التحالف الروسي – الإيراني في سورية وتخاذل الغرب
عبدالعزيز التويجري/الحياة/18 أيلول/15
منذ بداية ثورة الشعب السوري على ديكتاتورية النظام الطائفي، الذي جثم على صدره أكثر من أربعين عاماً، وقفت روسيا وإيران بكل إمكاناتهما إلى جانب هذا النظام، حيث تم تزويده بالمال والسلاح والخبراء العسكريين والمقاتلين من إيران وحزب الله اللبناني وغيرهما. ودخل النظام العراقي الذي تهيمن عليه إيران، في هذه المؤازرة مقدماً هو أيضاً دعماً مالياً كبيراً، ومرسلاً الميليشيات الطائفية مثل عصائب أهل الحق ولواء أبي الفضل العباس للقتال مع جنود النظام، وفاتحاً مجاله الجوي للطائرات الإيرانية لتمدّ النظام بما يحتاجه من عتاد ومقاتلين. وأمام هذا التدخل السافر من روسيا وإيران والعراق إلى جانب النظام في سورية، وقفت الدول الغربية موقفاً ضعيفاً ومخادعاً، ما أتاح له أن يواصل قتل شعبه وتدمير مدن وقرى سورية، واستخدام الأسلحة المحرّمة دولياً من دون عقاب أو عتاب. ولم يقف الأمر عند هذا الحدّ، بل أصرّت روسيا على منع إصدار أي قرار من مجلس الأمن الدولي يدين النظام السوري ويسمح بمعاقبته، مستخدمةً حق النقض مراراً.
بفضل هذا الدعم السياسي والعسكري والمالي غير المحدود، استمرت معاناة الشعب السوري، وزادت أعداد القتلى والجرحى والمهجرين، وتفاقم حجم الدمار الذي لحق بالمدن والقرى وطاول الآثار والمعالم الحضارية والمساجد، حيث بلغ عدد القتلى أكثر من 400 ألف كثير منهم أطفال ونساء وشيوخ، وعدد المهجرين واللاجئين أكثر من 10 ملايين تتوزّعهم مخيمات وبلدان مختلفة، ويغرق كثر منهم في مياه البحر المتوسط في مشهد محزن رهيب. وفي خضم مأساة الشعب السوري، ظهرت تنظيمات إرهابية مشبوهة المنشأ، كـ «داعش» الذي صرف أنظار العالم عن جرائم النظام الطائفي بجرائمه البشعة، والذي وجّه نيرانه إلى فصائل الثوار السوريين فأضعف قوتهم ومزّق صفوفهم، وكأنه صُنع لقتالهم وليس لقتال النظام ومن يدعمه. بل إنه عمل على استهداف دول خليجية ففجٰر فيها المساجد وقتل الأبرياء وأعلن مراراً أن هدفه أبعد من العراق وسورية.
واليوم، تكشف روسيا ما تبقّى من أقنعة عن وجهها، فترسل طائراتها العسكرية وبوارجها حاملة أنواعاً جديدة من الأسلحة الفتاكة وجنوداً وخبراء عسكريين، وتبدأ في إنشاء قاعدة جوية في مطار حميميم في اللاذقية، بل وتعلن إصرارها على بقاء رئيس تلطّخت يداه بدماء مئات الآلاف من أبناء الشعب السوري، وارتكب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، في تحدٍّ سافر للقانون الدولي والقيم والمبادئ الإنسانية.
أما ردة فعل أميركا وحلفائها الغربيين تجاه هذه التطورات الخطيرة والمنازلة الروسية المتحدية، فلم تتجاوز عبارات التحذير من خطورة الموقف والتبشير بفشل روسيا في ما أقدمت عليه. ويبدو أن حرص الرئيس أوباما وحلفائه على إتمام الاتفاق النووي مع إيران الذي عملوا على إنجازه وقتاً طويلاً، هو الذي يجعل موقفهم من التطورات الجديدة في سورية ضعيفاً وغير متكافئ مع خطورة الوضع وما ستؤول إليه الأمور لاحقاً. فروسيا حريصة على التمسّك بنفوذها في سورية، الذي استثمرت فيه أموالاً طائلة ولن تتنازل عنه. وإيران تستغل حاجة الغرب إلى أموالها وأسواقها ومشروعاتها المغرية، فتعمد إلى المناورة بجانب روسيا، حليفتها في دعم نظام الأسد، لتفرضا رؤية النظام بأنّ ما يجري في سورية هو حرب على الإرهاب، وأن نظام الأسد هو الأقدر على مواجهة هذا الإرهاب. وهذه خدعة كبيرة تم الترويج لها بكل خبث، فالتنظيمات الإرهابية لم تظهر في المشهد السوري إلا بعد أن كادت قوى الثورة السورية أن تسقط النظام القمعي الديكتاتوري، لذلك فظهورها في ذلك الوقت كان أمراً مشبوهاً، كما أن بقاءها وتمدّدها حتى الآن أمر مشبوه.
