الانسحاب الروسي… إشارات وحسابات
عبد الوهاب بدرخان/النهار/16 آذار 2016
الأرجح أنه لا تمكن المراهنة على الانسحاب الروسي كتغيير مهم وجوهري. نعم، فيه اشارات لكنها لا تتعلّق بالوضع الميداني، فالقوة الجوية التي قلبت المعادلة لمصلحة النظام باقية في قاعدة حميميم. هو بالأحرى سحبٌ لقدرات عسكرية استقدمت اضافياً وتحسّباً لاحتمالات ثلاثة: توجّه اميركي – اطلسي الى التصعيد، انخراط تركيا في مواجهة واسعة ولو بدعم أطلسي محدود، دخول قوات برّية تركية – سعودية. هذه احتمالات تراجعت الآن، لأن واشنطن لم تحِد عن تفاهماتها مع موسكو، وإنْ كانت الأخيرة هي التي تستخدم تلك التفاهمات بتصرّف مفرط أحياناً، كما فعلت أوائل الشهر الماضي عندما غطّت جويّاً هجمات النظام السوري والميليشيات الايرانية والكردية بالتزامن مع الانطلاقة المفترضة للمفاوضات في جنيف. بعد ذلك تفاوض الاميركيون والروس على وقف لإطلاق النار، وهو ما رفضه الاسد والايرانيون دائماً، ولم يكونوا يحبّذونه على الاطلاق. وبطبيعة الحال لم يُستشَروا قبل انجاز الاتفاق مثلهم مثل المعارضة السورية.
واقعياً، لم يحصل تغيير دراماتيكي يمكن أن يقلق النظام السوري أو ايران. لكن الاعلان الروسي يوم “استئناف” المفاوضات في جنيف، وعلى خلفية هدنة “صامدة” رغم هشاشتها، يضطر دمشق وطهران الى التواضع في طموحاتهما وحساباتهما. هذا ينطبق بالضرورة على أي سيناريوات تعتمدانها لنسف المفاوضات وإسقاط الهدنة للعودة الى خطة الحسم العسكري الشامل. لا يزال بإمكان الاسد والايرانيين القيام بخروقات خطيرة لوقف اطلاق النار، لكن أي تصعيد بهدف الحسم لا بدّ من أن يمرّ بموافقة الروس. وهؤلاء اتفقوا مع الاميركيين على اعطاء فرصة حقيقية للمفاوضات، ولا يريدون أن يكون النظام الطرف الذي يُفشلها. لذلك نبّه جون كيري موسكو الى أن تصريحات وليد المعلم عن “الاسد خط أحمر” و”الانتقال السياسي هو حكومة قائمة يشارك فيها الطرف الآخر” تعبّر عن تصميم مسبق على عرقلة المفاوضات وافشالها، وبادر سيرغي لافروف الى انتقاد تلك التصريحات من دون تحديد، لكن دمشق تلقّت الرسالة.
الجديد في الموقف الراهن ورد عابراً في أحد تصريحات ستافان دو ميستورا، الذي شرح أن المفاوضات ستكون على ثلاث جولات وإذا فشلت سيعاد الملف الى مجلس الأمن. هذا يعني، بالنسبة الى الاسد والايرانيين، أن التفاهمات الاميركية – الروسية تفرض عليهم أقصى احترام ممكن للهدنة وبذل جهد لإنجاح المفاوضات. وهي التزامات فُرضت أيضاً على المعارضة (وداعميها). لكنه يعني تالياً أن ما بعد فشل المفاوضات سيكون شأن اميركا وروسيا أولاً، وبشكل ثانوي شأن “مجموعة فيينا”، قبل الوصول الى مجلس الأمن. قد تشكّل هذه مرحلة المباشرة في اخراج سيناريوات التقسيم أو الفدرلة الى العلن. صحيح أن الاسد والايرانيين لا يرفضونها، بل يرحّبون بها، لكنهم يفضّلون أن تأتي الخطوة الأولى من حلفائهم الأكراد، وهذا حاصل.
