لبنان.. والخروج من عصر الميليشيات
خيرالله خيرالله/المستقبل/30 آذار/16
من لبنان، الى سوريا، الى العراق، الى اليمن، الى ليبيا، يتكشّف في كلّ يوم الدور التخريبي الذي تقوم به الميليشيات المذهبية بهدف واحد وحيد يتمثّل في القضاء على النسيج الاجتماعي في هذه الدول. هناك الدواعش الشيعية التي لا يفرّقها شيء عن «داعش« السنّية، بدليل ما فعلته هذه الدواعش ببلد مثل العراق الذي بات مستبعداً، في غياب أعجوبة، أن تقوم له قيامة يوماً. ينطفئ الأمل بغد افضل في كلّ بلد تتحكّم فيه الميليشيا بالمؤسسات الرسمية. ينطفئ كلّ امل في اعادة بناء الدولة. ما يؤكد انهيار الدولة في سوريا، هذا اذا كانت هناك في الاصل دولة، ان النظام فيها صار تحت رحمة ميليشيات مذهبية جاءت من لبنان والعراق وايران. وما يؤكد انهيار العراق ان الاصلاح صار مطلباً لميليشيا، مثل تلك التابعة لرجل الدين مقتدى الصدر! لا يمكن لليمن ايجاد صيغة جديدة تعيد اليه السلم الاهلي بوجود ميليشيا مثل «انصار الله« تعتقد انّ في استطاعتها التحكّم بمقدرات البلد، خصوصاً ان لا مشروع سياسياً او اقتصادياً لدى هذه الميليشيا.
تبقى الميليشيا ميليشيا، بغض النظر عن الطائفة او المذهب. ففي ليبيا قضت الميليشيات السنّية على اي احتمال للخروج من حال الشرذمة التي اسس لها نظام معمّر القذّافي والتي تبلورت بعد الانتهاء منه. من يستطيع اعادة تركيب ليبيا مجدداً؟ وسط كلّ هذا الصعود للحالات الميليشيوية في المنطقة، لا مفرّ من تذكّر لبنان الذي كان اوّل من عانى من الميليشيات، خصوصاً منذ توقيع اتفاق القاهرة المشؤوم في العام 1969. في كلّ مرحلة من مراحل تاريخه الحديث، كان لبنان ولا يزال ضحيّة الميليشيات، كلّ أنواع الميليشيات. كان لبنان اوّل من دخل عصر الميليشيات. لم يخرج منه بعد. هل يكون اوّل الخارجين منه من بين دول المنطقة؟ عاش لبنان عهود كلّ الميليشيات الفلسطينية والميليشيات الطائفية المسيحية والمسلمة، وهو يعيش الآن عهد الميليشيا المذهبية التي تسمّي نفسها «حزب الله«.
لا تكمن اهمّية اتفاق الطائف في انّه مهّد لمرحلة سمحت بالعمل من اجل استتباب السلم الاهلي فحسب، بل ان الطائف سمح بالتمهيد ايضاً للانتهاء من الميليشيات، كلّ الميليشيات. تعثّر الطائف عند الميليشيا التي فرضتها إيران على لبنان بواسطة النظام السوري. كان هذا النظام في اساس تدفّق المسلحين الفلسطينيين على لبنان في اواخر الستينات من القرن الماضي. كان حافظ الاسد لا يزال وقتذاك وزيراً للدفاع. لم يتخل النظام السوري يوماً عن فكرة إخضاع لبنان عبر الميليشيات. دخل الى لبنان عسكرياً وامنياً متذرعاً بهذه الحجة. تحوّل الى الميليشيا الكبرى التي تهيمن على الميليشيات الصغرى، الى ان جاء اليوم الذي خرج فيه من لبنان نتيجة اغتيال الرئيس رفيق الحريري، تاركاً لايران ملء الفراغ الامني والعسكري الناجم عن هذا الخروج. في هذه المرحلة الحساسة التي يمرّ فيها لبنان، وهي مرحلة انتقلت فيها الهجمة الميليشيوية عليه الى مزيد من التصعيد الذي يعبّر عنه منع انتخاب رئيس جديد للجمهورية، يُفترض في اللبنانيين استيعاب اهمية خروج بلدهم من عصر الميليشيات بشكل نهائي. من يزور لبنان هذه الايّام، يكتشف كيف ان كلّ شيء فيه معطّل. مجرّد رحلة مسائية، من بيروت الى جبيل ومن جبيل الى بيروت، كافية للتأكّد من غياب الدولة. هناك في الطريق سيارات لا تحمل لوحات. وهناك سيارات من دون اضواء. وهناك سيارات تتجاوز السيارات الاخرى بطريقة في غاية الخطورة. هناك غياب تام للدولة وحضور طاغ لعصر الميليشيات الذي يجعل عين المواطن تدمع لدى مروره في مطار رفيق الحريري في بيروت الذي بات يشبه مطاراً في احدى المناطق الريفية في اوروبا او في دولة متخلفة من دول العالم الثالث.