ومهما يكن من أمر، فالانغماس الروسي في المستنقع السوري ستكون له نتائج عكسية على المديين القريب والبعيد، لأنه سيستفزّ أعداداً كبيرة من المسلمين المؤيدين لثورة الشعب السوري والمتعاطفين معه في مأساته المستمرة، الذين سيرون في هذا الانغماس احتلالاً روسياً لبلد مسلم كما كان الأمر في أفغانستان من قبل، ما سيدفع أعداداً كبيرة منهم إلى الانضمام إلى التنظيمات المقاتلة في سورية على اختلاف أشكالها. وستصبح المنطقة ساحة لصراعات أكبر وأكثر خطورة تهدّد السلم والأمن الدوليين، وربما تقود في وقت لاحق إلى مواجهة روسية – غربية عندما يأتي إلى البيت الأبيض جورج بوش جديد.وفي كل الأحوال، فإن الخاسر الأكبر في هذه المأساة هو الشعب السوري الذي فقد وطنه وشُرّد في أنحاء الأرض، والعرب الذين بضعفهم وتفكّكهم سمحوا لإيران وروسيا بأن تغزوا عدداً من بلدانهم، وأن يكون لهما قولٌ في شؤونهم. فهم اليوم كالأيتام على مأدبة اللئام.
لماذا يؤيد أوباما بقاء الأسد؟!
سليم نصار/الحياة/18 أيلول/15
< أعلنت المفوضية الأوروبية لشؤون الهجرة أن أزمة اللاجئين إلى الدول الغربية تعتبر من أخطر الأزمات التي يواجهها المجتمع الدولي منذ الحرب العالمية الثانية. ويرى المؤرخون أن انفصال باكستان عن الهند سنة 1947، أدى إلى تهجير عشرة ملايين نسمة من مواطني الدولتين المنشقتين. لذلك، تبارى الأدباء في إصدار عشرات الكتب التي تعبِّر عن حالات اليأس والإحباط والضياع وكل ما رافق ذلك الحدث المرير من مآس أفرزها الانشطار الدموي! إضافة إلى النكبات الناجمة عن الحروب الأهلية، والنزاعات المحلية الطاحنة، فإن العوامل الطبيعية كثيراً ما تفرض الهجرة على سكان شعب مسالم يعتمد على الزراعة في تأمين معيشته. مثل ذلك، أن هجرة أكثر من مليوني إرلندي إلى الولايات المتحدة كانت بسبب القحط الذي أصاب زراعة البطاطا والفاصوليا، الأمر الذي دفع المواطنين إلى الهجرة القسرية (1845). المراجعة الموضوعية لأعمال التهجير تؤكد أن ما أحدثته انتفاضة شبان «درعا»، منتصف آذار (مارس) 2011، لم تحدثه انتفاضات «الربيع العربي» في تونس ومصر وليبيا. أي أن موجات النزوح الجماعي بقيت محصورة داخل حدود البلدان الثلاثة. في حين تدفقت الهجرة السورية خلال المرحلة الأولى من الحرب الأهلية لتغمر بشيوخها ونسائها وأطفالها الحدود التركية والأردنية واللبنانية.
يدّعي زعماء أحزاب المعارضة في سورية أن الرئيس بشار الأسد تصرف بقسوة ضد شبان «درعا» وذويهم، إضافة إلى شيوخ العشائر فيها. ولما اتسعت حلقة التمرد والعصيان، وانتشرت في المدن الكبرى مثل حمص وحلب، أمر بنزول الجيش لمقاومة ما وصفه بـ «الإرهابيين الذين ينفذون إرادات خارجية». وكما تصدى والده لقمع اضطرابات مدينة حماة سنة 1982 التي نفذها شباب «الإخوان المسلمين»… كذلك تصدى نجله لحركات المعارضة المسلحة التي بدأت في درعا وحمص، ثم امتدت إلى حلب ودمشق. المهم، أن حصيلة الصدامات الأولى دفعت بالآلاف من المدنيين المحايدين إلى الهرب باتجاه الأردن وتركيا ولبنان والعراق ومصر. ويبدو أن الحكومة الأردنية كانت تتوقع حدوث اختراقات لحدودها مع سورية، بدليل أنها حصرت اللاجئين في منطقة معينة حيث أقامت «مخيم الزعتري». وأعلنت عمّان حتى الآن استقبال أكثر من مليون ومئتي ألف لاجئ.
