رجال رفعوا شأن عين إبل… عبد المسيح الطويل
الكولونيل شربل بركات/29 شباط/16
ولد عبد المسيح في حدث الجبة شمال لبنان ولما بلغ الخامسة عشرة أرسل إلى المدرسة المارونية في روما والتي كانت فتحت أبوابها لاستقبال الطلاب الموارنة سنة 1584 وكان عبد المسيح من أوائل الطلاب وقد حمل الرقم 32 على ما ذكر في لائحة التلامذة الذين تعلموا في هذه المدرسة (مجلة المنارة) وفي سنة 1630 رافق المطران يوسف العاقوري وكان مطران صيدا، يومها، في زيارته للمسيحيين المنتشرين جنوبا في ابرشيته وقد وصل إلى “مزرعة” عين إبل حيث وجد أقارب له سكنوا هذه القرية الصغيرة والتي لم تكن أكبر من مزرعة وكانوا قد انتقلوا إليها من حدث الجبة قبل بداية القرن السابع عشر (حوالي 1594 كما يقال) وكان عبدالله الطويل أول من سكن عين إبل من هذه العائلة ونشأ ابنه جريس فيها وكان قد تزوج وأصبح رب عائلة يوم زار عبد المسيح مزرعة عين إبل وقد فرح المطران العاقوري كثيرا لوجود موارنة يسكنون على الطريق إلى الأرض المقدسة وساعده هؤلاء للتوجه إلى الناصرة حيث زار المدينة التي قضى فيها السيد المسيح طفولته وشبابه (وهي على سفر يوم من عين إبل مشيا على الأقدام). ولما عاد إلى عين إبل سأل الأهالي عن طلباتهم فأجابوه بأنهم يريدون كاهنا يقوم بالواجبات الدينية فسأل المطران عبد المسيح إذا كانت له رغبة في أن يرسم كاهن فأظهر استعداده ولكنه قال للمطران بأنه لم يدرس السريانية فكيف سيستطيع القيام بالمهمة فقال له المطران انا أعلمك السريانية وهكذا وخلال جولته على بقية الرعايا والتي استمرت حوالي الشهر كان المطران يعلم عبد المسيح قرأة وكتابة السريانية وبعد امتلاكه لقواعدها رسم كأول كاهن على مزرعة عين إبل وهكذا فقد ربحت عين إبل كثيرا بوجود معلم لاطفالها ومرشد لشبانها من أوائل خريجي المدرسة المارونية في روما ما ساعد بشكل أكيد على اعطاء هؤلاء ثقة أكبر بالمستقبل ودفعا للعمل والمثابرة.
بقي عبد المسيح مدة خمس عشرة سنة كاهنا على عين إبل كما ذكر هو في مقدمة كتاب الصلاة (الشحيمة) المارونية والتي نظمها وطبعها في روما عام 1645 بعد أن نال من قداسة البابا الاذن بذلك وهو كان ذهب إلى هناك موفدا من غبطة البطريرك الذي انتخب حديثا في تلك السنة لالتماس درع التثبيت وكان يرافق المطران المكلف بهذه المهمة كونه يعرف اللغات المطلوبة ويعرف روما جيدا وكون البطريرك الجديد كان يوسف العاقوري نفسه الذي رسمه كاهنا كما سبق ذكره. ومن الجدير بالذكر أن المطبعة الحديثة يومها في الفاتيكان (وكانت قد انشئت سنة 1626) لم تكن قد استعملت لطباعة أي كتاب بالحرف السرياني ولا بد أن يكون كتاب عبد المسيح من أوائل الكتب التي طبعت فيها ومن هنا أهميته وهو قد حوى كل الطقس الماروني من القداس إلى الرتب المختلفة (العماد والزواج والجناز الخ…) مع بقية الصلوات التي يتلوها أو يحتاج اليها الكاهن خلال النهار. والمهم معرفة قيمة الطباعة بالنسبة للنسخ فنسخ كتاب يتطلب عمل أشهر لنسخة واحدة بينما وبمجرد ترتيب الحروف لطباعة أول نسخة يمكن انتاج مئات النسخ بدون الحاجة إلى أي عناء يذكر. من هنا فقد كان كتاب عبد المسيح بالنسبة للكنيسة المارونية يومها عمل جبار أمكن معه نشر نفس التعليم في كل مناطق تواجد الموارنة في لبنان وغيره من البلدان.
ولكن عبد المسيح الطويل، وفي مقدمة الكتاب تلك والتي رايت صورة فوتوغرافية عنها عند نيافة الكاردينال مار انطونيوس بطرس خريش وكان صورها بنفسه من النسخة الموجودة في روما وقرأها لنا وقد كتبت بالخط الكرشوني (اي الأحرف السريانية والتي تقرأ باللغة العربية)، قص كامل قصته المذكورة سابقا ولكنه أشار إلى الاحداث التي قال بأنها سببت (هروبه) وانتقاله إلى شرق صيدا، حيث لا تزال عائلة الطويل تسكن الحمصية، وبعد أن كتب يخبر البطريرك الجديد بما حدث كلفه صاحب الغبطة يومها مرافقة المطران المكلف بمقابلة البابا والتماس درع التثبيت وهكذا كان وقد سافر إلى روما من صيدا في سفينة متجهة إلى ايطاليا.
