رئيس الجمهورية والدستور
شبلي ملاّط/النهار/5 تشرين الثاني 2016
موقفُنا من مرجعية الدستور أساساً للمحافظة على الجمهورية اللبنانية هو الذي سمح للجلسة الـ46 أن تحصل. طبعاً ليس فقط موقفنا أدّى الى ذلك، فالعوامل السياسية كثيرة تضافَرَت الى أن أُفرِجَ عن الدستور والتأم النواب لانتخاب الرئيس، كما هو واجبهم الدستوري.
إنما كان سهلاً للتعطيل أن يحدث من طرف أولئك الذين وضعوا في الصندوق ورقة بيضاء، وهي ورقة تعبّر عن رفضهم للمرشح الذي بات وحيداً لا منافِس رسمياً له. كان ممكناً، بل سهلاً عليهم أن يقتفوا أثرَ المرشح الوحيد وأثرَ حلفائه، وأن يمنعوه من الرئاسة بمجرّد عدم وجودهم في المجلس، أو أن يخرجوا من المجلس بعد إدلائهم بالورقة البيضاء فيعطّلوا الرئاسة، كما حدث في الجلسة الأولى.
أما وقد تمّت الجلسة وصار العماد ميشال عون رئيساً، فودّي هنا أن أذكّر من ناصَرَه أن تقويض التعطيل جاء بفضلنا، أي بجهد “لبنان الإنسان” واهتمام الساحة العامة الداخلية والدولية في تغيير المناخ الدستوري الرافض للتعطيل على أثرِه. كما عليه أن يقدّر شهامة النواب الذين جاؤوا الجلسة كما هو واجبهم الدستوري ليدلوا بصوتهم، ولو كان صوتاً أبيض استنكاراً للمرشّح. هذا العمل سمح اليوم للنائب ميشال عون أن يكون رئيساً.
هذه حقيقة عليه أن يقدّرَها لعملنا، فمن دون إحيائه للجوّ الجديد الذي أدخلناه على البلاد منذ عريضتنا الأولى المقدمة الى مجلس النواب في 30 آب 2016، لكُنّا بقينا في دوّامة التعطيل اللادستوري.
أما ولئن النتيجة كانت أن أبرز المعطّلين، وهو اليوم رئيس الجمهورية، استفاد من تعطيله للرئاسة على امتداد 45 جلسة، فهذا أيضاً لا يغيب عن تاريخ دستورنا، كما لا يغيب عن حياة دستورنا فرضُ القوات الإسرائيلية رئيسين على جمهوريتنا في عام 1982، وقبلها وبعدها القوات السورية، مع الياس سركيس عام 1976 ومع الياس الهراوي وإميل لحود – والتمديد لكلٍّ منهما بهذا الفرض الخارجي، وفي الدوحة دورُ حالة من الهلع الناشئة عن فاجعة 7 أيار في تعيين الرئيس ميشال سليمان بمخالفة الدستور لناحية عدم احترام السنتين اللتين تمليها المادة 49 ليصحّ ترشيح قائد الجيش للرئاسة.
لا أظن أنَّ محو التاريخ ممكن، لا سيما في المخالفات الدستورية الكبرى، وإن كان ردّ فعل الناس، على الغالب، في رفع نظرتهم الى السقف مؤاساة للمثالية الساذجة: لسنا مثاليين ولسنا ساذجين. موقفنا الثابت كان ولا يزال أنّ لخرق الدستور نتائج وخيمة، وما أشدّ برهاناً على هذه الحقيقة سوى الحالة المزرية التي عشناها منذ عام 1976. فقد غاب الدستور عنا عام 1976، وغياب الدستور هو شبح الحرب المستقرّ، يسمّى أيضاً شريعة الغاب. لا بديل للدستور سوى شريعة الغاب، ومن أبواب هذه الشريعة ما رأيناه من تعطيل يتمثل بفراغ رئاسي انتهى إلى غير عودة، إن شاء الله، في 31 تشرين الأول، ولو كان المستفيد الأول من غيابه الشخص الذي تمّ التعطيل لأجلِه على امتداد هذه الفترة.
نتيجةُ هذه القراءة، إن صحّت، أن القلق سيّد الموقف. والقلق لا حلّ له سوى في إحياء الدستور ضدّ الإنتهاكات التي اعترته حتى يوم 31 تشرين الأول 2016، والإلتزام به. وهنا أعود الى تلاقي البلاد معنا على المرجعية الدستورية لرسم المستويين اللذين يحكمان الحياة العامة، في لبنان كما في أية دولة حريصة على الديموقراطية: (1) الدستور بما هو مجموعة قواعد يلتئم حولها الجميع بغضّ النظر عن النتيجة، و(2) العمل السياسي المعقّد الذي يتمّ تحت سقفه.