أما تركيا فقد استقبلت دفقاً من اللاجئين الذين نزحوا إليها من مدينة حلب وريفها ومناطق الشمال السوري. واختارت الحكومة لإيوائهم مخيمات أبرزها «غازي عنتاب». وانتشر آخرون في المدن بحثاً عن عمل ويقدَّر العدد الإجمالي بحوالى مليونين ومئتي ألف. ولأسباب غير واضحة الأهداف، تقاطر على لبنان عبر حدوده الممتدة مع سورية أكثر من مليون ونصف المليون نازح، توزعوا على مختلف المحافظات. وبما أن الدولة عجزت عن تأمين المخيمات اللازمة لهم، فقد جرت عملية استيعابهم بطريقة عشوائية سمحت لهم بحرية منافسة المواطنين اللبنانيين في مجال الخدمات. وربما أسعفهم القبول بأجور مخفضة على إيجاد فرص عمل بسهولة غير معهودة. وكان من الطبيعي أن تصدر عن جماعة 8 آذار تفاسير مختلفة تتعلق بالإهمال الذي تعاطت به الدولة مع موضوع تنظيم هذه الأعداد الضخمة من النازحين. وهي أعداد ستشكل في المستقبل الغالبية الشعبية لرجحان كفة التوازن القائم على توزيع المكاسب والمناصب، خصوصاً إذا بقيت مسألة اللجوء والنزوح من دون حل. والمؤكد أنها ستواجه أفقاً مسدوداً، إذا ما استمرت الحكومة السورية في تصلبها حيال معارضة كل الحلول المطروحة لإعادة حوالى خمسة ملايين لاجئ فرّوا في جهات مختلفة.
قبل سنتين تقريباً قام وزير الشؤون الاجتماعية اللبنانية رشيد درباس بزيارة خاصة لمخيم الزعتري في الأردن. ورافقه المسؤول عن إدارة المخيم في جولة شملت كل الأقسام المتعلقة بالبرامج اليومية. وأطلعه على النظام الداخلي لسير العمل، مؤكداً له أن الحكومة وضعت مطالب اللاجئين في مقدم اهتماماتها. وأخبره أيضاً بأن إدارة المخيم تحتفظ بقائمة تضم أسماء الموجودين، مع نبذة عن سيرة حياة كل لاجئ أثناء وجوده في سورية. وبسبب انتشار النازحين، وتمددهم في مناطق متباعدة مثل البقاع والجنوب والشمال، كان من الصعب استيعابهم في مخيم ضخم واحد شبيه بمخيم «الزعتري» في الأردن.
وفي حديث مسهب أجراه وزير الخارجية جبران باسيل، لمح إلى هذه المشكلة بالقول: أن الحكومة اللبنانية امتنعت عن إقامة مخيمات للنازحين السوريين خشية تكرار تجربة المخيمات الفلسطينية. وقال في هذا السياق أيضاً: «إن لبنان يستضيف فوق أرضه الضيقة مئتي نازح ولاجئ ضمن الكيلومتر المربع. وهذا الرقم يشكل ما نسبته أربعين في المئة من عدد سكان لبنان». لهذه الأسباب وسواها، رأى المولجون بمعالجة هذه المشكلة المعقدة أن آفاق الحل مسدودة بسبب تنوع الأزمة وتشعبها. لذلك، لجأت الحكومة إلى اعتماد بعض القوانين الردعية المتعلقة بضبط الحدود، أي القوانين التي تقيّد حركة الدخول من سورية إلى لبنان. وقد اضطرت في هذا المجال إلى اعتماد الأرقام الرسمية المسجلة لدى المفوضية العليا للاجئين، والتي وصلت مطلع هذه السنة إلى مليون ومئتي ألف نازح سوري. بين مشاريع الحل التي اقترحها فريق خبراء من المتبرعين، كان مشروع إقامة مخيمَيْن ضخمين، الأول عند آخر الحدود اللبنانية من جهة «المصنع»… والثاني، بعد مخيم نهر البارد في منطقة الشمال. والغاية من هذا المشروع الواسع تحقيق هدفين أساسيين: الأول، إشعار النازحين السوريين بأن وجودهم على الأراضي اللبنانية هو وجود موقت… وبأنه لا يجوز تجريدهم من الانتماء الوطني والهوية المحلية.
