عَصرَه السوري… يعصرُه الإيراني
خيرالله خيرالله/العرب/12 تشرين الأول/16
قبل كلّ شيء، يحتاج لبنان إلى رئيس للجمهورية. من يرفض النزول إلى مجلس النوّاب لانتخاب رئيس للجمهورية، إنّما يريد تدمير الجمهورية لا أكثر. لذلك لا يمكن إيجاد أي عذر لنائب لبناني يقاطع جلسات انتخاب رئيس للجمهورية منذ ما قبل نهاية ولاية الرئيس ميشال سليمان في الخامس والعشرين من أيّار – مايو 2014، أي منذ ما يزيد على عامين ونصف عام بالتمام والكمال. أقلّ ما يمكن قوله عن النائب المقاطع أنّه يعمل من أجل تغيير طبيعة النظام في لبنان… أو أنّه جاهل إلى درجة لا يستوعب النتائج التي يمكن أن تترتب على مقاطعة جلسات انتخاب الرئيس.
مطلوب رئيس للجمهورية لحماية لبنان ومنع تغيير النظام القائم منذ إقرار اتفاق الطائف في خريف العام 1989. هذا النظام يحتاج من دون شكّ إلى إصلاحات. الطائف ليس كتابا مقدّسا. لكنّ هذه الإصلاحات لا يمكن إلا أن تكون نحو الأسوأ في غياب التوافق الوطني وفي ظلّ سلاح مذهبي. يعمل هذا السلاح غير الشرعي على “تبييض” وضعه بفرض دستور جديد عبر ما يسمّى “المؤتمر التأسيسي” الذي دعا إليه قبل سنوات عدّة الأمين العام لـ“حزب الله” السيّد حسن نصرالله.
في غياب رئيس للجمهورية، يبدو لبنان معرّضا لمخاطر كبيرة. من بين هذه المخاطر فرض نظام جديد على اللبنانيين لا يعود فيه مجال سوى لتكريس التعطيل عبر إيجاد نائب لرئيس الجمهورية تابع لـ“حزب الله”، أي لإيران، يكون رئيس الجمهورية الفعلي بصلاحيات تمنع أي قرار يتخذ على الصعيد الوطني يصبّ في مصلحة البلد.
هذا هو الواقع الذي لا يدركه مقاطعو جلسات انتخاب رئيس للجمهورية. من لا يدرك هذا الواقع، خصوصا النواب المسيحيين التابعين لميشال عون الذين يصرّون على أن يصبح رئيسا للجمهورية بسلاح “حزب الله”، إنما هو شريك في اللعبة التي يمارسها “حزب الله”. لا يدرك ميشال عون أن لعبته هذه لن توصله إلى الرئاسة بمقدار ما أنّه يستخدم في عملية من نوع آخر تصبّ في نهاية المطاف في تكريس الوصاية الإيرانية على البلد.
مفهوم أن يقاطع “حزب الله” جلسات انتخاب رئيس الجمهورية. لدى الحزب أجندة خاصة به هي الأجندة الإيرانية. يظنّ الحزب أن الوقت يعمل لمصلحته وأن “المؤتمر التأسيسي” آت لا محالة ما دام قسم من المسيحيين في لبنان، يمثلهم ميشال عون، يعملون من أجل بلوغ النتيجة نفسها.
المؤسف أن ميشال عون لا يتعلّم. لم يستوعب أنّه استخدم في العام 1990 من أجل إفراغ اتفاق الطائف من مضمونه وتحويله من اتفاق يحظى برعاية دولية وعربية، إلى اتفاق يضع لبنان تحت الوصاية السورية.
عندما أدخل ميشال عون، بعقله الانقلابي، الجيش السوري إلى قصر بعبدا ووزارة الدفاع اللبنانية في اليرزة في ذلك اليوم المشؤوم، يوم الثالث عشر من تشرين الأوّل ـ أكتوبر 1990، تبيّن كم أن القائد السابق للجيش اللبناني الذي جيء به إلى قصر بعبدا لا علاقة له بالدولة ومؤسساتها، ولا يمتلك أي قدرة على فهم المعادلات الإقليمية والدولية.
كان ميشال عون، بعد انتهاء ولاية الرئيس أمين الجميّل، رئيسا لحكومة عسكرية مؤقتة ذات مهمة محصورة بانتخاب رئيس للجمهورية. خلال إقامته في قصر بعبدا، انتخب النواب رئيسا للجمهورية بعد إقرار اتفاق الطائف الذي أعلن رئيس الحكومة المؤقتة رفضه له. كان همّه محصورا بأن يكون هو، ولا أحد غيره، رئيس الجمهورية.
