ما بعد بيروت وزحلة
الياس الزغبي/لبنان الآن/07 أيار/16
دروس وعِبر كثيرة سيخرج بها أهل المنازلة البلديّة في العاصمة والبقاع، وتحديداً بيروت وزحله، يُمكن التأسيس عليها لرسم حقيقة الأحجام وطبيعة التحالفات السياسيّة في الاستحقاقات المقبلة.
ولعلّ أقوى هذه الدروس وأبلغها أثراً، سيكون اهتزاز الحالة الأحاديّة الاختزاليّة وترنّحها قبل السقوط، والتي كان “حزب الله” نموذجها غير المنازَع، وأسالت لُعاب القوى الأُخرى لتقليدها والنسج على منوالها.
وبدلاً من نجاح هذه القوى السياسيّة في تقليد اختزاليّة “حزب الله” وحده أو مع “حركة أمل”، ها هي تنجح، ومن حيث لا تدري ولا تقصد، في استدراجه إلى تعدّديتها. فهو يعود إليها بعد فشلها في الذهاب إليه. وهذا النجاح، ولو غير المقصود، يحمل بشارات أمل، ووعداً باستعادة التوازن واللعبة الديمقراطيّة الحقيقيّة.
في بيروت، وبعيداً من كلّ التخوّف على القيمة الأساسيّة، العيش المشترك عبر المناصفة الفعليّة التي يلتزمها سعد الحريري ليس فقط كوصيّة من والده الشهيد بل كاقتناع وطني راسخ، فإنّ ما تشهده العاصمة من حيويّة مدنيّة وإرادة في التعدّد والديمقراطيّة والحريّة، هو، في حدّ ذاته، قيمة كبرى ونموذج رائد في المشرق العربي، ويُعيد ربط بيروت بتاريخها وتراثها وفرادتها على البحر المتوسّط.
مشهد بيروت، في عرسها البلدي الجديد، يُريح أصحاب الارادات الحرّة وأهل الغيرة الفعليّة على الحياة المشتركة من جهة ( لائحة البيارتة)، كما يُريح مريدي التجدّد والتفاعل المدني من جهة ثانية (لائحة بيروت مدينتي، واللوائح الأُخرى). وليس خروج “حزب الله” من عرسها دليل زهد، بل انزعاج كبير من مزيجها التعدّدي ونسيجها المناقض لاحتكاريّته.
وإذا كانت قيم العيش المشترك والمناصفة والشراكة في عهدة أيدِ أمينة بعد مرحلة من التشكيك والتباعد والتخوّف، فإنّ حيويّة المجتمع المدني هي الأُخرى في أيد أمينة بعد تعثّر متكرّر ل”لحراك المدني” ومحاولات مصادرته وتشويه مساره بفعل أخطاء بعض أهله وتلاقي مصالح خصومه.
وكأنّ الاستحقاق البلدي كان الفرصة السانحة لاعادة تصويب هذا الحراك وتشذيبه من طفيليّاته ومستخدميه. وبين الفريقين المتنافسين تبقى بيروت هي الرابحة، مهما كانت نتائج الصناديق.
أمّا في البقاع، فالدرس واضح وبليغ: تهتزّ الأحاديّات والثنائيّات وتقع. فها هو “حزب الله” يستجير بآخرين، حركة “أمل” وسواها، في غير مدينة وبلدة، من بعلبك والهرمل إلى بريتال وبدنايل وصولاً إلى عمق البقاع الغربي في سحمر ومشغرة.
وكذلك هي حال الحزب التقدّمي الاشتراكي في راشيّا، و”تيّار المستقبل” في البقاعين الأوسط والغربي.
وتبقى مدينة زحلة المثال الأكبر لهذه التعدّدية الخلاّقة، من خارج حسابات الربح والخسارة والخرق مساء الأحد، ومن خارج الاصطفافات ذات الطابع الحاد.
فمع كلّ هذا الهدير الصاخب والشعارات العليا وعناوين “حرب الحياة أوالموت” و”الالغاء” و”إقفال البيوتات السياسيّة” و”قرار زحلة فيها وليس خارجها” و”الوفاء لشهدائها”… ستقدّم زحلة أمثولة عميقة في التعدّد والديمقراطيّة، وإثباتاً حاسماً بأنّ لا أحد يُلغي أحداً، وأنّ الحيثيّات السياسيّة والاجتماعيّة والأهليّة جزء لا يتجزّأ من تاريخ المدينة، وستبقى إلى أمد غير منظور.
والثابت أنّ الأحزاب المسيحيّة لا تُضمر نيّة في اختزال المدينة، خصوصاً أنّها تراقب ما هي النتائج السلبيّة للاختزالات التي فرضها سواها في بيئته، الشيعيّة تحديداً. ولا يذهب عاقل إلى الحرب والناس عائدة منها. إضافةً إلى أنّ ما بين هذه الأحزاب هو تحالف انتخابي، ولم يبلغ بعد مستوى التحالف الاستراتيجي على العناوين والأهداف الوطنيّة المفصليّة، غير مسألة المناصفة والشراكة.
شعار “التسونامي” الذي استطابه فريق سياسي لسنوات طويلة وزايد تحت مظلّته، انتهى إلى ما نعرفه اليوم، مجرّد فريق بين أفرقاء وجزء بين أجزاء، في حاجة إلى روافع هنا وقاطرات هناك وتصدّق بمخاتير هنالك.
وليس بين المتحالفين في زحلة وخارجها من يتوهّم أو يحلم ب”تسونامي” جديد. فهذا ليس من ثوابت البيئة المسيحيّة القويّة بتعدّديتها وليس بتعليبها. وقد كانت طفرة عابرة قبل 10 سنوات، لأسباب عاطفيّة طارئة، سرعان ما تحوّلت إلى حجمها الحقيقي. والطفرات لا تكرّر نفسها لكونها خارج ثوابت المجتمع والتاريخ.
الفوز في معركة زحلة، كما في كلّ البقاع، وبيروت، كما لاحقاً في المراحل والمحافظات الأُخرى، تنويع ضمن البيئة نفسها. والفائزون سيحتفلون، لكنّ الخاسرين لن يختموا أبوابهم بالشمع الأحمر.
الفائز الواقعي الوحيد سيكون الاقتناع بالشراكات في البيت الواحد. وستكون الرسالة قويّة إلى من مارس الأحاديّة 18 عاماً.
والمكسب الوطني الكبير سيكون في استعادة الأحاديّين إلى نعمة التعدّدية. فلم يصل لبنان إلى أسفل السلّم السياسي والديمقراطي، إلاّ حين صادر طرف مذهبي طائفته، وسعت الأطراف المذهبيّة الأُخرى إلى تقليده.
بشائر العودة إلى ثروة لبنان التعدّدية تلوح في الأفق القريب.
بيروت وزحلة وسائر البقاع، وكلّ لبنان لاحقاً، معالم مضيئة على طريق هذه العودة