ولكن ما هي الأحداث التي أجبرت كاهن رعية عين إبل على ترك البلدة والانتقال إلى شرق صيدا ومن ثم اعلام صاحب الغبطة الجديد والذي كان مهتما بمصير هذه القرية الصغيرة بتقرير مفصل رفعه إليه بدون شك ؟
في دراسة للأحداث التي وقعت داخل المنطقة في تلك الفترة نجد بأن “علي الصغير” الجد الأعلى للشيخ ناصيف النصار وهو بحسب تاريخ جبل عامل (محمد جابر آل صفا- دار النهار) كان يسكن مع والدته، التي نجت وحدها من المذبحة التي قام بها آل شكر لكل عائلته وهربت إلى أهلها في حوران حيث نشأ علي بدون أن يعرف والده، كان في تلك الفترة استعاد السلطة بعد أن قضى على أعدائه وقد تكون هذه الأحداث سببا لترك الخوري عين إبل كونه ربما كانت له علاقة صداقة مع المسؤولين من عائلة شكر وخاف أن يطاله سيف الانتقام؟ ولكن انتقال علي الصغير وسيطرته على السلطة وانتقامه من أعدائه تم قبل سنة 1645 ولا يمكن أن يكون لكاهن في مزرعة صغيرة يومها تأثير على الأحداث لكي يخاف الانتقام. أما انحسار سلطة المعنيين عن المنطقة بعد انكسار الأمير فخر الدين الثاني في حربه ضد السلطنة والذي قد يكون سببا لخوفه فقد تم أيضا قبل التاريخ المذكور.
ولكن المرحوم أيوب خريش والد البطريرك مار أنطونيوس بطرس خريش كان يروي قصة عن سبب تغيير عائلته اسمها من الطويل إلى خريش. والقصة تقول بأن جريس الطويل قتل “العتريسي” وهو عبد مصري ضخم الجثة كان يعمل حارسا لأملاك “البيك” في المنطقة ويسكن بلدة “الطيري” وقد اعتدى على إحدى النساء وهي ترعى البقر في محلة “الموميا” وما كان من جريس الذي كان قصير القامة ضعيف البنية إلا أن ارتدى ثوب امرأة وذهب يرعى في نفس المكان حيث حاول العتريسي مجددا التحرش به على اساس أنه امرأة وما أن اقترب منه حتى ارداه جريس بالجنجر الذي كان يحمله داخل ثيابه ثم هرب خوفا من الانتقام والتجأ إلى عرب الخريسات في منطقة الشعب حيث احتمى مدة من الزمن إلى حين تسوية القضية التي تمت فيها الصلحة بدفع فدية شارك فيها أبناء القبيلة معتبرين جريس واحدا منهم ما جعله يتكنى بلقب “خريش” الذي تحمله العائلة إلى يومنا هذا. ويضيف أيوب الذي كان يعرف بأبي المطران (كونه توفي قبل أن يصبح ولده انطانس بطريركا على انطاكية وسائر المشرق) بأن واحدا من البدو وكان في سوق الخميس في بنت جبيل بعد أكثر من مئة سنة على تلك الحادثة تصادم مع أحد أبناء البلدة الذي قتل اثناء التعارك ما جعله يهرب ويلتجئ إلى أقاربه في عين إبل حيث قاموا بالواجب وأنهوا المشكل بمشاركتهم في دفع الفدية كونهم والخريسات أقارب “يأكلون بالدم ويدفعون بالدم” وقد نزع اسم خريش عن عدة بيوت لم يساهموا يومها بالفدية فعرفوا بلقبهم فقط.
هذه الحادثة قد تكون أقرب إلى الواقع الذي جعل الخوري عبد المسيح يهرب كون العتريسي هو ممثل لسلطة البيك وليس اي شخص وقد قتله جريس الطويل وهو قريب الخوري وقد يكون للأخير دور ما في معرفة حقيقة ما جرى كون المرأة أو البنت التي حدث معها التحرش لم تجرؤ على اخبار أحد إلا الخوري الذي شعر بالمسؤولية ضميريا عما جرى فلم يستطع تحمل النتائج ما جعله يهرب. وهنا قد يكون ما ذكره الأب لويس رحمة في تاريخ بشري عن ارسال البطريرك يوسف العاقوري جريس دياب من حدث الجبة (الذي كان انتقل حديثا إليها من بشري) دعما لسكان مزرعة عين إبل يومها، تفسيرا مقبولا كون القرية أصبحت معرضة بغياب جريس الطويل أحد الرجال الأشداء والخوري نفسه والحالة المحيطة، فوصول دعم ولو قليل العدد يسهم بتثبيت هؤلاء الفلاحين الفقراء ويعطيهم الثقة بأنهم مسنودين من قبل الأهل في الشمال والكنيسة فكيف إذا كان هذا الأخير رجلا يحسب له حساب. وفي تاريخ عائلة خريش الذي كتبه المرحوم بركات يوسف بركات دياب في 1927 وكان مختار عين إبل يومها يذكر بأن جريس ابن عبدالله الجد الأصلي هو الذي لقب بخريش ما يناسب تاريخ هرب الخوري 1645 مع تاريخ حصول الحادثة.
ولا بد من الذكر بأن التقليد العينبلي حمل أثر “عبد الطيري” هذا حوالي 300 سنة فحتى ايامنا كان يقال عن من لا نحب بأنه يشبه عبد الطيري بدون أن نعلم من هو عبد الطيري هذا وبدون أن يراه اي منا وبدون أن يعيش في الطيري أي عبد.