يمكن الاسترسال طويلاً في عرض الوضع المأسوي الذي يعيشه لبنان، في ظل الحملة المركّزة على الوجود العربي، خصوصاً الوجود الخليجي فيه، والاصرار على جعله تابعاً لايران ولسياستها القائمة على اثارة الغرائز المذهبية من جهة وعلى عزل الوطن الصغير عن محيطه الطبيعي من جهة اخرى.
من هذا المنطلق، يبدو كلّ كلام عن حقوق هذه الطائفة او تلك من النوع المضحك ـ المبكي لا اكثر. ثمّة حاجة بكل صراحة الى خطوة عملية تستهدف تأكيد ان اللبنانيين يريدون الخروج من عصر الميليشيات تمهيداً لبلوغ مرحلة يصبح فيها البحث ممكناً في مستقبل النظام السياسي، أي أين نجح الطائف وأين أخفق؟
البداية تكون بالنزول الى مجلس النوّاب لانتخاب رئيس جديد للجمهورية، من منطلق ان رئيس لبنان ينتخبه النوّاب المسلمون والمسيحيون كونه يرمز الى وحدة البلد والشعب وما بقي من مؤسسات الدولة. من لا ينزل الى مجلس النوّاب لانتخاب رئيس للجمهورية، ويدلي بتصريحات ذات طابع عنصري ضدّ السوريين، يعمل فقط من أجل ديمومة عصر الميليشيات الذي يعبر عنه كلام من نوع ذلك الذي صدر أخيراً عن الشيخ محمد يزبك، الوكيل الشرعي للمرشد في ايران (السيد علي الخامنئي) في لبنان. اعلن يزبك رفض العودة الى عهد «المارونية السياسية«. هل من كلام اكثر وضوحاً من هذا الكلام عن الرغبة الايرانية بالتذرع بأنّه كانت هناك «مارونية سياسية« في لبنان، من أجل تكريس عصر الميليشيات، اي عصر «حزب الله« وهيمنته على البلد وعلى الطوائف الأخرى؟
«الهرج والمرج» دوامة تمنع التناول الجدي للقضايا داخلياً وخارجياً
وسام سعادة/المستقبل/30 آذار/16
تنافست، بل تزاحمت، بل اختلطت، في الأيام الأخيرة، مشهدية «الكرّ والفرّ» على مستوى الإرهاب ومكافحة الإرهاب، مع مشهدية «الهرج والمرج» على مستوى متلازمة الهلع والصخب والهزل، من أمام مبنى الكابيتول حتى الطائرة المصرية في مطار لارنكا. لكأن عالمنا صار أكثر فأكثر عرضة للمزيد من التداخل بين كل ما يتصل بمناخات «الكرّ والفرّ» وبين نوبات «الهرج والمرج». كذلك وطننا. الكرّ والفرّ بين «داعش« و«النصرة« على تخومه يؤدي وظيفة النوبة في الهرج والمرج الداخليين. وهذا الهرج يشمل موضوعات ملتهبة شتى، بعضها يوحي بأنه أقرب الى الهجمات والهجمات المرتدة، أي الى أجواء الكر والفرّ، في حين تراه يؤدي إيقاعه النافر، أو المبتور، وسط فوضى الإيقاعات. نفايات ومطامر بعد هرج ومرج الترحيل والشركات الوهمية، وقمح مسرطن، وانترنت موازٍ، وصحافة ممانعة متصابية «غنوجة» تبحث عن دفء، ولا ننسى عودة الشيخ محمد يزبك لقواعد الاشتباك مع «المارونية السياسية». هذا ويبلغ الهرج والمرج أقصاه في كل ما يتصل بالديبلوماسية اللبنانية في عهد الوزير جبران باسيل. منسوب الهرج والمرج لا ينفك يرتفع، وهو على ما يبدو الأسلوب المتفشي حالياً لملء الشغور.
