اجتثاث الأحزاب التابعة لإيران
كافي علي/العرب/24 كانون الأول/16
لا نعرف إن كانت هناك جهة رسمية أو إنسانية أحصت مساحة المقابر في العراق وعدد جثثها بين عامي 2003 و2016.
إذا كان من الصعب إجراء تعداد سكاني للأحياء في هذا البلد بسبب الظروف الأمنية غير المستقرة، فإن إحصاء الأموات سهل ويعطي تصورا واقعيا عما يجري فيه.
فرغم الانقسامات الطائفية في ظل حكومات محاصصة تزكيها المرجعية الشيعية، تمكن الموت من تطبيق الديمقراطية الأميركية، وحصد الأرواح بعدالة لا تفرق بين طوائفه وقومياته.
منذ تأسيس الدولة العراقية الحديثة عرف عن الأحزاب أنها تستولي على السلطة بانقلابات وثورات عسكرية محلية، فقط الأحزاب التابعة لإيران، وفي مقدمتها حزب الدعوة، تمكنت من السلطة باحتلال أميركي ووصاية طائفية من المراجع الشيعية.
لم يتمكن الحزب الشيوعي من الاحتفاظ بالسلطة طويلا، لكن حزب البعث شد قبضته عليها لأكثر من ثلاثة عقود. والبعث حزب قومي عربي في بلد 80 بالمئة من شعبه عرب، حزب يحكم بصبغة قومية تحافظ على حقوق باقي القوميات وفق مبدأ المواطنة.
في دولة مدنية بسلطة بعثية كان للمواطن قانون ينظم حياته ويحافظ على أمنه وسلامته، ونظام تعليمي وصحي مجاني، بالإضافة إلى أُسلوب معيشي اشتراكي يجعل من أصحاب الدخل المتوسط الطبقة السائدة في البلد.
في حكم البعث مطلوب من العراقي أن يجتهد ويتعلم ليحصل على تسهيلات حكومية تضمن له وظيفة وبيتا وسيارة ومبلغا بسيطا في البنك للتوفير والترفيه.
لكن كل ذلك مشروط بالبقاء بعيدا عن السلطة، وتأييد الحزب وعدم الاعتراض على سياساته. وعند عدم الالتزام بالشرط، يكون المعتقل والتعذيب والقتل جزاء المتمرد.
وبالفعل كانت جدران السجون تكتم صرخات المعذبين، بينما الحياة خارج السجن مستمرة، أي في الوقت نفسه الذي يعتقل فيه نظام البعث عشرة من معارضيه، كان هناك جسر يُعمر وبناية ترتفع، بالإضافة إلى عراقي مؤيد، يحلق في سماء بغداد في رحلة سياحية.
نعم، عندما اغتصب صدام حسين السلطة من سلفه أحمد البكر، انقلب السحر على الساحر، وطبق صدام مبدأ الحزب في التعامل مع معارضيه من البعثيين أنفسهم.
فالبعثي المعارض لسياسته الدكتاتورية، لا يُعتقل ويُعذب ويُقتل فقط، وإنما يتلاشى من الوجود، تلفق ضده وضد عائلته وقبيلته الحكايات، حتى يظل الْخِزْي والعار يطاردانه إلى ما شاء الله، أما منْ يخضع لسلطته وحده لا شريك له فيحصل على المناصب والامتيازات.
ربما مثل صدام حسين مؤامرة على حزب البعث، كما يمثل البغدادي مؤامرة على الإسلام السني، وربما هو شخصية سايكوباتية تفردت بالسلطة وانتقلت بها من حكم الحزب إلى حكم القبيلة، لكن في كل الأحوال كانت حياة المواطن أفضل مما هي عليه اليوم، حتى صار الناس يطلقون على تلك المرحلة “الزمن الجميل”.
ماذا فعلت الأحزاب التابعة لإيران في الناس؟ وكيف جعلت العراقي يرى الجمال في نظام دكتاتوري قمعي، ويفضله على ديمقراطية حصل عليها باحتلال ونزيف دم لم ينقطع بعد؟
لقد دمرت الأحزاب الإسلامية الدولة ومؤسساتها.