لا بدّ أن أبدّد هنا الشّبهة حول المقولة الأدبية المعروفة، “ما بُنِي على باطل هو باطل” – ومرادفها القانوني، خاصّة في أثرها الجلل على الحقل العام. لا بُدّ من توضيح وجيز لها من منطلق قانوني.
“ما بني على باطل هو باطل” عبارة لا تصحّ قانوناً بإطلاقها. والمثل الأسهل هو العقد، العقد اليومي من تجارة أو إجارة أو قرض. قد يكون العقد باطلاً، لكن ما بني عليه ليس بالضرورة باطلاً، وللتفاصيل في معالجة العقد الباطل على أساس ما بني عليه يملأ رفوفاً مكتظّة بالكتب الفقهية. وفي الحقل العام أيضاً، فإن استمرار المرفق العام مبدأ أساسي أيضاً يعني أن “ما بني على الباطل باطل” لا يصحّ على إطلاقه.
هذا لا يعني أن ما كان باطلاً في أساسه ممحوّ عن بكرة أبيه. لا. للقانون احترامُه للتاريخ ومكانتِه المميّزة. إنما يعرف القانوني أيضاً أن العدالة المطلقة ليست من عالمنا وأن الدستور المنتهك لا يعني توقّف الحياة العامة بالمطلق على أساس بطلانِ العقد الإجتماعي من أصله بسبب خرق الدستور في مناسبة ولو كانت هامّة، ولو كانت انتخاب رئيس الجمهورية.
هذه مساحة دائماً ضبابية، وهي دائمة عرضة لأخذ وردّ بين ما يسمح به الدستور، وما هو مخالف له. نحن نعرف في هذه المنطقة بالأخص، بطابعها الديني العميق، أن النصوص الإلهية محكوم تطبيقُها بأخذ وردّ يرافقان تاريخها منذ أن وُضِعَت، تفسيراً وتأويلاً. فكيف بالنصوص التي وضعها الإنسان ميثاقاً اجتماعياً Pacte social ليعيش المواطن الأعزل، كما السياسي المتمرس، في ظلّ قواعدها.
هذا يعني اليوم، في جمهورية انتهى الفراغ في رأسها، أن تعود مجدداً إلى قواعدها الدستورية، لتبديد هذا القلق المساور للفراغ وكيفية إنهاء الشواذّ، بما فيها العمل بمبدأ عدم دستورية التعطيل.
مثلان سهلان أعرضُهما اليوم في تحدٍ يجابهنا ولا بُدّ أن نتخطاه دستورياً لناحية بتطبيق مبدأ لادستورية التعطيل.
من حديثنا في “لبنان الانسان” منذ اليوم الأول أن الدستور موجود لتسهيل الحياة على المواطن وليس لتعطيلها. فبعد انهاء التعطيل الرئاسي، يحتّم المبدأ أمرين:
أولهما أنّه يحق للمواطن أن يتمتع بحكومة تعمل، وفي أسرع وقت ممكن. لا ينص الدستور على مَدَى هذا الوقت، إنما يحدّه، خلافاً للقراءات المعطّلة في المجتمعات اللاديموقراطية، بحدثٍ دستوري مفصليّ هو الثقة بتصويت في المجلس، بالأغلبية، على منظومة حكومية معينة (المادة 64). إن رُفضَت الثقة عادت المشاورات الى نقطة الصفر، برئيس للحكومة ذاته أو برئيس للحكومة جديد يمكنه إنشاء منظومة حكومية قادرة على نيل الثقة. إذاً المعيار هو الثقة، فلا يجوز كما حصل مراراً وتكراراً جَرْجَرة المشاورات على تأليف الحكومة أشهراً قبل وضعها أمام المجلس لنيل الثقة – وفي التجارب الدستورية في البلاد التي تعتبر دستورَها أيامٌ معدودة يقوم خلالها رئيس الوزراء بعرض لمنظومتِه الى المجلس لسدّ الفراغ الحكومي، فيصوّت المجلس بلا تباطؤ على منح الثقة أو رفضها. هذا ما نحن بحاجة إليه من باب لادستورية التعطيل، خلافاً لتجارب مؤسفة في تاريخنا القريب والأبعد. أيام معدودة لرئيس الحكومة لجمع منظومته وتصويت المجلس على الثقة بها.