وإذا كان بعض الناشطين المدنيين لا يزال يمنّي النفس بإحياء سراب «الكر والفر» المواطنيّ، على خلفية قضايا مطلبية، أو على خلفية «تهيؤات» انتخابية بلدية، يبقى الأكثر جدية في كل ما يهدر من حولنا هو موضوع العلاقات السياسية غير الصحية بين النخب ذات الحيثية في طوائفها، وبشكل أو بآخر، العلاقات المجتمعية غير الصحية بين الجماعات الأهلية اللبنانية. هذه لم تصل الى حالة «الكرّ والفرّ»، بل ولا تزال خجولة «الهرج والمرج» قياساً على النوبات الأخرى، لكن عدم أخذ تنامي خطورتها في الآونة الأخيرة، سيزيدها خطورة، بالتقاطع مع نطاق ملتهب آخر، يتصل بموضوع اللاجئين السوريين: فإذا كانت شمّاعة رفض التوطين التي أثارها باسيل مؤخراً مفتعلة بالكامل، إلا أن موضوع اللاجئين، والإشكاليات التي يطرحها على الاجتماع اللبناني وعلاقة الجماعات اللبنانية في ما بينها والأمن القومي بشكل عام، هي إشكاليات واقعية، وغير وهمية. بالتوازي، كل يوم إضافي على الشغور الرئاسي هو يوم يزيد وضوحاً مشكلة العلاقات غير السوية بين الجماعات اللبنانية، والمقترحات غير المطمئنة أيضاً لمعالجة هذه العلاقات. هناك مشكلة ليس بالمستطاع مداواتها بـ»يا عيني يا روحي»، وليس بالمستطاع معالجتها أيضاً بدراما «المظلوميات»، فأسهل شيء في هذا الوجود التظلّم، وتلفيق سردية مؤاتية له، في مقابل عدم الإنصات لمظلومية الغير.
ذلك أن الحقوق السياسية لا يسعها إلا أن تكون فردية. الحقوق الثقافية وحدها جماعية. بمعنى حق جماعة لسانية في التكلم بلغتها، وحق جماعة دينية في إحياء طقوسها وشعائرها وعيش ذاكرتها، وكل مترتبات التعبير عن الهوية وحفظها وإعادة انتاجها (طبعاً يظل الإشكال المحيّر والمتصل في الحق الثقافي في الحفاظ على المكان مدموغاً بصبغة الجماعة الأهلية والى أي حد). أما الحقوق السياسية فهي فردية. المفارقة أننا اليوم، وفي ما يُطرح تحت عنوان «حقوق المسيحيين» أمام طرح لا يشتكي من غبن في الحقوق الثقافية، وإنما من غبن في الحقوق السياسية للجماعة المحددة ثقافياً، وهذه مفارقة لا يمكن المكابرة عليها، كما لا يمكن الاكتفاء باكتشاف التناقض داخلها لدفعها جانباً. وجه المفارقة الأساسي، هو طرح مسألة رئاسة الجمهورية ليس فقط كـ»حق سياسي»، بل أيضاً كـ»حق ثقافي»، كإرث أو باتريموان. طبعاً، هذا لا ينسجم مع أساس الفكرة الدستورية، لكنه يكشف في الوقت نفسه عن نقص مريع في شروط العقد الاجتماعي يبرّره بمعنى من المعاني. هذا الافتقاد للعقد الاجتماعي يعاني منه المسيحيون أكثر من سواهم، هذا صحيح، لكن طرح «الحقوق» من دون خارطة طريق مقترحة لإعادة تشكيل العقد الاجتماعي ليس بمسار يمكن الاطمئنان، سلفاً، اليه. لكن الأهم، في هذا المجال أو في كل مجال، هو مغادرة منطق «كل شيء أو لا شيء»، وهذا يفترض إبقاء مساحة محصنة من الهرج والمرج. الحقوق السياسية فردية أولاً، والحقوق الثقافية جماعية أولاً، والتنبيه الى ذلك أساسي لإصلاح العلاقة بين الجماعات اللبنانية، وإخراجها من دوامة الهرج والمرج، من دون العودة بها الى دينامية الكر والفر!