الخبث كأداة هيمنة: استغلال شهادة الحسين
منى فياض/العرب/04 تشرين الثاني/16
يقرر دون جوان في مسرحية موليير عندما وصل إلى حائط الأخلاق المسدود أن يلجأ إلى الخبث، فهو وجد أن “الخبث رذيلة على الموضة. وجميع الرذائل التي على الموضة يعتبرونها فضائل. وشخصية الفاضل هي أفضل الشخصيات التي يمكن أن نلعبها. لمهنة الخبث محاسن رائعة. إنها فن يجعل من الدجال شخصا محترما، ومهما كشفنا أمره لا يتجرأ أحد على قول شيء ضده. جميع الرذائل معرضة للرقابة ما عدا الخبث، فهو فضيلة لها امتياز تكميم الأفواه فتنجو من العقاب”. سوف يلعب إذن دور الفاضل ويتخذ من الدين درعاً فيلبس عباءته. “من المسموح تحت هذا الرداء المحترم أن يكون الشخص الأسوأ. سوف أصبح منتقما لمصالح السماء، وتحت هذه الذريعة سأتحدى أعدائي وأدينهم بالكفر وأطلق العنان للمتحمسين السذج والذين يجهلون ما القضية، بالهجوم عليهم وإغراقهم بالشتائم… هكذا علينا استغلال ضعف البشر وهكذا يمكن للعاقل التأقلم مع رذائل العصر”. كأن موليير معاصر لنا يصف ما يجري أمام أعيننا ونشاهده بعجز.
فبينما يوزع علينا جواد ظريف ابتساماته وأقواله المأثورة عن ضرورة “حل الخلافات سلمياً ومنع التهديد أو استخدام القوة”، يترك للسيد حسن نصرالله الشيعي اللبناني العربي استغلال عاشوراء الحسين ليطلق شعارات التهديد والوعيد والمطالبة “بالموت للسعودية” بعد أن قاتل الشعب السوري السني بغالبيته تحت راية “محاربة التكفيريين” وحماية الإسلام. يتم تحوير معنى الشهادة بمناسبة عاشوراء، التي غالباً ما كان يدعو السيد فيها إلى تأليف قلوب المسلمين، فتصبح مناسبة لتجزئتهم. وبعد أن كانت شهادة ثالث الأئمة مناسبة للكشف عن المغتصبين بغية إصلاح دين الرسول وبهدف التضحية بالذات، ليس من أجل النصر بل العكس، فالنتيجة كانت هزيمة مؤقتة. لقد صرع الحسين في معركة غير متكافئة، حيث “سيد الشهداء” قتل دون أن يتذوق النصر. هذا النصر سيتحقق، حسب هذه الرواية، بعد وفاته عبر كشف لا شرعية السلطة الظالمة. ينقلب الأمر مع شيعة الولي الفقيه، ويترجم استشهاد الحسين الذي رضي أن يضحي بنفسه من أجل فكرة الحق والعدل، ليصبح جميع قتلى حزب الله في دفاعهم عن نظام الأسد الاستبدادي شهداء حسينيين.
كم صار بعيداً عام 1979 حين وقف العالم مع الخميني عندما قلب النظام في إيران اعتماداً على فئات الشعب نفسها التي قمعها المرشد الأعلى في 2009 وأُخرست أصواتها، فهتفت مجدداً وبعد 30 عاماً “مجيداً” “الموت للدكتاتور”. انقلبت الثورة الإسلامية على نفسها، وتحولت من مدافعة وناطقة باسم الشعب الإيراني، إلى جهاز مهمته الأولى العمل على إرساء تحكّم الولي الفقيه الذي استعاد تراث الشاهنشاهية وشهيتها التوسعية بأثواب الثيوقراطيين الجدد المقدسة.
فرهاد خسرو خافار في كتابه “شهداء الله الجدد” يلقي نظرة على تاريخية هذا التحول وآلياته. يجد أن مفهوم الشهادة عند الشيعة مستجد، فلم تقلد الجماهير الشهادة إلا خلال الانقلاب على الشاه أولاً، وفيما بعد في الحرب الطويلة ضد العراق من 1981-1988. الظاهرة الجديدة إذن هي “تفريد” مأساة الشهيد أي أنسنتها وجعلها فردية. كان التقليد قد جعل من الحسين كائنا تفوق قدرته البشر وموته كأنه محدد مسبقا. قال الإمام السادس جعفر الصادق (توفي عام 765) “بأن الحسين لم يرضع إطلاقا من حليب أمه ولا من حليب أي امرأة أخرى. كان الرسول يحمله بين ذراعيه، ويضع أصبعه في فمه لكي يمصه، ويقتات بهذا الشكل العجائبي لمدة يومين أو ثلاثة أيام. جسد الحسين يأتي من جسد الرسول. فالحسين نشأ من طبيعة تختلف عن طبيعة البشر”.