الموضوع الثاني هو قانون الإنتخاب. يسأل الكثيرون عن أفضل قانون للإنتخاب دستورياً. رغم الحماسة التي أبداها دستوريّو القرن العشرين، – مثالٌ آخر هو في تراجع الإستفتاء وسيلة ناجزة ديموقراطياً و”البركسيت” خير دليل على سوء استعماله – ، فإن طرح النسبية حلاً لمستعصيات التمثيل الصحيح في المجتمعات الديموقراطية تراجع في الفقه الدستوري الأقرب. القرن الحادي والعشرون لا يعوّل على أفضلية النسبية مسترسلةً، يعني أنه قد يكون قانون الإنتخاب النسبي جيداً أم لا بحسب التركيبة الإجتماعية – أي الطائفية في لبنان – ، وأهم من ذلك، بحسب التركيبة السياسية، أي بشكل خاص وجود أو عدم وجود أحزاب لاطائفية على امتداد الوطن. القانون الإنتخابي النسبي أفضل في وجود مثل هذه الأحزاب، أي في وجود أحزاب وطنية جامعة. أما في غيابها، فالتشرذم الوطني، ما يعرف أيضاً بالبيزنطيّة السياسية، يزيد شأناً في ظل القانون النسبي. ولا أدخل في تفاصيل متشعبة ذاق أمرّيها من عَملِ، كما في لجنة المرحوم فؤاد بطرس، على فكّ طلاسمها وعِقَدها.
إنمّا ما لا شك فيه دستورياً هو ضرورة إقرار قانون انتخابي ثابت في أسرع وقت ممكن، ليتمكن السياسي (أي المرشح) والمواطن (أي الناخب) على السواء الإطلاع عليه، وبناء خياره واستراتيجيته حتى يوم الإنتخاب على أساسه، وليس بمفاجأة اللحظة الأخيرة والقلق والاضطراب الملازمين للتساؤل عن أفضل القوانين الانتخابية الى أبد الآبدين.
أختصر الحديث الدستوري الدارئ للتعطيل ختاماً:
لدينا رئاسة جديدة أنهت فراغاً مزمناً. هي مشوبة بأسئلة شتى حول صحّة استفادة الرئيس من موقف لادستوري معطل على امتداد 29 شهراً. هذا لا يمنع أن المعالجة تكون اليوم دستورياً بالتركيز على الأداء الذي يقوم به الرئيس، وهو واسع الأرجاء لأنه حامي الدستور ومؤتمن عليه.
بديهي القول أن الدستور يحمي الحرية، ويحمي من ينتقد الزعماء السياسيين كافة بما هم مسؤولون سياسياً في الوطن، وبالأخص رئيس الجمهورية لصدارة الأمانة الدستورية في شخصه. هذا تحصيل ما يجب أن يحصل، ومهمّ جداً ألا يتراجع عالم الحريات في تميّز لبنان عن محيطه بتعاملٍ قامع لحريات الصحافي والمدوّن والخطيب متى تناول مسؤولين في السلطة، أكانوا موظفين أو نواب أو رؤساء. متى برِم المسؤول الذي ضاق نفساً من النقد والانتقاد، ولو كان هذا النقد مبالغاً به، واقتص من نقاده، انهار العهد المسؤول وانهار البلد دستورياً.
إضافة لهذا التحصيل الحاصل، ومن باب الملحّ اليوم في تركيزنا على مرجعية الدستور رفضاً للتعطيل، تداهِمُنا مناسبتان لا بدّ من معالجتهما المباشرة: منظومة حكومية تُطرح على الثقة في غضون أيام وليس أسابيع، وقانون انتخابي يقر في غضون أسابيع وليس أشهر.
متى نجح الرئيس ميشال عون في هذين الإمتحانين الدستوريين يكون الناس معه في دستور يُسهِّل العيش على المواطن، وتكون حركة “لبنان الإنسان” أول الداعمين لعمله، ومجابهةً لمن يعترض على السياق الدستوري الذي يرى التعطيل سبيلاً مخالفاً للحياة العامة المحكومة بالدستور.
وهكذا في جميع المواضيع التي تطرح كلّ يوم على الرئاسة: متى يُحترم الدستور في روحه نَدعم، ومتى يُنتهك أو يُوهن نتحفّظ ونعارض.
محامٍ وأستاذ في القانون
¶ شبلي ملاّط عضو مؤسس في كل من “رابطة أصدقاء كمال جنبلاط” و”حركة لبنان الإنسان”