لبنان: الشعب يخترع بطلاً ليبكي خذلانه
حسام عيتاني/الحياة/25 تشرين الول/15
يندر بل يكاد ينعدم احتفال حزب سياسي بانتقال ضابط في الجيش إلى التقاعد. ليس المقصود بالاحتفال ترحيب الحزب بضابط سابق في صفوفه على ما يجري في أحيان كثيرة في دول تتقارب فيها السياسة والمؤسسة العسكرية إلى حد التماهي، بل المقصود تنظيم مهرجان شعبي في ساحة عامة وسط أجواء امتزج فيها التفجع بالتباهي بالتحدي. نظّم «التيار الوطني الحر» تظاهرة أرادها حاشدة في وسط بيروت في 15 تشرين الأول (اكتوبر) بمناسبة تقاعد العميد شامل روكز الذي انتهت مدة خدمته العسكرية في ذلك اليوم، ضارباً بذلك عرض الحائط بجملة من الأعراف والتقاليد العسكرية والسياسية في آن. ذلك أن منظمي الاحتفال أرادوه تحية لدور الرجل أثناء عمله في الجيش كممثل لفريق سياسي في واحدة من مؤسسات الدولة اللبنانية التي تحظر على العاملين فيها إبداء آراء سياسية وصولاً إلى منعهم من الاقتراع في الانتخابات العامة، وكمرشح مقبل لمناصب حكومية أو رئاسية.
في دول أخرى، يُستقبل الضابط المتقاعد في صفوف الأحزاب ويترشح على قوائمها الانتخابية ويمثلها في المراكز السياسية بعد أن يكون قد أنهى علاقته بالقوات المسلحة التي يفترض أن تتبع القيادة السياسية المنتخبة. وكثيرة هي الحالات التي انتقل فيها ضباط إسرائيليون من الجيش إلى الحكومة بفاصل شهور أو أعوام قليلة بين تقاعدهم وانضمامهم إلى الأحزاب التي اختاروها وتزعموها لاحقاً، وربما يكون الأشهر من بينهم إسحق رابين وارييل شارون. ومعروفة كذلك قصص وزراء وسياسيين اميركيين انخرطوا في الحياة السياسية في بلدهم مثل كولن باول وجورج مارشال فور ابتعادهم عن الجيش.
لكنّ لاحتفال التيار العوني بروكز بعداً آخر. قد تكون مهمة الكلمات التي ألقيت في المناسبة وخصوصاً كلمة العميد المتقاعد ذاته بقدر أهمية الرموز التي انطوى التجمع عليها. هنا تبرز فكرة «البطل المهزوم» الذي ضحى من أجل المبادئ الإنسانية السامية وبذل حياته دفاعاً عن قومه فخذله هؤلاء وردوا على تضحياته بالخيانة. تتشارك جماعات عدة في فكرة «البطل المهزوم» (غير «البطل المأسوي» الذي تتناوله التراجيديات اليونانية على سبيل المثال)، ولعل أهمهم يسوع المسيح وعلي بن أبي طالب والحسين بن علي من بين الشخصيات الدينية، وتشي غيفارا من الشخصيات المرتبطة بالإرث الايديولوجي المُعلي لدور الرموز والصور. في تصور «الوطنيين الأحرار» لواقعة تقاعد شامل روكز، وهم المستندون إلى ثقافة مسيحية تجوز في مقام آخر مناقشة أصالتها وعمقها، أن بطلهم سعى مُخلصاً وبذل كل ما في وسعه لإنقاذ «الشعب» – وهذه كتلة صماء من الناس المجهولي الهويات والميول والمصالح. بيد أن «الشعب» خذل روكز وانقاد إلى مؤامرات حراس الهيكل وصرّافيه الجدد من «طبقة سياسية» يقف روكز والتيار الوطني برمته خارجها وضدها. تخلى الشعب عن منقذه وسيدفع ثمن تخليه هذا مثلما دفع اليهود ثمن إنكارهم المسيح وصلبه خراب الهيكل الثاني على أيدي الرومان، وعلى غرار ثورة التوابين في العراق بعد مصرع الحسين في كربلاء، وابتلاء البوليفيين بالديكتاتورية العسكرية بسبب رفضهم مساندة