قناعان لوجه واحد!
بول شاوول/المستقبل/19 أيلول/15
قبل شهر تقريباً آتتنا أخبارٌ جلّى، تُفرح القلوب، وتحرك النفوس، وتُلهب المشاعر «الوطنية» وتستوفي شروط المقاومة: ألغى نظام الملالي عبارات سحرية مجبولة بعسل الانفتاح، وممهورة باتفاق التعاون مع الشيطانين: الأصغر اسرائيل، والأكبر اميركا: إذ قرر الغاء جملتين اثيريتين على جوارحه لطالما شنف آذاننا بهما: «الموت لأميركا» و»الموت لإسرائيل» الغى حُكمي الاعدام بهاتين الدولتين. فبشروا شعبنا العظيم بالأيام الزاهية، والعلاقات المزدهرة بالغرب. ولكي يقرن القول بالفعل والعقل باليقين، ملأ هذا النظام جدران طهران وشوارعها بلوحات لكبار الفنانين الغربيين. من بيكاسو إلى ول كلي وماتيس وماغريت…. الخ. فتلونت الحيطان بفن كان ممنوعاً على الشعب الايراني. رائع! دخل النظام الألفي في المجال «الجوي» الحداثي. قلنا والله فَعَل الاتفاق النووي فعله. وما أجمله عندما يتجسد في دروب الابداع. وما أجمل طهران الملالية ترتدي تلك اللوحات وكأنها أثواب فولكلورية جديدة لا عهد لها بها.
هذا شهدناه قبل نحو شهر. لكن، وعلى طريقة لعبة «المفاجأة» الصاعقة في السياق المسرحي. ها هو المرشد الاسمى (جلّ جلاله) يغير رأيه، ويشن هجوماً «مصيرياً» على الشيطانين، وبشر اسرائيل بقرب الأجل متنبئاً برؤيا من رؤى اشعيا: اسرائيل لن تعيش أكثر من 25 سنة! مصيرها الهلاك، والزوال إلى أبد الآبدين: آمين! عال! ومن منا لا يتمنى ذلك، خصوصاً اننا لطالما شنفنا آذاننا بهذه المعزوفة من بعض الأنظمة العربية والمناضلين والمقاومين ان اسرائيل لن تصمد أكثر من ست ساعات امام الجيوش العربية، من دون ان ننسى تلك التصريحات النارية «سنرمي اسرائيل في البحر».
كان ذلك قبل نكسة حزيران 1967 وحتى بعدها عندما قال السيد حسن نصرالله: «اسرائيل أوهن من خيوط العنكبوت».
ونظن انه كلما اقترب العالم، اليوم وأمس من الوقوف ولو بخجل مع حق الفلسطينيين بتقرير مصيرهم، وبدولة مستقلة ترتفع هذه الأصوات الشجية المخملية فتهدد اسرائيل وتنذر بزوالها؛ وهذا ما تنتظره الدولة العبرية: تتهافت عليها المساعدات المالية والعسكرية من كل حدب وصوب. تصريح ببضع كلمات يعيد التفات الغرب المنحاز أصلاً إليها، ليحضنها بدعمه.
هذه البورصة اللفظية لم تقدم ولا تؤخر، رذاذ كلام من فوق، وتواطؤ مع اسرائيل من تحت. هكذا فهمنا تصريحات مرشد الثورة الفارسية، يهاجم العدو بالكلمات ويدمر العالم العربي بالسلاح والارهابيين كأنه يقصد بكلامه عن دنو زوال اسرائيل، العرب والمسلمين الذين يعانون اليوم في فلسطين وبعض البلدان، ما يشبه الخروج من التاريخ. وها هم الاسرائيليون اليوم يقتحمون المسجد الأقصى (وسبق ان عبثوا بالكنائس) ولا من يرد ولا من يدافع. فكأن خامنئي يموه مواقفه لتستمر اسرائيل في عدوانها، وكأن تصريحه «الفارسي» يُعوّم هذا العدوان النازي يستمتع بكلامه ليكمل مخططه: تقسيم المسجد! ونظن ان اسرائيل ليست في حاجة إلى كلام من هنا أو من هنالك لترتكب جرائمها وهي تعرف ان كلام الليل يمحوه النهار. فكيف يمكن أن يستفيق ضمير المرشد ويندد أو يدين اسرائيل، عندما يكون هو واسرائيل وأميركا يتآمرون على العرب والمسلمين وفلسطين؟ غريب! بل كأن إيران تتخذ من الهجوم على اسرائيل ذريعة لتشن حملة شعواء على المسلمين والعرب. وها هو إعلام «الممانعة» و»المقاومة» يلبي بنجابة هذه اللعبة: أين العرب من تدنيس اسرائيل المسجد الأقصى!
