أزمة “الميثاقيّة”
الـيـاس الزغـبـي
لبنان الآن/07 تشرين الثاني/15
أسوأ ما أصاب لبنان في الآونة الأخيرة هو إيصال أزمته السياسيّة إلى المسّ بقدس أقداسه ومعنى وجوده، أي ما يُعرف بـ”الميثاق” التاريخي، الذي رعى قيامه كدولة وأرسى قانونيه الأوّلين، الدستور و”الصيغة”. وقد اتّخذ “الميثاق” إسماً متقدّماً قبل اتفاق الطائف وفيه وبعده هو “العيش المشترك”، وشكّل صمّام الأمان لاستمرار مرافق الدولة، حتّى في أحلك مراحل الحرب وسلطة الوصاية والاحتلال. ولم يكن هناك أيّ خلاف على جوهره وفكرته الخلاّقة التي شكّلت نموذجاً للشرق، سابقاً وراهناً، وبدأت تشكّل نموذجاً صالحاً للغرب وسائر العالم المتنوّع، لاحقاً. وتكمن الخطورة الآن في تحويل فكرة “الميثاق” و”العيش المشترك” من صيغة حياة إلى وجهة نظر. فهي ساقطة بانسحاب المكوّن الشيعي من حكومة الرئيس فؤاد السنيورة الأولى، وصامدة برغم تغييب المكوّن السنّي الأساسي في حكومة نجيب ميقاتي الثانية، ومضمونة برغم غياب المكوّن المسيحي أو نواته الصلبة في جلسة “تشريع الضرورة”. فضلاً عن البحث الحائر والمزمن عن تفسير الشراكة والميثاقيّة في قرارات مجلس الوزراء مع خلوّ سدّة الرئاسة الأولى. ولم يتردّد “فاخوري” الجلسة العتيدة الأسبوع المقبل، الرئيس نبيه برّي، في ابتداع توصيف جديد للميثاقيّة هو “خير الوطن والمواطن”. ولا يحدّد هذا التعريف الفضفاض أين يبدأ هذا “الخير” وأين ينتهي، ومن هي الجهة المخوّلة جدولة أولويّات خيره وإدراج هذه وحذف تلك. ولم يستطع الرئيس برّي، مع سائر المتحمّسين لـ”تشريع الضرورة”، تبرير إسقاط قانون الانتخاب من الجدول، إلاّ بأسباب شكليّة مثل كثرة المشاريع المطروحة وعدم التوافق المسبق على أحدها.
ولكنّ الواقع غير ذلك تماماً: فالمشاريع الجديّة ليست أكثر من ثلاثة، أوّلها مشروع برّي نفسه، والمشروع الثلاثي المشترك بين “الاشتراكي” و”المستقبل” و”القوّات”، والمشروع التي قدّمته حكومة ميقاتي – “حزب الله”. وليس هناك أفضل من هذه المرحلة الانتقاليّة لإنتاج قانون انتخاب جديد، فيتم كسب الوقت في فترة الفراغ الرئاسي الضائعة، ويكون القانون جاهزاً بعد انتخاب الرئيس وتشكيل حكومة جديدة، فتُجرى الانتخابات ويُعاد تكوين السلطة بسرعة تعوّض ما فات. إذا صدقت نيّات القادة السياسيّين يُقدمون على تشريع قانون الانتخاب جنباً إلى جنب مع تشريع الضرورات الأخرى من ماليّة وإداريّة وسياسيّة. وإذّذاك يُنقذون “الميثاقيّة” في شقّها الأوّل، ويُكملون الشقّ الثاني بملء الكرسي الشاغر في بعبدا. فما المانع من التصويت على الأمرين في الجلسة؟ ولا يخفى أنّ نقطة ضعف “الموقف المسيحي” تكمن في التناقض لدى طرف أساسي بين شرط إدراج قانون الانتخاب وتعطيل الرئاسة الأولى في الوقت نفسه.
وتزداد هشاشة هذا الموقف في حال تراجع هذا الطرف عن شرطه بحجّة حصوله على مطلبين آخرين، هما استعادة الجنسيّة وإعادة أموال البلديّات. وفي هذا التراجع عند حصوله تظهر بصمات “حزب الله” بوضوح، على حساب التفاهمات الأُخرى و”أوراق النيّات”. وكلّ هذه المواجهة “الميثاقيّة” تحتاج إلى لياقة قياديّة عالية وحسن إدارة واعية، لئلاّ تتحوّل إلى تهمة للمسيحيّين بتعطيل الدولة، وقد بدأت طلائع هذا الترويج بالظهور كوسيلة للتهويل والضغط. أمام القيادات المسيحيّة فرصة أيّام معدودة كي يُنقذوا قيم “الميثاق” و”العيش المشترك” و”الشراكة” من الانحراف في تفسيرها، فلا تكون على قياس مصالح سياسيّة ومكاسب شخصيّة وخاضعة لاسترضاءات ومساومات، بل تستعيد جوهرها في تكريس النموذج الانساني والسياسي والوطني الصالح للبنان وسواه. وإنقاذ الميثاقيّة الصحيحة يبدأ من إعادة التوازن المضروب الآن بين السلطات بفعل تغييب موقع رئاسة الجمهوريّة. فإذا كان بعض القيادات المسيحيّة يريد فعلاً استعادة الشراكة الحقّة، عليه أن يعمل لتحقيق التلازم بين خطّين: إنتخاب رئيس وقانون انتخاب. فلا “ميثاق” بدون رئيس. ولا تكوين سلطة بدون انتخابات. هنا يكمن سرّ استرجاع “الميثاقيّة” وتخليصها من التوصيفات والتفسيرات الطارئة. وما سوى ذلك، مجرّد لعبة سياسيّة تقليديّة، وتوزيع حصص، ومزيد من الانحدار