نور نيويورك ظلام بيروت
الـيـاس الزغـبـي/لبنان الآن/24 أيلول/16
المشهد اللبناني في ليالي نيويورك ونهاراتها يبدو شديد التعبير عن ازدواجيّة العمل السياسي والدبلوماسي، وعن حقيقة الشعارات العالية والخاوية المطروحة في الداخل والمسحوبة في الخارج.
في لبنان ضجيج وصراخ حول “الميثاقيّة” و”الحقوق” و”شرعيّة التمثيل” في وجه رئيس الحكومة تمّام سلام وقوى سياسيّة غير محدّدة، وإذا حُدّدت تكون هي نفسها التي يتمّ التوسّل إليها لانتخاب زعيم أهل الضجيج والصراخ!
وفي نيويورك انصياع للخطاب الوطني الرفيع للرئيس نفسه، وانسياق وراءه إلى حدّ التسليم والتماهي، بحيث تغيب السلبيّات وتخرس التهديدات.
فقد قاد الرئيس سلام الوفد اللبناني بسلاسة ولياقة رفيعة ووعي وطني ثابت، وطرح قضايا لبنان بأرقى أسلوب وأصدق موقف، ما جعل أعضاء الوفد، وخصوصاً حامل لقب وزير الخارجيّة، في حال العجز عن مزايدة هنا ومشاكسة هناك، كما حصل ويحصل في بيروت.
والحقيقة أنّ طرح سلام معاناة لبنان من النزوح السوري لم يترك ثغرة لأيّ مزايد أو مصطاد في الوحل الطائفي والمذهبي على خلفيّة النزوح، وفي الأفكار الواقعيّة لمعالجة هذه الأزمة.
هذا الرئيس (السُنّي) للحكومة تحدّث، خلال كلّ المؤتمرات واللقاءات الرفيعة، وفي خطابه القوي والصريح والشفّاف أمام الجمعيّة العامّة للأُمم المتّحدة، بلغة وطنيّة لبنانيّة أصيلة تستعيد المحطّات المضيئة في تاريخ الدبلوماسيّة اللبنانيّة، من حميد فرنجيّة وشارل مالك إلى فيليب تقلا وفؤاد بطرس، فاستحقّ بجدارة الانتساب إلى عالم اللبنانيّين الكبار، وكان وزيراً فوق العادة للخارجيّة اللبنانيّة التي افتقدت زمن الرعيل المميّز خلال السنوات العشرين الفائتة.
ومن يتابع ويراقب عن قرب، يكتشف كم كان وزير اللقب سائراً بالتحاق كامل، مكتفياً بالحضور الرقمي لإثبات نظريّة “الشراكة”، ولو في الشكل. ويمكن وضعه في خانة مقرّر أو كاتب مَحاضر، أو مراسل لجهةٍ ما، في أفضل الأحوال.
وسبب ذلك يعود إلى أنّ أداء رئيس الحكومة وصدقه الوطني، لم يتركا مجالاً لنقد أو لوم أو مأخذ. ونحن، في بيروت، التبس علينا الأمر، فظننّاه فؤاد شهاب أو كميل شمعون أو غسّان تويني أو شارل مالك… أو رياض وتقي الدين الصلح وصائب سلام ورفيق الحريري… على منابر الأُمم. وليس من مجال هنا للتفريق بين مسلم ومسيحي في حمل معنى لبنان الحقيقي.
فالرئيس سلام كان مسلماً مسيحيّاً لبنانيّاً يجسّد معاني الميثاق والشراكة والصيغة والعيش المشترك، في قوله وفعله.
ولا يستطيع مسيحيّون (موارنة تحديداً)، أن يقولوا في الرئاسة اللبنانيّة أبلغ ممّا قاله، ولا أن يكونوا حريصين عليها أكثر من حرصه، فأعطاها أولويّة في شهادته العالميّة وصرخة الاستغاثة التي أطلقها لانتخاب رئيس وملء الفراغ في السدّة الأُولى.
… ونعود إلى بيروت، فيتبدّل المشهد اللبناني النيويوركي اللافت، إلى مشهد بدائي من المشاكسات والمزايدات. فتعود الحكومة “غير ميثاقيّة”، ويعود الرئيس سلام آكلاً لحوم الحقوق والشراكة والتوازن! ويستعيد “خروف” نيويورك أنياب الذئب في وجه رئيس الحكومة، مع التهديد والتهويل بـ”حرب تحرير” الميثاق (عنوان المقال السابق).
هذه الازدواجيّة في السياسة لا تكشف سوى صاحبها، فلا التجارة بورقة النازحين السوريّين بقيت رابحة، ولا الحرص الميثاقي مطروح إلاّ كشعار مصلحي. فالتخويف من التوطين ليس حكراً عليه، والسعي لانتخاب رئيس ينحصر في أحاديّة المرشّح، ولا ينفتح على مبدأ أهميّة الرئاسة.
وقد ثبت للجميع أنّ الميثاقيّة تبدأ من انتخاب الرئيس، ثمّ انتخابات نيابيّة تؤمّن التوازن الوطني والتمثيل الفعلي لجميع المكوّنات. وليس من الاصرار على وحدانيّة الترشيح وحصريّة الرئاسة. ولا في القبول بصفقة القانون الراهن، أو حتّى التمديد لمجلس النوّاب، إذا تمّ التسليم بهذه الحصريّة.
فالميثاقيّة تكون سليمة عندهم إذا وصلوا للرئاسة، ولو طُعنت ألف طعنة في أكثر من مستوى وموقع وقانون.
وبات كلّ هذا الدُوار والتخبّط، بين تفاؤل مصطنع، وقلب الطاولة بعد 28 أيلول، ضرباً من العبث السياسي الذي لا يُنتج سوى مزيد من الاخفاقات والاحباطات، بينما الحلول تكمن في غير مكان وزمان، وفي العمل خارج إطار الجنون.
شعارات عالية ذبُلت، وأوراق كثيرة انكشفت، ولا تكفي ورقة توت لستر كلّ العورات.
وضوء نيويورك تبدّده عتمة بيروت. فمتى الخروج من النفق؟