أين أنتم أيها الشعوب العربية؟ انتم متآمرون مع العدو! انتم تخليتم عن فلسطين! انتم وانتم… إلى آخر هذه الهجمة الهستيرية التي تحدد علناً وضمناً السعودية ودول الخليج. (طبعاً تبرئ نظام آل الأسد) بمعنى آخر، تكّر على العرب لتفرّ من المواجهة. تحمّل العرب والمسلمين (المقصود السنة) لتتنصل من المسؤولية. تتفرج من بعيد على خراب الأقصى وتدعو العرب إلى تحمل اعبائهم وواجباتهم!
[ التدمير
لكن تتناسى ايران الملالي ان مخططات الاسرائيلي القائم على تدمير الأمة العربية، وتحويلها دويلات وكانتونات، واغراقها بالحروب والفوضى المذهبية والتناحر وتفكيكها هي مخططات الملالي بالذات، ودورها الذي تلعبه مع الشيطانين الأكبرين، وكأنها تحل محل الصهاينة في تنفيذ مؤامراتهم، وسياستهم التوسعية والاستيطانية. فكلام خامنئي و»زغاليله» في لبنان لا يختلف بشيء عما اعتدنا سماعه من أفواه بني اسرائيل. واذا كان العدو يُضمّن كلامه كثيراً من العنصرية فإيران تخوض حرباً عنصرية ضد العرب، باعتبارها من العِرق الفارسي المتفوق. حيث ان المذهبية مجرد قشرة أو ذريعة أو خديعة «حصان طروادة» لتدخل إلى العالم الاسلامي والعربي.
واذا كنّا منذ تفتحت ادراكاتنا نسمع ادبيات الأنظمة والمناضلين والكتاب والمفكرين ان اسرائيل تريد ان تخرب العالم العربي وتحوله جزيئيات متناحرة بنزاعات مذهبية ودويلات لتلغي كل الوشائج التي تربط هذا الشعب، فإن ايران اذا ما قارنا سلوكها وخطابها وعقيدتها، منذ ثورتها نجد انها ورثت وتبنّت كل اهداف اسرائيل وكراهيتها وعنصريتها واحتقارها للعرب. وعندما نسمع الملالي وخطبهم وحقوقهم التاريخية بالخليج العربي تتناهى حقوق اسرائيل الالهية بفلسطين «ارض الميعاد». وعندما نستعرض ما تفعله إيران في لبنان وسوريا والعراق واليمن والبحرين والكويت (مؤخراً) كأننا نستعيد تاريخاً عشناه وعانيناه جيداً: تاريخ اسرائيل منذ نشوء كيانها وحروبها واعتداءاتها وغزواتها!
فإسرائيل غزت لبنان وايران غزته بواسطة مقاومتها بيروت في 7 أيار. اسرائيل تحتل أراضي اربع دول عربية واسرائيل تهيمن على اراض عربية أو تخربها. وعندنا أمثلة ساطعة:
[ أسئلة
[ 1 اعتبار ايران ان سوريا والعراق ولبنان هي ولايات فارسية وكادت تضم اليمن إلى هذه اللائحة لولا تدخل جيوش الائتلاف العربي وصدها كما حدث في البحرين تماماً.
[ 2 ما زالت تحتل الجزر العربية الثلاث: طمب الصغرى وطمب الكبرى وجزيرة ابو موسى باعتبارها جزءاً من اراضيها ومن حقوقها الجغرافية والتاريخية!
[ 3 اسرائيل دمرت لبنان في 1982 وحرب تموز الأخيرة بمؤسساته وجسوره ومدنه وقراه. وها هي ايران تدمر عدة بلدان عربية بميليشياتها أو بحرسها الثوري او بمرتزقتها (حزب الله، الحوثيون، وفلول النظام السوري).
[ 4 اسرائيل هجرت الفلسطينيين من وطنهم وهوّدت الجولان (وها هي تهود المسجد الأقصى) وايران لعبت دوراً أساسياً (مع أميركا واسرائيل) لتهجير السوريين والعراقيين واليمنيين وتفرسن العراق.
[ 5 اسرائيل سعت إلى اقامة كانتونات مذهبية في فترة الحروب السابقة في لبنان وها هي إيران تدشن هذه السياسة التفكيكية بكانتون مذهبي يحتل مساحة كبيرة من لبنان.