حزب البعث واضطهدت العدد الهائل من منتسبيه؛ أساتذة جامعات وموظفون أصحاب مؤهلات مهنية وأكاديمية صاروا عاطلين عن العمل لأنهم بعثيون، مثقفون وفنانون نبت إبداعهم وتأصل في الفن والثقافة العراقية حياتهم مهددة بالخطر، بالتنسيق مع مراجع شيعية أقصت الكتل والأحزاب التي تنافسها على السلطة، فمثلا رغم تاريخ الحزب الشيوعي العراقي المخضب بعذابات السجون وجحيم المنافي، فإنها هاجمته بتهمة العلمانية والإلحاد.
حلت الجيش العراقي العريق وجميع المؤسسات الأمنية، وبهذا الفعل لم تفتح الحدود للإرهاب والعصابات فقط، وإنما أجبرت كوادرها على الانخراط في الإرهاب والجريمة بسبب الشعور بالظلم والبحث عن لقمة العيش.
الأحزاب الإسلامية التابعة لإيران أشرفت على كتابة دستور يسمح بتمزيق البلد إلى طوائف وقوميات تتنازع على السلطة.
استغلت سلطتها في نخر الدولة وتمزيقها للانتقال بها من المدنية إلى حكم ولاية الفقيه.
تبنت، اقتصاديا وثقافيا وعسكريا، مشروعا طائفيا يسعى إلى زعزعة أمن واستقرار الدول العربية وتغيير نظام الحكم فيها.
وفرت غطاء قانونيا وحماية طائفية للمرتشين واللصوص والفاسدين.
صنفت الشعب بين سني إرهابي وشيعي خادم وموال.
منحت القيادات الكردية المكاسب والامتيازات لدعم سياستها وترسيخ حكمها، ثم دخلت معها في أزمات عندما عارضتها.
بعد كل ما تقدم ومعه الكثير الكثير، هل حان الوقت لاجتثاث الأحزاب الإسلامية التابعة لإيران؟
باستدعاء الأسباب نفسها التي بررت للحاكم المدني الأميركي بول بريمر اجتثاث حزب البعث، ومقارنتها بما فعلته الأحزاب الإسلامية التابعة لإيران بالعراق وشعبه، نجد أن الشعب العراقي قد تأخر كثيرا باتخاذ مثل هكذا قرار
كاتب وإعلامي تونسي يقول “الحل في العراق لا يمكن أن ينبع من أحزاب دينية أيا كانت طائفتها، الحل في أحزاب مدنية وطنية تسعى لتأصيل أشكال التنظم الحديثة وترتقي عن كل الأشكال التقليدية (الدين والطائفة والعشيرة والمذهب..)، لتبقى تلك الانتماءات شخصية وفردية”.
في واقع يختنق بأحزاب تزكيها مرجعية دينية، واقتصادها قائم على السرقة والفساد، وقوتها مستمدة من فيلق القدس الإيراني، هل من الممكن اجتثاثها؟
رغم كل السوداوية المحيطة بِنا، أرى جيلا عراقيا يمتلك أهم مقومات التغيير، وهو التمرد على الولاء التقليدي للموروث الديني. لكنه تمرد بلا قيادة مقنعة تحتويه وتقوده بالاتجاه الصحيح. المثقفون الوطنيون بحاجة إلى جهد استثنائي لتهديم الأصنام وأسوار المعابد، الناس بحاجة إلى سياسيين وطنيين لقيادتهم.
المثقف لا يصلح لأن يكون سياسيا لأن الثقافة بحد ذاتها تمرد، والسياسة فن وإبداع الإدارة والاحتواء.
الانتخابات القادمة هي الفرصة الأخيرة للعراق وشعبه. إذا لم يحدث تغيير جذري في السياسة وإدارة البلد، سيفقد الناس ثقتهم بالمثقف والسياسي، وسيدفنوا العراق بأيديهم.