والثاني، خلق أجواء انفراج يشعرون فيها بالاستعداد الدائم للانتقال إلى الفضاء السوري في حال تقررت إقامة منطقة آمنة على حدود حلب المحاذية لتركيا… أو في حال سمحت الظروف الأمنية لنقل النازحين إلى مدنهم وقراهم من أجل المساهمة في إعادة الإعمار. عقب إعداد المشروع بكامل تفاصيله وتصاميمه، أرسِلَت نسخة منه إلى دمشق بغرض موافقة السلطات المعنية. وجاء الجواب سلبياً مع إيضاح لموقف الدولة السورية، خلاصته أن كل مواطن يغادر البلاد من دون إذن شرعي من دائرة الأمن العام لا يُسمَح له بالعودة. وذكِرَ في حينه أن «حزب الله» رفض وجود تجمعات سكانية سورية سنيّة فوق الأراضي اللبنانية، قد تتحول إلى سند وعضد لسنّة لبنان، تماماً مثلما تحولت مخيمات المقاومة الفلسطينية إلى سند لميليشيا إبراهيم قليلات في الحرب اللبنانية (المرابطون). وكان واضحاً من طبيعة جواب الرفض أن ملايين العناصر السنيّة التي لجأت إلى الأردن وتركيا ولبنان هرباً من القصف وصواريخ «سكاد» وبراميل المتفجرات والسلاح الكيماوي والمجازر المتنقلة… هذه الملايين تم تهجيرها عن سابق تصور وتصميم بهدف تفريغ مناطق سورية معينة من المواطنين السنّة. والحجّة كما أعلنها النظام أن قسماً كبيراً من هذه الطائفة يدعم المتمردين مثل داعش وجبهة النصرة (القاعدة) وجيش الإسلام وأحرار الشام والجيش السوري الحر، إضافة إلى فصائل كردية وتركمانية. وتدّعي المعارضة السورية أن الهدف غير المعلن من وراء معاقبة السكان السنّة، ينحصر في دفعهم إلى إحداث فراغ سكاني، ومنعهم من إقامة سلطة بديلة مكانهم.
وفسرت العواصم العربية والغربية هذا التصرف بأنه ناتج عن تفكير الرئيس بشار الأسد بإحياء الدولة العلوية التي أنشأتها فرنسا المنتدبة، إلى جانب دولة دمشق ودولة حلب ودولة الدروز… وكانت معاهدة سان – ريمو (1920) قد وضعت سورية تحت الانتداب الفرنسي الذي ألغى سنة 1925 الاتحاد السوري، وأحلَّ محله دولة سورية مؤلفة من مقاطعتي دمشق وحلب، إضافة إلى منطقتي العلويين وجبل الدروز. والثابت تاريخياً، أن دولة العلويين لم تتحول إلى دولة مستقلة، بدليل أنها لم تكن تملك مصرفاً مركزياً مستقلاً، ولا دائرة جمارك لجمع العائدات. وسقط المشروع الفرنسي بفعل معارضة السياسيين السوريين في هذه «الدول» الناشئة. الوقائع التي قادت إلى هذا الاستنتاج تشكلت من كثرة إهتمام النظام السوري بالحفاظ على أمن اللاذقية، والسماح للأسطول الروسي بالمرابضة في مينائها.
وتزعم الصحف الغربية أن الأسد بدأ يفكر منذ سنتين بالخيار الذي تبناه عمّه رفعت حول إقامة دولة علوية مستقلة. والسبب أن قواته فقدت قدرة الاحتفاظ بالخط الذي يربط العاصمة دمشق باللاذقية عبر بلدتي يبرود والسلمية. ويُقال أن تحرير «القصير» بواسطة «حزب الله» كان بطلب شخصي من بشار الأسد، من أجل الحفاظ على الخط الوهمي للدولة المرتقبة! بقي السؤال الكبير المتعلق بمستقبل خمسة ملايين نازح ولاجئ سوري تتقاسم عملية استيعابهم دول أوروبية عدة، إضافة إلى الأردن ولبنان وتركيا! الحكومة الفرنسية تنتقد موقف الولايات المتحدة التي اشتركت بقصف «داعش» فقط، وتمنعت عن قصف النظام السوري. وهي تفسر هذا التصرف بأنه ناتج من تحاشي إغضاب إيران بسبب الحفاظ على سلامة الاتفاق النووي. وترى الحكومة الفرنسية أيضاً أن اللاجئين سيستمرون في التدفق من سورية إلى أوروبا ما دامت قوات الأسد تواصل غاراتها على الأماكن الآهلة بالسكان المحايدين الذين لا يملكون ثمن تذكرة سفر بالمراكب المطاطية! أما بالنسبة إلى مستقبل النازحين في لبنان، فإن الدولة يجب أن تهتم بمساعدتهم وإعانتهم ولو لفترة سنة، يمكن بعد ذلك أن تجد الحل في نهاية عهد الرئيس باراك أوباما. وأعطت الزيارة التي قام بها رئيس وزراء بريطانيا، ديفيد كاميرون، بعض الأمل لمنتظري الحل الخارجي. ولكن حقيقة الأمر تكشف عن اهتمام كاميرون بحل مشكلته في بلاده، حيث تعالت أصوات المتظاهرين ضده. لذلك، وعد الحكومة اللبنانية باستضافة 20 ألف لاجئ خلال السنوات الخمس المقبلة، أي إلى سنة 2020. وربما يجيء من بعده رئيس وزراء آخر يلغي هذا التعهد… أو يساعد على إيجاد حل داخل سورية لا داخل لبنان!