[ 6 اسرائيل اعتمدت عامل التنوع الديني في لبنان والعالم العربي لتثير الفتن المذهبية التقسيمية والحروب وايران ورثت هذه اللعبة (الاستعمارية) القديمة لتحول الصراعات من فكرية وسياسية إلى مذهبية: فحيثما وجدت دولة الملالي اشتعلت المذهبية. وكأنها تريد تحويلها وباء لا ينجو أحد منه. وهي وسيلتها (كإسرائيل) لاختراق العالم العربي.
[ 7- إسرائيل حاولت بكل الطرق تدمير الاقتصاد العربي ومقوماته، وآثاره، من البترول إلى كل ما يندرج في وسائله، وها هي إيران دمرت الاقتصاد اللبناني وتدمره بشكل مستديم عبر سياسة التعطيل التي اتبعها حزبها.
[ الفارق بين إيران وإسرائيل
فما الفارق بين إيران وإسرائيل وكلتاهما تعتبر أن العرب والمسلمين أعداء لها، تجب محاربتهم وكسرهم وتحطيم كياناتهم الجغرافية والتاريخية والسياسية. عدو برأسين، وعدوان برأس واحد. ونظن أن استراتيجيتيهما تلتقيان في نقطة واحدة، فالعدو الأول يسعى إلى تحقيق «إسرائيل الكبرى»، والعدو الثاني يسعى إلى تحقيق الهلال المذهبي المموّه. حليفان من موقعين متقابلين؛ بل لعل إيران بدت أشرس على العرب من إسرائيل. فإذا كانت «المقولة» التوراتية أوحت لإسرائيل أنها «شعب الله المختار»، فإيران استوحت من تصدير ثورتها أنها أيضاً «شعب الله المختار»: الأولى أدخلت الأسطورة في لعبة كيانها، والثانية أدخلت هواجسها في لعبة سيطرتها.
فإذا كان العدوان «متمازجين» في لعبتيهما، فمن منهما يختلف عن الآخر، ما دام عدوهما واحداً.
لكن ما عجزت عنه إسرائيل، تمكنت منه إيران، لسبب واحد أن اختراق إسرائيل العالم العربي أضعف حظاً، باعتبار أن الوسيلة الطائفية الدينية غير متوفرة لها، بينما لجأت إيران إلى العنصر الداخلي، أي مكونات الشعب العربي، أي التركيبة المذهبية، تتسلل منها إلى عمق الوشائج، فاختارت الشيعية لتكون حصان طروادة، تماماً كما فعل الاستعمار عندما تبنى العثمانيون السنّة ليكونوا ممرهم، والروس عندما تبنوا الأرثوذكس (باعتبارهم أرثوذكسيين)، والفرنسيون الموارنة باعتبارهم كاثوليكيين، والإنكليز الدروز باعتبار أن بعض أصولهم إنكليزية… وهكذا فعل عرفات عندما وصل الأمر بمؤيديه إلى اعتبار «المقاومة الفلسطينية» جيش المسلمين، ليواجه حافظ الأسد العلوي ذلك بتبني الموارنة في البداية لاستخدامهم في إسقاط تل الزعتر، وإنقاذهم من الهيمنة الفلسطينية: لعبة طائفية مكشوفة، ثم لتأتي إيران بعد ثورتها الدموية التكفيرية والتخوينية، لتحتضن الشيعة: وهنا بالذات التقى النظامان السوري والفارسي: تغيير صورة لبنان التعددية، إلى أخرى أحادية. ونعود إلى الوراء ونجد أن إسرائيل نفسها لعبت هذه اللعبة مع الأحزاب المسيحية بعد خلاف هؤلاء مع النظام السوري، فجاءت بجيوشها لتنقذ المسيحيين عام 1982 وسماه بعضهم آنئذ «جيش الخلاص«.
من مقاومة هي جيش المسلمين، إلى مقاومة هي «جيش إسرائيل» إلى أخرى هي «جيش إيران»… وهذه بالذات تجاوزت لبنان، إلى العالم العربي مع إيران: إلى سوريا فالعراق، فاليمن، فالبحرين..
[ لعبة قديمة
إذاً لعبة إيران الجهنمية ليست جديدة. إنها «خديعة» الاستعمار القديم، جددها الملالي، بالمال، والفتنة، والسلاح، والحروب والاغتيالات، ونتائج كل ذلك حروب طاحنة، وإبادة مدن وقرى، وقتل على الهوية، وكانتونات مذهبية، ودويلات، وكلها تصب في مناح واحدة: تدمير الكيانات العربية، ودولها، لتعبر إيران (كما عبّرت إسرائيل) إلى عمق العلاقات العضوية في لبنان وبعض العالم العربي.