غيفارا في جبالهم (مع الانتباه مرة ثانية إلى الفوارق بين الشخصيات الدينية والسياسية). وما تخبُّط اللبنانيين في أزمات عضال، من تفكك دولتهم وتدهور اقتصادهم وغرقهم بالنفايات وانقطاع الكهرباء الذي لا أمل في الأفق بانتهائه، غير عقاب مباشر لهم لارتمائهم في أحضان «الطبقة» الفاسدة – في زعم «التياريين» – وتجاهلهم طريق الإنقاذ الذي رسمه لهم التيار وزعيمه ميشال عون ورئيسه الجديد جبران باسيل وبطله شامل روكز. تفاصيل الطريق هذا وخريطته ليست من الأمور التي يُسأل عنها قادة يستلهمون الغيب ويعرفون الدرب المضيء الذي لا يراه العامة من الناس. يكفي هؤلاء أن يستجيبوا لدعوات المخلّص من دون إكثار من الأسئلة، وأن ينعموا بالمكرمات التي ينزلها عليها أنصاف آلهة، يشعرون بالإهانة إذا تفقد أحد ما ماضيهم أو مصادر ثرواتهم وهم الآتي أكثرهم من بيئات متواضعة، أو تعرجات لا تحصى في سلوكهم وتحالفاتهم وعداواتهم. بل إن السؤال في حالة روكز يصل إلى ما يميز ضابطاً في الجيش أدى مهماته وفق ما يفرضها عليه القانون، لا أكثر ولا أقل. لكنّ المنقذين والمُخلّصين يتعالون في العادة عن هذه الصغائر مدركين أنهم فوق البشر، فهم كما خاطب شاعر لبناني الديكتاتور السوري قبل أعوام «الناس من تَحتك عدد». وعلى عادة القادة الملهمين، يتوجه هؤلاء بكلامهم إلى التاريخ مستعيدين قيم الحضارة (قد يدعو إلى التساؤل ما يقصده السياسيون اللبنانيون بلجوئهم الدائم إلى كلمة «حضارة») لأنهم يعرفون ان التاريخ سينصفهم، على ما قال فيديل كاسترو في مرافعته أثناء محاكمته قبل الثورة الكوبية. فوق أنصاف التاريخ، سيُكافأ القادة بعودة الخراف الضالة إلى الراعي الصالح. وستنتصر الكنيسة على روما، وسيقيم الولي الفقيه حكمه، وسيثأر الرئيس البوليفي ايفو موراليس، ممثل فقراء بوليفيا، لمقتل غيفارا، ولا ريب أن شامل روكز سيعود رئيساً للجمهورية أو وزيراً للدفاع على أقل تقدير. والحال أن هذه المنطقة التي أنجبت من القادة والزعماء والمنقذين أكثر مما يجب – بدليل عمق النكبات التي تتردى فيها – لا تنتظر مُخلصاً جديداً، وأن قسماً مهماً من المسيحيين اللبنانيين يبدو سعيداً بالمنزلة التي أنزل ميشال عون وصهريه فيها بين «شعبه»، سيبقى على إيمانه بمخلص يخترعه من وهمٍ ومن حاجته إلى الخروج من متاهات لا تني تتعقد وتتعمق.
روليت بوتين
الـيـاس الزغـبـي/لبنان الآن/25 تشرين الأول/15
مرّ شهر تقريباً على العمليّة العسكريّة التي يخوضها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في سوريّا، ولم تتضح معالمها بعد، ولا نتائجها الفعليّة. ويكاد يقلّد أنداده السابقين من التحالف الغربي الذي قادته واشنطن في محاربة “داعش”، في شكل عمليّاته الجويّة وجوهرها، لجهة إصدار البيانات العسكريّة وتعداد الغارات والمواقع التي استهدفتها طائراته وأعداد القتلى المفترضين، متميّزاً عنهم باستهداف كلّ من هو ضدّ نظام بشار الأسد، وتحديداً المجموعات المعتدلة. ولا يختلف الأمر عنهم في حصر الأهداف المعلنة بمحاربة المتطرّفين ومنع تمدّدهم، ووقف خطرهم على العالم والتمهيد لحلّ أزمات المنطقة خصوصاً في سوريّا والعراق.