الانسحاب الروسي المعلن عنه في أيلول الماضي
وسام سعادة/المستقبل/16 آذار/16
مفاجأة اعلان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين سحب الجزء الأكبر من قوة بلاده التدخلية في سوريا، والمسارعة الى التطبيق المشهدي لهذا الاعلان، قد يقلّل منها أنّ موسكو نفسها، يوم دشّنت هذا التدخل الحربي في أيلول من العام الماضي، قدّرت مدّته بنحو أربعة أشهر. من وجهة النظر الروسية الرسمية، أدى التدخل هدفيه المرجوين: انقاذ النظام السوري من عملية تهاويه بين براثن الجماعات المسلّحة المناوئة له وبمنأى عن أي حل سياسي، واعادة تأهيل العملية السياسية على قاعدة «الندية الأميركية – الروسية»، وبالارتكاز الى أول هدنة جدية، على هشاشتها، تعرفها الحرب السورية منذ اندلاعها. بالتوازي لم يكن التدخل مكلفاً لموسكو. صحيح أنه «تصادف» مع أزمة تهاوي سعر صرف الروبل، لكنه «تصادف» أيضاً مع التقارب الروسي – الفرنسي، ثم الروسي – العربي، الأول على خلفية هجمات باريس، والثاني على خلفية مواقف باراك أوباما المعتبرة عربياً «محابية لإيران». بالنتيجة، مكّن التدخل الجوي الروسي المتواصل لأشهر عدة النظام السوري من الوقوف على قدميه مجدداً، وبشكل لن يزول مفعوله مباشرة بعد الانسحاب، لكن الانسحاب يأتي فيقوي قدرة التحكم الروسية بالوضع السوري، بما في ذلك وضع رأس النظام السوري نفسه، بدلاً من أن يؤدي استمرار النمط نفسه من التدخل الى استفادة بشار الأسد منه وتحلّله، وحليفه الايراني، من التوجيه الروسي العام، تباعاً. الانسحاب بحد ذاته سيبقى نسبياً ما دمنا نتكلم في الأساس عن قوة تدخل جوية، من الميسر اعادة نشرها في سوريا أنى دعت الحاجة بالنسبة الى الروس. وبالطبع، مرت فترة من الوقت على التزام روسيا انسحابها من شرق اوكرانيا، لكن الجميع يدرك الطبيعة المتبدلة .. والتدخلية .. لذاك الانسحاب. لكن نسبية الانسحاب لا تعني أننا لسنا أمام لحظة فاصلة. بالعكس. التدخل الجوي في شكله الذي عرفناه من أيلول الى الآن انتهى، وان كانت المرحلة المقبلة سوف تشهد عمليات تدخل «كوماندوسية» روسية، مضبوطة على تموجات العملية السياسية واحتقاناتها. الآفاق المتاحة أمام العلاقات الروسية – العربية والروسية – الغربية ستلعب دوراً أساسياً في تحديد «النسبة الواقعية للانسحاب». بالتوازي، استمرار الجفاء الروسي – التركي، واستمرار التقاطع الاستراتيجي بين موسكو وطهران في مسائل عديدة، سيدفع دفعاً بالاتجاه الذي يحد من آفاق التقارب الروسي – العربي. السؤال هنا: الى أي حد؟ لا يمكن تقرير ذلك الآن بشكل حاسم. فمن المبكر القول ان موسكو انتقلت الى خيار «الاوتانازيا» (الاماتة الرحيمة) لنظام آل الأسد، ذلك ان استفادته من شهور تدخلها لا تزال سارية المفعول ولن تتبخر بين ليلة وضحاها، في حين انه لم يعد بمقدوره شن عمليات هجومية واسعة، وصارت مصلحته في الحفاظ على الهدنة الحالية، حتى اشعار آخر. لكن الحفاظ على الهدنة لن يكون ممكناً من دون «انفتاح النظام» على احدى فكرتين: اما خسارته رأسه، أو نأيه بعض الشيء عن حليفه الايراني، أو كلا الأمرين معاً. الاستبلشمنت الروسي يهنئ نفسه في هذه الأثناء بأنه برع في اختيار لحظة التدخل ولحظة تعليق التدخل. المراقب ليس مضطراً للمصادقة على صحة هذه البراعة أو عدمها، لكنه ليس بوسعه أبداً المكابرة على حيوية السياسة الروسية بازاء المسألة السورية: هي حيوية ليس بالمستطاع حسابها طول الوقت من زاوية ربح أو خسارة. الانسحاب أتى فعلاً بعد نجاح التدخل الروسي في التعويم النسبي لنظام آل الأسد، لكنه يريد كانسحاب تحويل الرصيد الى تعويم الديبلوماسية الروسية نفسها، ودون ذلك صعوبات كثيرة.