثقة والإقدام. فالحل العربي للأزمة اللبنانية كان وحده المفتاح السري القابل لفتح آفاق جديدة. ونقل عن الحسن الثاني قوله، إنه لم ير دولة أكثر حماسة ونصرة لقضية لبنان، من أجل استعادة عافيته ومصالحة أبنائه، كما هي مواقف المملكة السعودية. وأفصح أن مساعيها النبيلة عاودت الاعتبار للعالم العربي الذي يستطيع أن ينهض من كبوته، ولا يخسر غير الأنانيات والحساسيات الضيّقة من معطفه.
من أقرب الجوار إلى أبعده، التزمت الرياض مواقف مبدئية صريحة وحازمة. وإذ تلتفت إلى المشاكل وأنواع التحديات، تصفها دائماً في سياقها ونسقها الذي لا يتجزأ. وكما اعتاد اللبنانيون على صدور مزيد من مبادرات الإنقاذ والتضامن والأخوة من الشقيقة الكبرى السعودية، كذلك سعد المغاربيون في ذروة الأزمات والانكسارات بما يثلج الصدور. لا تخفت خطوة على طريق رأب الصدع وتنقية الأجواء إلا لتظهر أخرى ساطعة في سماء المودة والإخاء. وحين أوصدت الأبواب أمام الأفق المغاربي الذي كان يعول عليه الأشقاء في المشرق ذرعاً وسنداً لتقوية التضامن، أطلقت دول مجلس التعاون الخليجي بقيادة السعودية، مبادرة ضم المغرب إلى شراكة متميزة، ليس يهم أنها أقل من الانضمام الكامل، بل الأهم أنها أكبر من أي شراكة، تربط دول الشمال الأفريقي بالاتحاد الأوروبي، أو حتى الولايات المتحدة الأميركية في نطاق ما عُرف بالتحالفات الاستراتيجية.
لم يحدث على امتداد شراكات بلدان الخليج مع جوارها الأقرب والأبعد، أن استخدمت هذه الأفاق في غير السياسات الإيجابية التي تنشر لواء التضامن والتآزر ونصرة القضايا العادلة. واهتمت السعودية في غضون ذلك، بأن جعلت من اليد الممدودة سياسة قائمة الذات. غير أن للصبر كما المرونة سقفاً لا يجب تجاوزه. وعندما أقرّت الرياض خيار «عاصفة الحزم» للدفاع عن الشرعية في اليمن، كان ذلك إيذاناً بأن إضفاء منطق الحزم سيشمل مواقف وملفات لم تعد تحتمل الغبار تحت السجاد. لشرعية مفهوم وسياسة ومبادئ لا تنفصل أو تتجزأ عن بعضها البعض، فهي اليمن كما لبنان أو سورية أو أي منطقة أخرى، تلتقي عند حتمية الانتماء الذي لا يمكن تجييره أو الالتفاف عليه. كان اتفاق الطائف لحل الأزمة اللبنانية تكريساً لشرعية لبنانية وجدت امتدادها في الأفق العربي، وأي انقلاب عليه يعتبر تجاوزاً لشرعية القرار والاختيار. ولم يكن لخادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز، أن يلوح وينفذ مفهوم الحزم، إلا لأنه مطلوب في لحظات الاختبار الحاسمة. ولا أفضل من شرعية محلية تدعمها أوفاق الشرعية العربية والدولية.