ثلاث لاءات جديدة
شارل جبور/الشرق الأوسط/11 آذار/16
يشكل الموقف السعودي من «حزب الله» فرصة حقيقية للقوى السيادية في لبنان شرط أن تُحسن التقاطها، وأن تحظى بتفهم سعودي لكيفية الاستفادة منها والبناء عليها والتعامل معها. فالأساس اليوم يكمن في مدى قدرة الفريق السيادي على التوفيق بين عدم تفويت هذه الفرصة المنتظرة منذ عقود ومن كل دولة تحرص على سيادة لبنان واستقلاله، وبين الحفاظ على الاستقرار الذي شكل أحد أبرز ثوابت السياسة المعتمدة من قوى 14 آذار منذ خروج الجيش السوري من لبنان في عام 2005. وإذا كان لا يفترض أن يتحول الاستقرار إلى مادة ابتزاز، كما هو حاصل منذ عام 2005، يستخدمها «حزب الله» لجر 14 آذار إلى المزيد من التنازلات السيادية، فإن تجنب الحرب الأهلية يجب أن يشكل هدفًا لبنانيًا وعربيًا ودوليًا، خصوصًا أن اللبنانيين خاضوا هذه التجربة المرة على امتداد 15 عامًا، ما يجعل المعادلة الفضلى التي يجب أن تحكم ممارستهم السياسية محكومة بثلاث لاءات: لا لتفويت الفرصة المتمثلة بالحزم السعودي، لا للحرب الأهلية في لبنان، لا لاستمرار المساكنة على شكلها الحالي. وعلى رغم صحة النقاش في الموقف السعودي المتساهل تاريخيًا والذي يختلف شكلاً ومضمونًا عن الموقف الحالي، فإن الأمور في نهاية المطاف تقاس في لحظتها الراهنة، فيما المراجعة ضرورية في رسالة ضمنية وعلنية إلى المملكة أن اللبنانيين اعتادوا على النمط القديم للسياسة السعودية، وبالتالي تعويدهم على أن النمط الجديد لا يحصل بكبسة زر، بل يتطلب تهيئة ومتابعة، وهذه مسؤولية مشتركة، لأن المواجهة واحدة ومشتركة. ومن هنا التركيز من الآن وصاعدا يجب أن ينصب على المعطى الجديد المتمثل بالقرار السعودي الذي يجسِّد التوجه السعودي المستجد، حيث لا مصلحة إطلاقًا بالنأي عنه، إنما السعي إلى لبننته، أي ترجمته على أرض الواقع، ويحصِّن الموقف اللبناني الرسمي، ويضمن مستقبل لبنان في أي تسوية مقبلة. فخطورة النأي بالنفس عن هذا القرار تكمن في احتمال ابتعاد السعودية عن لبنان، لأنه باستطاعة المملكة أن تتخذ كل الإجراءات التي تكفل الحد من تأثير «حزب الله» عربيًا، وأن تترك بالمقابل البلد لمصيره ما دام شعبه لا يريد أي تعاون أو مساعدة، فيدفع لبنان الثمن، لأنه لا يستطيع منفردا استعادة سيادته واستقلاله، كونه بأمس الحاجة للشرعيتين العربية والدولية، وتحديدا السعودية لمواجهة الأخطار الخارجية.
وفي موازاة الحرص على الدعم السعودي، لا يفترض بالقوى المناهضة لمشروع «حزب الله» أن تتخلى عن دورها في الدفاع عن مشروع الدولة، إذ تكفي مقارنة بسيطة بين لحظة انخراط الحزب في القتال السوري واليوم للدلالة على أن تراجع حضورها داخل الساحة اللبنانية سمح للحزب أن ينتقل من مرحلة تبرير قتاله في سوريا وربطه بأسباب لبنانية، إلى مجاهرته بهذا القتال تحت عنوان «سنكون حيث يجب أن نكون»، أي ليس فقط في سوريا، إنما العراق واليمن وأي بقعة في هذه الأرض تستدعي هذا القتال.