وإذا كنّا اعتبرنا أن إسرائيل هي «العدو» في ما مارست وخططت، فإن إيران اليوم هي إسرائيل الأخرى، في ما تمارسه وترتكبه في نياتها وأعمالها. فالعدو واحد لإسرائيل وإيران: الوجود الإسلامي العربي نفسه. والغريب أن إسرائيل التي فشلت في تحقيق أهدافها (وساعدها الغرب وأميركا)، ها هي ترحب بمن ورثها أي إيران في إكمال مخططاتها التخريبية. وهذا ظهر جلياً في العراق عندما احتلت أميركا هذا البلد العربي، ثم سلمته لإيران تسليم اليد بمساعدة الصهاينة أنفسهم. وأحدث الأمثلة هو الربيع العربي: اجتمعت إيران وإسرائيل وأميركا على إفشاله، لأنه خرج على «نظامها» و»تنظيمها» وأهدافها، فإذا كانت إسرائيل دولة دينية، فإيران دولة مذهبية: كل منهما يبرر للآخر طبيعته المذهبية، ويعززها، بضرب كل المحاولات التي تتجاوز هذه الصيغ، إلى نوع من الديموقراطية، والعلمانية، والمدنية. فسوريا المذهبية ووراءها أميركا وإيران حمت الجيش الإسرائيلي في الجولان، ونقلت المعركة إلى جنوب لبنان، لأن وجود الملالي فيه أضمن لإسرائيل من وجود المقاومة الفلسطينية. على هذا الأساس ساهمت إسرائيل بشراكة كاملة مع النظام السوري في تدمير الثورة الفلسطينية وضربها في لبنان: «وكل مذهبي للمذهبي نسيب». وهنا بالذات يمكن فهم موقف تل أبيب وأميركا من نظام الأسد. فهما يريدانه أن يبقى بأي ثمن لأنه الركيزة الثالثة من ركيزتيهما. وهذا يفسر تركيز الاثنين على اعتبار «سقوط نظام الأسد» كارثة عليهما. فالربيع العربي كان من شأنه أن يقلب اللعبة رأساً على عقب، بسلميته، وديموقراطيته، وشعبيته، ووطنيته وعروبته… وهي صفات لا تستطيع أن تتحملها إسرائيل ولا أميركا (داعمة الدكتاتوريات في أميركا اللاتينية وعلى رأسها بينوشيه في مواجهة الانتفاضات الديموقراطية). وكان لهما أن يعتمدا في سوريا اللعبة الدينية والمذهبية؛ ولهذا حاولتا محاصرة الجيش الحر وقطع الإمدادات والسلاح عنه، وتغذية داعش لتكون هي الصيغة الإرهابية المناسبة للنظام الإرهابي في الحل السياسي النهائي: فبين داعش والنظام، لا بد أن يختار الغرب هذا الأخير، لأنه «الإرهابي» الذي يحارب الإرهاب، على أن يتم ذلك على حساب الجيش الحر الذي يحمل مواصفات الديموقراطية والسلمية والتعددية التي لا «تعجب» الغرب المنافق.
الآن، تدور رحى الحرب في المسجد الأقصى، من خلال انتهاك العدو له، ومحاولة احتلاله، وطرد المسلمين منه. إذاً، لو كانت إيران «صادقة» بقولها أنها «تريد إبادة إسرائيل» فعلاً لتحركت، وهددت بجيوشها التي لم تربح معركة واحدة حتى الآن، لتشارك الفلسطينيين دفاعهم عن أرضهم ومقدساتهم المسيحية والإسلامية. لكن لكي تذر الغبار في العيون، نقلت المعركة إلى العالم العربي والإسلامي. فالمقدسات الإسلامية لم تعد تخصها، لا من قريب ولا من بعيد. بل هي من مسؤوليات العرب وحدهم الذين يعانون من انتهاكاتها الفارسية لأراضيهم: من السعودية إلى اليمن، إلى الكويت، إلى العراق إلى سوريا إلى لبنان فهي تسعى على امتداد هذه الجغرافيا إلى تقويض الحضور الإسلامي والعربي، فلمَ لا تستمر في هذه السياسة في فلسطين نفسها؟ فليذهب العرب والمسلمون وفلسطين إلى الجحيم: ونحن يكفينا أن نندد، وأن نحبط الشعب العربي، وأن ننأى بأنفسنا عن كل ذلك. لكن هذا يتضمن موقفاً مضمراً: ما دامت إسرائيل تضرب العرب وتُضعفهم حتى في فلسطين، فهي حليفتنا. لأن كل من يشهر سلاحاً على المسلمين العرب هو حليفنا من الأبد إلى الأبد!