القيصر يتهيّأ لخطوة أوسطيّة
الياس الديري/النهار/19 أيلول 2015
من حظ لبنان، والعالم العربي بصورة عامة و”قضيّة العرب الأولى” بصورة خاصّة، وسواقي الدم التي تروي أنقاض المدن التاريخيّة، أن يصير في المنطقة موطئ قدم للوجود الروسي، موطئ بارجة، موطئ قاذفة، أو موطئ قاعدة بيرق. بل، من حظّ الشرق الأوسط البائس، المبعثر، الدائم التعثّر، أن يُتاح للروسيا العظمى مجال الإقامة في ربوعه، بكل ما تمثّله من قيم وتقاليد عريقة. عندئذ، فقط، يصير في الإمكان التصريح براحة بال وطمأنينة أن لبنان يسند ظهره إلى دولة كبرى، مستقيمة في أقوالها وأفعالها، تحترم نفسها والآخرين، تحترم صداقاتها وعلاقاتها ووعودها وتواقيعها. تماماً عكس كل ما تمثّله أميركا من لا ثقة، ولا صدقيّة، ولا صداقة، ولا التزام، ولا أمان لوعد أو موعود، ولا وفاء لاتفاق. الروسيا في الشرق الأوسط؟ إذاً، نقطة أول السطر. عاجلاً أم آجلاً، اليوم أو غداً، الوجود الروسي السياسي والعسكري في هذه المنطقة السائبة في وجه إسرائيل وعدائها وعنصريتها بات ضروريّاً للغاية. في كل حال، لم يعد الكلام في هذا الصدد مجرّد استنتاجات، أو احتمالات تستند إلى القاعدة المتواضعة والراسخة في القدم، التي أتاحتها سوريا في إحدى خاصرات شاطئها لهذه الروسيا، إنما استناداً إلى ما ترجمه القيصر فلاديمير بوتين على أرض الواقع. وحديثاً، من فوّهات المدافع وأجنحة المقاتلات وترسانات الأسلحة الثقيلة براً وبحراً وجواً. ومن منطلق واضح وثابت مفاده أن هذه المنطقة، التي تعيث فيها أميركا وإسرائيل فساداً وتخريباً وتقسيماً وتشويهاً، آن لها أن تُمنح فرصة تلملم خلالها أطلالها، وتعيد صياغة ذاتها على أسس وقواعد جديدة تليق بالعالم العربي، والتاريخ العربي. من الطبيعي أن يغتنم القيصر بوتين فرصة “تيهان” السياسة الأميركية في كل الشرق الأوسط، ليحفر للروسيا أوتوستراداً واسعاً وعميقاً عبر سوريا، وإلى محطات جاهزة في العالم العربي، وحتى إزاء إيران وإسرائيل. يخطئ الإعلام الغربي عندما “يصغّر” حجم الخطوة الروسيّة على الصورة المتواضعة التي رسمتها الجريدة الفرنسيّة الرصينة “الموند”، وحين تعتبر أن بوتين “استغلّ تناقضات السياسة الأميركية ليفاجئ العالم ويعلن تدخله العسكري في سوريا”. فخطوة القيصر لا تقتصر على تدخّل عسكري عابر… وكان الله يحب العابرين. ولا يريد أن يقتصر مشروعه على “حفظ مكان لروسيا مستقبلاً في سوريا”. بل أنه يتطلّع بوضوح وثقة إلى توسيع رقعة وجوده، وامتداد نفوذه في الشرق الأوسط. وسيغنّي بوتين موّاله في التوقيت المناسب، وعندما يصل الرصيد المتبقّي للسياسة الأميركيّة في المنطقة إلى خانة الصفر.