فميزان القوى الذي نشأ بعد الخروج السوري من لبنان جعل «حزب الله» يستخدم كل حججه للحفاظ على سلاحه تحت عنوان الاستفادة من «مقاومته» للدفاع عن لبنان، ويصعب تفسير دور الحزب اليوم ومواقفه خارج سياق انهيار ميزان القوى الداخلي لمصلحته تمامًا، الأمر الذي يفسِّر هذا التمادي في القتال خارج لبنان والهجوم على السعودية. وتذكيرا فإن المساكنة بين 14 آذار و«حزب الله» ليست جديدة أو نشأت مع الحكومة الحالية، بل بدأت فعليا مع حكومة الرئيس فؤاد السنيورة، والاستثناء الوحيد كان مع حكومة الرئيس نجيب ميقاتي الثانية التي تألفت على أثر إسقاط «حزب الله» حكومة الرئيس سعد الحريري بالقوة، وبالتالي الخلل الفعلي بدأ مع الحكومة الحالية نتيجة تسليم 14 آذار باستحالة لجم الحزب أو الحد من دوره، هذا التسليم بالذات كان وراء تماديه بهذا الشكل الذي بات يشكل خطرا على لبنان. وغير صحيح أن المواجهة السياسية تعني انزلاق لبنان نحو الحرب التي تبقى مستبعدة ما دام فريق 14 آذار متمسكا بالمواجهة السلمية، وأولوية «حزب الله» التفرغ للقتال السوري، فضلا عن أن الرضوخ لمقولة إن المواجهة تقود إلى الحرب، يحوِّل البلد إلى رهينة سياسية، ويدفع القوى السياسية إلى الاستسلام للطرف الذي بيده دفع الأمور نحو الحرب، وهذا التلويح لا يختلف عن التهديد المتواصل للنظام السوري إبان وصايته على لبنان بأن انسحاب جيشه يحيي الحرب الأهلية، ولكن هذا الجيش انسحب ولم تقع الحرب ولن تقع. ويبقى أن قوى 14 آذار مدعوة اليوم للعمل ضمن اللاءات الثلاث المشار إليها أعلاه، فلا تفوِّت فرصة الحزم السعودي، بل تتقاطع معه بالشكل الذي تعدِّل فيه مساكنتها مع الحزب على قاعدة ربط نزاع فعلي، لا شكلي، وتتجنب الحرب الأهلية، فيما عدم استيعاب الموقف السعودي يُفقد لبنان ركيزة إقليمية أساسية من دونها يصبح لبنان في حضن «حزب الله».
«زواج متعة» بين واشنطن وطهران.. وإسرائيل!
نديم قطيش /الشرق الأوسط/11 آذار/16
يوم قال الرئيس الإيراني حسن روحاني إن هتاف «الموت لأميركا» هو مجرد شعار، كان ينزع آخر ورقة عن خطابٍ سياسي وعقائدي وتعبوي تميز بالكثير من النفاق السياسي! صحيح أن العلاقات الأميركية الإيرانية ميزها طلاق بائن معظم الفترة البادئة عام 1979، غير أن الطلاق هذا رُتبت بموازاته «زيجات متعة مؤقتة» كثيرة بين واشنطن وطهران وإسرائيل. لعل «إيران غيت»، التي يمر عليها قريبًا ثلاثون عامًا، هي أول ما يتبادر إلى ذهن القارئ بوصفها الحادثة الأبرز بين الإيرانيين والأميركيين والإسرائيليين. تمحورت الفضيحة باختصار حول تنسيق الدول الثلاث لحصول إيران على أسلحة أميركية من إسرائيل، تتلاءم مع الترسانة الإيرانية الأميركية الصنع التي بناها الشاه، على أن تعيد إدارة رونالد ريغان تزويد تل أبيب بما تكون قد سلمته لإيران، بغية تجاوز قرار الحظر الأميركي على التعاون المسلح بين أميركا والجمهورية الإسلامية. الصفقة خدمت إسرائيل التي كانت لا تزال تبحث عن إحياء العلاقات مع إيران في مواجهة العراق وإعادة التوازن إلى مصالحها الاستراتيجية في الشرق الأوسط. وخدمت إيران بحصولها على الأسلحة في ذروة حربها مع صدام حسين. وخدمت واشنطن في أنها وفرت لإدارة ريغان عائدات مالية استخدمت «فوق القانون» لتمويل ثوار «الكونترا» الذين كانوا يقاتلون النظام الشيوعي في نيكاراغوا، في الحديقة الخلفية لأميركا. والأهم وفرت لإدارة ريغان قناة استراتيجية لتحرير الرهائن الذين كان يخطفهم «حزب الله» في بيروت! هذه الحادثة الأبرز سبقها ولحقها الكثير. قبل «إيران غيت» كانت العلاقات الإسرائيلية الإيرانية ناشطة، لدرجة أزعجت واشنطن نفسها، خلال إدارة جيمي كارتر. ففي مطلع الثمانينات زار أحمد كشاني نجل آية الله أبو القاسم كشاني، إسرائيل من دون صفة رسمية، إنما بمهمتين واضحتين، هما الحصول على إطارات لطائرات الفانتوم الأميركية التي بحوزة إيران، والتنسيق الاستراتيجي بخصوص البرنامج النووي العراقي أوزيراك أو تموز الذي كانت وجهت له إيران ضربة فاشلة في 30 سبتمبر (أيلول) 1980، بعد ثمانية أيام من بدء الحرب الإيرانية العراقية. المفارقة التي تفوت الكثيرين أن «عملية أوبرا» الإسرائيلية التي دمرت المفاعل النووي العراقي في 7 يونيو (حزيران) 1981، كانت ضربة تصحيحية للفشل الإيراني في تدميره!
