مارون يناديكم: عودوا إلى روح قنوبين
ليال مظلوم/النهار/9 آذار 2016
استوطن أبناء مارون الوهاد والوديان، أقاموا فيها هياكل الله على الأرض، وجعلوا الجبال سقوفهم الشاهقة. دخلوا قدس الأقداس، وانصرفوا إلى شؤونهم الخاصة يتعاملون مع الطبيعة، فلاحةً وزرعاً، آخذين من الصخر المفتَّت على أيديهم صلابةً، وعارفين أن يروا في وجه هذه الأرض وجه الله. عرف الجبل اللبناني أماناً وازدهاراً، إلا أن حياة الشعب فيه كانت دائماً محفوفة بالأخطار، وغده غير آمن… فكان أن انتقل الموارنة إلى قنوبين.
“ذهابهم إلى قنوبين، كان في ظاهره وواقعه لجوءاً، وفي دلالاته العميقة تقرّباً من المسيح، وعودةً عن جنوح. فكل شيء في قنوبين كان يدعو النفس إلى الله وإلى الزهد. وكانت الصلوات ترتفع مطبوعةً بالألم والتنهد، فينقل الوادي أصداءها، وتردد الصخور آياتها… درب آلام وجلجلة”، كتب حامل الوجدان الماروني الذي خدم البطريركية المارونية طوال أربعة وثلاثين عاماً الخور أسقف ميشال العويط. هناك في ذلك الوادي، لا مكان إلاّ لعمل الروح في الإنسان والأرض.
وادي قنوبين هو وادي الخشوع والفقر والتجرد والعونة والتضامن والمحبة والتأمل والتفرغ للعبادة. إنه المكان الذي تطلبه الروح لإقامتها، والمسيحية لنشر رسالتها. لأجل ذلك يكتفي المؤمنون هناك بمغارة يأوون إليها وببعض الأعشاب يقتاتون بها وبثياب يسترون بها أجسادهم.
هناك ترخص خيرات الدنيا. هناك يصلي المؤمن ويخشع أمام ربه.
هناك في هذا الوادي السحيق تحديداً، بما يحمل من خفر ورهبة، والذي لا تصل إليه إلا النسور، جعل البطريرك الماروني كرسيّه في إحدى صخوره، ومنه كان يوجّه شعبه، ويقوده، كما كان موسى يقود شعبه في العهد القديم.
“هناك في وادي قنوبين، صلّى البطاركة وصاموا وسهروا. هناك عقدوا مجامع. هناك استقبلوا قناصل العالم. هناك استقبلوا الموفدين البابويين. هناك كتب البطريرك الدويهي تاريخ الطائفة المارونية. هناك عقد بطريرك آخر اجتماعاً له مع أساقفته بحثوا فيه كيف يختبئ من دوريات العثمانيين.
وهناك التقى بطريرك آخر أساقفته ليتسلموا رسالة باللاتينية من الحبر الأعظم، ولينتظروا بعدها سنة أو سنتين ليجدوا من يقرأها لهم فيفهموا مضمونها”، على ما جاء في كتاب العويط “وصيتي الى الموارنة”. هناك في قنوبين، تستطيع الحرية، حرية الإيمان والمعتقد والتفكير والرأي، أن تجد مبتغاها وملاعبها مع النسور.
هناك حيث المعابر الضيقة والمخيفة التي وقفت حاجزاً في وجه جيوش الأتراك، والتي سلكها الموارنة كل يوم سعياً وراء لقمة العيش ولقمة الإيمان والحرية.
هناك المنحدرات الحادة الهائلة. هناك الحفافي الكثيرة الإنحناء والقليلة التراب التي جعلها الموارنة جنائن ليأكلوا خبزهم بعرق جبينهم والتي جعلتهم يقولون بثقة وخوف “أعطنا خبزنا كفاف يومنا”.
هناك، حيث ارتضى الموارنة شظف العيش ليحافظوا على حريتهم وإيمانهم. عاشت الطائفة المارونية في وادي قنوبين أصعب حلقة من تاريخها الطويل. فشكل هذا الوادي مدرسة تعلّم فيها الموارنة أن يتبعوا يسوع أولا على أكمل وجه ويطابقوا حياتهم على حياته. فكان حضورهم في قنوبين كإزميل قديسهم مارون الذي يعمل في تمثال من رخام، في كنيسة تنبت قديسين على مدى الأجيال ولا تمل.
وعلى الرغم من المحن والشدائد، تألق الموارنة روحياً واقتصادياً واجتماعياً في قنوبين، بما انعكس إيجاباً على شبكة أمنهم وسلمهم الاجتماعي، انطلاقاً من القيمة الروحية والمعنوية للإنسان ووجوب المحافظة على كرامته البشرية.
وهذه المبادئ استقوها من الكتاب المقدس قبل أن تُنشئ الدول وزارات وإدارات ومؤسسات وتوقّع مواثيق تختص بهذا الجانب. عرفوا مبدأ التكافل والتضامن واكتشفوا ما يترتّب على الواحد منهم تجاه الآخر والجماعة، فاهتموا بالعامل واليتيم والمشرد. وبروح خلاقة ومتقدة بالشعور بالمسؤولية الإجتماعية، ابتكر الموارنة حلاًّ، بحيث لا يجوع أحد منهم ولا يبقى آخر من دون مأوى. فأخذ المتمولون منهم يوقفون بعضاً من أرزاقهم ويضعونها في تصرف البطريرك ليوزعها على المعوزين، فكثرت الأوقاف مع الأيام، وكانت علامة غنى روحي ونتيجة حياة مسيحية أصيلة.
هذه الأوقاف كانت حقوقاً وقفها الشعب الماروني لصالح المسكين والأرملة واليتيم، قبل أن يعلن البابا لاوون الثالث عشر تعليم الكنيسة في الشؤون الاجتماعية في 15 أيار سنة 1891. عاش الموارنة بوحي هذا التعليم قبل أن يصدره البابا، وعملوا بروحه. لكن، أين هم موارنة اليوم من موارنة الأمس؟ إن اقترب فريق منهم من الآخر، عملت الشبهات وراح الفرقاء الآخرون يترصدون. الحليف ينقلب على الحليف. يختلط التكتيك بالاستراتيجي، فتتعجب.
“لقد عمل الضعفُ البشري في نفوسهم، فحلّت الصغائر، وتضعضع إيمانهم. غرقوا في فتن أهل الأرض والحياة الفانية. ولا شيء يوقف إكمال هذا التيه الدنيوي فعله في النفوس، إلا روح قنوبين – يوصي حافظ أسرار بكركي. على الموارنة أن يستعيدوا خطى مارون، ليهتدوا بها، ويقتفوا أثر تلامذته ورسله وشهوده وشهدائه. شهادتي أن الكثيرين منهم نكثوا بالعهود.
وأرى أن عليهم أن يعلنوا العودة إلى الينابيع، إلى قنوبين، ليتطهّروا من أخطائهم وخطاياهم في شؤون الدين والدنيا. عليهم أن يعودوا إلى مارون. لا لينكفئوا، بل ليكونوا له شهوداً ورسلاً في لبنان، وفي الشرق، وفي العالم الآن”.