يشير خافار إلى أنه من المحتمل أن تكون المرة الأولى على صعيد مفهومي التي يحصل فيها فصلا واعيا بين الجهاد والشهادة. ففي التقليد السني، كما لدى أغلبية مراجع التقليد الشيعية، ثمة علاقة تبعية بين الشهادة والجهاد، حيث تخضع الأولى للثاني. ففي سبيل نجاح الجهاد، يجب على المسلم أن يموت في “سبيل الله” أي الشهادة. بيْدَ أن علي شريعتي يدرج نوعين من الشهداء: من جهة لدينا الشهيد الذي يحارب العدو حتى الموت على غرار حمزة عم الرسول. ومن جهة أخرى لدينا الإمام الحسين. سمي حمزة سيد الشهداء، وبعد عاشوراء أطلق التشيع هذا اللقب على الإمام الحسين. كلاهما سيد الشهداء: حمزة في ساحة شهداء الجهاد، والحسين من بين شهداء الشهادة. شهادة حمزة، وباقي المجاهدين، هدفها النصر أما الحسين فهدفه إنكار الذات في سبيل المقدس. هنا تنفصل الشهادة عن الجهاد. الفرق بين حمزة والحسين أن الأول كان يريد أن يموت كي يهزم العدو، بينما الثاني كان على يقين أنه سيُهزم ويموت. كان الموت في هذه الحالة متعمدا: تضحية من أجل الحق. بينما في الحالة الأولى الموت هو الحل الأقل سوءاً.
ربما نفهم لماذا تلقى الشبان الفلسطينيون السنة هذه الرسالة: جيش إسرائيلي متفوق في العدد والعتاد يجعل من أي احتمال للنصر وهماً، عندئذ لا يمكن أن يتحقق إثبات الذات إلا عبر موت الشخص الذي يقتل أفرادا من معسكر العدو بقتله لنفسه. لكن الرد يأتي عبر عمل بطولي يقتضي القضاء على الذات، ليؤدي أيضا إلى موت الآخر، مع العلم أنه الأقوى. وفي لحظتها لا يهزم. تعبّر الشهادة الجديدة في لغة الإسلام المتشدد عن يأس فرد قيد التكوّن، ويحتفظ برابط بالمقدس، ويحاول في الوقت ذاته أن يثبت نفسه في عالم أصم إزاء طموحاته.
لكن أن ينطبق هذا المفهوم على الشاب الشيعي اللبناني المحارب في سوريا ويعد موته هناك “شهادة حسينية” فهذا تزوير وافتراء. ومن هنا أمكن القول إنها ظاهرة لا تبغي إعادة إنتاج البنيات التقليدية في المجتمعات الإسلامية كما يوهمنا الملالي. إن الشهداء الجدد هم الأشكال الجديدة من الانقلاب على التقليد، بشكل مبالغ أحيانا، فهم يتحررون منها باعتناقهم أشكالا من الشرعية تنتمي شكليا إلى هذا التقليد، لكنها تهمشه في الواقع. فنحن أمام تناقض أصبح كلاسيكيا بالنسبة إلى سوسيولوجيي الدين: تديّن جديد يمثل انقطاعا مع الأشكال التقليدية للحياة الاجتماعية، وهو في الوقت نفسه، يغيّب هذا الانقطاع باسم منهج “أكثر صحة” لإسلام الأصول. إن جزءا كبيرا من جدة الظاهرة المسماة “إسلامية” يكمن في الاستعمال المزدوج لمستوى التقليد الديني بغية تقويضه. وفي حالة إيران استغلال الدين بغية تقسيم العالم العربي والهيمنة عليه.
ومنذ أن طور الخميني مفهوم ولاية الفقيه جعل السياسة خاضعة للدين باسم الله، مستنداً إلى نفوذ رجال الدين الذي قوي إبّان الدولة القاجارية. تجديد الخميني لا يكمن في صفاته الفقهية فحسب بل أيضا في صفاته كمحارب وسياسي. استخدام الخميني لخطاب متطرف، اعتمادا على مانوية الخير والشر، سمحت له بالتوجه إلى العالم الخارجي، أي الغرب من جهة والمسلمين من جهة أخرى. وأتى التنديد بتصرفات أميركا في عملية استقطاب مزدوج، حيث الخير يواجه الشر. الآن لم تعد أميركا مجسدة الشر وتم محو شعار “الموت لأميركا” عن جدران طهران. الموت الآن للسعودية الدولة الدينية المسلمة كإيران. يتدرج الاستقطاب من التوجه نحو الخارج، إلى التوجه نحو الداخل. وليس في هذا الأمر مفاجأة فلقد سبق للاستقطاب أن تمرّن على المستوى الداخلي حين توجه السيد نصرالله بعد حرب 2006 إلى قسم من اللبنانيين الموالين له مطلقاً عليهم نعت “أشرف الناس”، وجميع الآخرين من خصومه صنّفهم كـ”عملاء”. ومؤخراً فصل “شيعة السفارة” عن الجسم الشريف لشيعته.
والآن نفس الاستقطاب يحصل ضد السنة تحت غشاء محاربة “آل سعود”. وكأننا أمام تشيع ثالث تلجأ إليه إيران لإنقاذ طموحاتها الإمبراطورية المأزومة والمعرضة للفشل. لم يبق لديها سوى استخدام التشيع والمذهبية كسلاح أخير لكسر روح التضامن العربي من أجل السيطرة على المنطقة بعد تفتيتها. فالشعوب المظلومة التي يساندها “حزب الله” تنحصر في “رفض العدوان على أهل اليمن، والظلم على أهل البحرين”. أما العراق حيث إرث نوري المالكي وتخبط حيدر العبادي، وسوريا حيث براميل بشار ومستشاري خامنئي، فنجد الحق والعدل والأمن والديمقراطية والإسلام الصحيح.