لكنّ هناك فارقاً أساسيّاً بين “التحالف الغربي” و”التحالف الروسي” غير مسألة ضرب قوى الاعتدال: فالولايات المتحدة لم تضع عمليّاتها تحت شعار الدفاع عن النفس، ولا تحت إيحاء ديني أو “تحالف أقليّات” كما فعلت روسيّا. ربّما لأنّ واشنطن متحصّنة وراء البحار في منعزلها الجغرافي والتاريخي بعكس موسكو الموجودة على تماس جيوسياسي مع مسرح العمليّات. كما أنّ التراث السياسي الأميركي لا يتضمّن خطاباً دينيّاً في الحروب منذ انغماس واشنطن في الحرب العالميّة الثانية، وبعدها في فيتنام والهند الصينيّة وأميركا اللاتينيّة وأوروبا الشرقيّة وأفريقيا وأفغانستان والعراق وسوريّا. حتّى أنّها خاضت أشرس الحروب في العالم الإسلامي بعد عمليّة 11 أيلول ولم تُتّهم بمحاربة المسلمين. وقد شكّلت حربها دفاعاً عن البوسنة المسلمة حصانة إضافيّة لها في هذا المجال. في حين أنّ موسكو معتادة على إدخال العامل الديني في حروبها منذ عهد القياصرة، وحتّى ضمنيّاً خلال المرحلة السوفياتيّة “العلمانيّة”، بل الملحدة. فالخلفيّة كانت دائماً ممهورة بطابع ديني مكشوف أو مموّه. ويحاول بوتين بشقّ النفس التبرّؤ من الصبغة الدينيّة التي تلاحقه، حتّى أنّه اضطرّ أخيراً للإعلان أنه يحارب الارهاب وليس السنّة، وليس همّه حماية بشّار الأسد “العلوي”! هذا يعني أنّ بوتين بدأ ينحو في حربه نحو الدفاع بعدما باشرها بالهجوم. وليست الدبلوماسيّة الساخنة التي يقوم بها سوى دليل على بداية ارتباك حملته وتشتّت أهدافها. ففي يوم واحد اتصل بزعماء الدول الإقليميّة التي تعارض تدخّله العسكري في سوريا، خصوصاً تركيّا والمملكة العربيّة السعوديّة والأردن، وحتّى مصر، فضلاً عن التنسيق العميق مع إسرائيل. ولم يكن اجتماع فيينا الرباعي بين موسكو وواشنطن وأنقرة والرياض سوى تأكيد على دقّة الوضع الروسي بعد تجربة الشهر. ولم يكن استدعاء الأسد إلى الكرملين بهدف تكريمه وتكريسه، بل لتحضيره لمرحلة مقبلة تنتهي بخروجه من السلطة. وليس القول بأنّ “الشعب السوري يقرّر” سوى ضخّ غبار لإخفاء حقيقة الصورة. فكيف لشعب مشرّد في مغارب الأرض ومشارقها، أو مغيّب في السجون والقبور والمستشفيات، أن يقرّر؟ حتّى الآن، لا دلائل على نجاح حملة بوتين في تقديم نفسه منقذاً للوضع السوري وبديلاً حاسماً للتحالف الغربي، وكأنّ ارتباك الغرب في مرحلة الهجوم الأُولى انقلب الآن ثقةً في أنّ الرئيس الروسي مضطرّ إلى طلب المساعدة الغربيّة قبل أن يغرق أكثر في الرمال السوريّة.
ولعلّ أوروبا، نيابةً عن الغرب، بدأت تلاقيه إلى منتصف الطريق لرسم خطوط المرحلة الانتقاليّة التي قد تحافظ على الأسد لفترة متوسّطة على قاعدة حاكم لا يحكم، كما جرى مع علي عبدالله صالح في اليمن لفترة محدودة. ولا غرابة في أن يبحث الغرب عن مخرج، ليس للأسد فقط، بل لبوتين أيضاً، قبل أن تصبح حرب هذا الأخير لعبة روليت روسيّة، فيها خطر المجازفة إلى حدّ الانتحار بالرصاصة الوحيدة. فالانتحار هنا ليس لشخص، بل لتركيبة مصالح دوليّة في لعبة الأُمم يدفع ثمنها الجميع وليس روسيّا وحدها. فقد بدأت عمليّة بوتين بحسابات دقيقة ووعود سريعة بتغيير الأوضاع، وسرعان ما تطوّرت إلى تداخلات صعبة فاشتراكات معقّدة في الأجسام المشاركة وأثمان غير محسوبة، من جنرالات إيران إلى قيادات “حزب الله”، فضلاً عن بدء استيراد الجثث الروسيّة. ويمكن القول الآن إنّ الحملة الروسيّة باتت تبحث عن تسجيل نقطة فرعيّة هنا، واستعادة النظام قرية هناك، في حالة دوران على الذات وكرّ وفرّ كانت قبل الحملة وستستمرّ بعدها على طريقة إنقاذ ماء الوجه. ويبدو موقف واشنطن عبر مندوبتها في مجلس الأمن الدولي عن تعقيد الوضع السوري وتفاقمه بعد خطوة بوتين خير وصف للورطة الروسيّة. حركة دبلوماسيّة ساخنة، ومدّ يد عاجلة من الخصوم، يحتاج إليهما زعيم الكرملين، تفادياً لانقلاب الحرب إلى لعبة روليت خطرة تربط المصير بالحظّ أو الصدفة، وهي أصلاً براءة اختراع لبلاده!