منذ الثورة، تكررت «الزيجات المؤقتة» الإسرائيلية الإيرانية الأميركية، لتنفيذ مهمات استراتيجية محددة، بمعدل مرة كل أقل من سبع سنوات!
الزيجة المثبتة التي تلت إيران – كونترا، كانت في تقاطع المصالح الأميركية الإيرانية في حرب البوسنة، عند دعم علي عزت بيغوفيتش، الإسلامي المقرب من طهران منذ مطلع الثمانينات والقائد العسكري المناوئ للصرب المدعومين من موسكو. بعد فشل إدارة الرئيس بيل كلينتون في كسر قرار الأمم المتحدة بفرض حظر على توريد الأسلحة لأطراف النزاع في يوغوسلافيا السابقة، اختارت واشنطن أن تغض الطرف عن خط الإمداد الإيراني لقوات بيغوفيتش، وإعطاء حليفها الضوء الأخضر للمضي قدمًا في استقبال السلاح والمقاتلين لا سيما من «حزب الله»، وهو ما اعترف به حسن نصر الله مؤخرًا.
من مفارقات التقاطع الإيراني الأميركي في البوسنة كان حفل افتتاح أكبر سفارة إيرانية في أوروبا، في العاصمة سراييفو، بحضور وزير خارجية إيران علي أكبر ولايتي، بعد عشرة أيام فقط على توقيع اتفاق السلام في البلقان، المعروف باتفاقية دايتون – أوهايو!
لن تمضي سبع سنوات قبل أن يجد الأميركيون والإيرانيون أنفسهم في «زيجة مؤقتة» جديدة في أفغانستان العراق هذه المرة، بعد جريمة 11 سبتمبر 2001. وفي آخر المعطيات عن حجم التنسيق الإيراني الأميركي ما كشفه زلماي خليل زاد، أحد أبرز الشخصيات في إدارة الرئيس الأميركي السابق جورج دبليو بوش، أن كبار المسؤولين الأميركيين أجروا قبيل إطاحة صدام حسين محادثات سرية مع إيران شملت محمد جواد ظريف، مندوب إيران لدى الأمم المتحدة آنذاك، تناولت مستقبل العراق. ويقول خليل زاد في كتابه «المبعوث»، الذي يصدر حديثًا إن إيران تعهدت بعدم التصدي للطائرات الحربية الأميركية حتى لو اخترقت المجال الجوي الإيراني. معلومات خليل زاد تنضم إلى أرشيف ضخم من المعلومات حول عمق التعاون الأميركي الإيراني في العراق وأفغانستان، رغم كل الافتراقات الموضوعية في مواقف الطرفين واشتباكهما المباشر في ساحات عدة!
تحتاج كل هذه الوقائع إلى آلاف الساعات من الخطابات والتعبئة والتضليل الإعلامي والسياسي، لصيانة التأطير البسيط للعلاقات الإيرانية الأميركية الإسرائيلية بوصفها علاقة بين «الملاك الأكبر» وكبير الشياطين وصغيرهم، بحسب اللغو التعبوي الإيراني! لست ممن يرتابون من علاقات إيران الأميركية ولا حتى الإسرائيلية، بل أجدها ضرورية لتبديد قدرة إيران على الاستثمار اللفظي والتدميري في القضية الفلسطينية وفضح الريادة الكاذبة في محاربة أميركا وتوظيفها لإضعاف مشروعية الدول العربية المناوئة لها. تعرية الدعاية السياسة الإيرانية، من دون السقوط في فخ الخوف من علاقتها بواشنطن والخوف من أن تكون هذه العلاقة على حساب العرب، يسرع في إسقاط قناع الثورة عن إيران لتظهر على حقيقتها، دولة كبقية دول العالم، تقودها المصالح علنًا في غالب الأحيان والخبث السياسي واللغو فيما ندر! إيران الآن تحيا وفق معادلة معاكسة تمامًا، يسودها اللغو الفلسطيني الذي لا أدلة جدية عليه!