كان ولا يزال مستعدا لكلّ شيء من أجل أن يكون رئيسا للجمهورية في بلد كان في العام 1989 في حاجة أكثر من أي وقت لشخص مثل رينيه معوّض. مُنع رينيه معوّض من دخول قصر بعبدا كي يكون فريسة سهلة للنظام السوري الذي اغتال الرئيس اللبناني المنتخب في منطقة يتحكّم بكل مفاصلها.
كان منع رينيه معوّض من دخول قصر بعبدا الخدمة الكبرى التي أدّاها ميشال عون للنظام السوري. أعلن ميشال عون الحرب على النظام السوري، لكنه لعب على أرض الواقع، دور الأداة الأفضل، إن لم يكن الأداة المفضلة، لديه. فمنذ اغتيال رينيه معوّض صار النظام السوري من ينفذ اتفاق الطائف على طريقته. لم يكتف ميشال عون بذلك. لم يعرف أن نظام صدّام حسين انتهى يوم غزوه للكويت في الثاني من آب – أغسطس 1990. كان نظام صدّام الحليف الأوّل لميشال عون. معروف كيف أرسل له دبابات استخدمها في نهاية المطاف في حربه على “القوات اللبنانية” وعلى الدكتور سمير جعجع بالذات.
لا حاجة إلى العودة إلى تفاصيل ما حدث في الثالث عشر من تشرين الأوّل ـ أكتوبر 1990، عندما دخل النظام السوري إلى قصر بعبدا ووزارة الدفاع للمرّة الأولى منذ استقل لبنان. في ذلك اليوم، لجأ ميشال عون إلى السفارة الفرنسية تاركا جنوده في ساحة المعركة بعدما تبيّن أن حساباته العسكرية والسياسية ورهاناته الإقليمية لم تكن في محلّها إطلاقا.
بعد الطائف، أراد ميشال عون تدمير لبنان. أراد أن يدفع البلد ثمن عدم الإتيان به رئيسا للجمهورية. لم يستطع عقله التبسيطي فهم معنى غزو صدّام للكويت، ولا معنى انضمام حافظ الأسد إلى الحلف الدولي الذي قادته الولايات المتحدة من أجل إعادة الكويت إلى أهلها.
لم يتغيّر ميشال عون. لم يتغيّر عقله الانقلابي. عندما يقبل بأن يكون انتخابه رئيسا للجمهورية ثمنا لتوقف إيران عن تعطيل لدور مجلس النوّاب، فألف سلام عندئذ على لبنان… وعلى ما بقي من مؤسساته.
كان مفترضا أن يتعلّم ميشال عون شيئا في ما يزيد بسنة على ربع قرن. نجده في السنة 2016 يكرّر ما فعله في العام 1990. كلّ ما في الأمر أنه تحول من عدو للنظام السوري إلى معجب به. لم يعد يسأل حتّى عن اللبنانيين المحتجزين في سجون هذا النظام منذ سنوات طويلة. تحوّل، عمليا، من أداة استخدمها هذا النظام في فرض وصايته على لبنان، إلى أداة تستخدمها إيران من أجل إحلال وصايتها مكان الوصاية السورية.
صحيح أنّ “حزب الله”، الذي تتحكّم به إيران، لا يريد رئيسا للجمهورية. وهذا ما كشفه الرئيس سعد الحريري عندما اعتبر ميشال عون من بين الأسماء المطروحة لديه. لكن الصحيح أيضا أنّ لا مانع من استخدام إيران للرجل، تماما مثلما استخدمه النظام السوري في الماضي. فميشال عون يمتلك عقلا انقلابيا، وهو يمثل قسما من المسيحيين ذوي القدرات العقلية المحدودة في لبنان. لا شيء يحول دون عصره حتّى آخر نقطة في عملية مدروسة تستهدف تحويل لبنان إلى مجرّد مستعمرة إيرانية. هل صدفة أن شعار التيار الذي يتزعّمه ميشال عون هو البرتقالة؟
عَصَرَ النظام السوري هذه البرتقالة في الماضي، لماذا لا يعصرها حاليا ملالي إيران وممثلهم في لبنان ما دام قسم من مسيحييه لا يدرك أهمية أن يكون للبلد رئيس للجمهورية، رئيس يمتلك قبل أيّ شيء القدرة على أن يكون وفاقيا، فضلا عن المؤهلات العقلية التي تسمح له باستيعاب ما يدور في المنطقة في هذه الظروف المصيرية التي يجتازها الشرق الأوسط.