نحو حاضنة الفساد والشلل
الياس الزغبي/لبنان الآن/19 أيلول/15
يكفي شهر على “الحراك المدني” كي تتبيّن خيوطه البيضاء من السوداء، ويُدرك المخلصون من بين محرّكيه مسارهم الصحيح، فيصوّبون ما يجب تصويبه ويفعّلون ما يجب تفعيله. أمّا راكبو موجته بعقَدهم الإيديولوجيّة وحساباتهم المجمّدة في التاريخ الأحمر أو الدفتر الأصفر، فإنّهم إلى مزيد من الانكشاف، وسينبذهم حكماً الجسم المدني السليم بحيويّته الشبابيّة الليبراليّة التائقة إلى الأرقى والأنقى. وقد انكشفت مؤسّسة إعلاميّة في ورطتها معهم، فقدّمت نفسها “سوسلوف” الحراك، بل “ستالينه”، بعدما كادت تختنق بالأموال الوافدة! راكبو الموجة يحاولون جرّها إلى موقع سلبي بلا أفق، وليس في جعبتهم سوى التحرّك الفوضوي المؤدي إلى الفراغ الأخطر في الدولة، تنفيساً لأحقاد مزمنة ضريرة ترى في كلّ ما عداها عدوّاً يجب إلغاؤه أو تدميره أو إحراقه، وهذا ما يحاولون القيام به في قلب بيروت ومرافقها بحجّة الانتقام من الميسورين ورجال الأعمال و”سوليدير”، وصولاً إلى الرموز والضرائح ومعالم الحضارة وبشائر الحياة والسلم الأهلي.
وقد استطاعوا دسّ شعار غائم وغامض في نهاية سلسلة المطالب المتصلة بالفساد، وهو الانتخابات على أساس لبنان دائرة واحدة بالنظام النسبي. الشعار صحيح في حدّ ذاته: انتخابات بالنسبيّة تُعيد تكوين السلطة بشكل أسلم. لكنّه مفخّخ بتوقيته وغموض الطريق إليه واستحالة تنفيذه. مَن يضعه، من يُقرّه، من يُنفّذه، ماذا بعده. أسئلة بلا أجوبة تجعل الطرح ستاراً لأهداف مفتوحة على المجهول. لذلك، فإنّ مَن سمّيناهم مخلصين وأصحاب نيّات حسنة ضمن الحراك مطالَبون بعدم الانزلاق إلى متاهة أولئك الصائدين في مياههم، والمبادرة إلى استبدال ذاك الشعار غير القابل للتطبيق بشعار أسلم وأسهل ومطابق لأصول الدستور ومواصفات الحلّ: إنتخاب الرئيس أوّلاً. هذه الدعوة لا يقلّل من أحقيّتها وأولويّتها أنّها تماشي موقف 14 آذار وتصطدم بموقف 8 آذار. على الحراك أن يتحرّر من هذا التصنيف ومن عقدة رفض المنطق والحلّ إذا أتى من خصم أو من جهة تثير حساسيّة ما أو رفضاً ما.
المنطق السليم يقوم على أصله، ولا يتأثرّ بمن يدعمه ويطالب به. فالحقيقة لا تكون بعدد مؤيّديها وأتباعها، بل في حيّز وجودها وذاتها. وأولويّة انتخاب الرئيس تعني فتح الوضع السياسي على المحاسبة، بدءاً بتشكيل حكومة جديدة، فقانون انتخابات جديد يناضل أهل الحراك كي يكون كما يشتهون. إذذاك يكون نضالهم ذا معنى وجدوى، ويترجمونه في فرض إرادتهم بالتغيير عبر صناديق الاقتراع وفق قانون ناضلوا من أجله. وإذذاك يكون للمحاسبة نتيجة، بما فيها محاسبة كلّ المرحلة السابقة بصفقاتها وفسادها، فتكون للحراك ثماره ويبدأ طموح الجيل المتحرّك بالتحقّق. إنها خريطة طريق بسيطة وعمليّة، وتشكّل أسلم الطرق وأسرعها للتغيير والمحاسبة. أمّا إذا بقيت الحال تدور على نفسها تحت شعارات غائمة وغامضة، فإنّ الحراك سيظلّ محكوماً بخطوات إلى الوراء: مطالبة باسقاط الحكومة ونسيانها، ثمّ استقالة وزير البيئة والعودة عنها، فالانتقال إلى إقالة وزير الداخليّة وتجاوزها بعد حين.. مع فكّ اعتصام المضربين عن الطعام بحجج صبيانيّة، والتفتيش عن “انتصارات” وهميّة مثل سرعة الإفراج عن الموقوفين، وإزالة جدار الفصل، وكيل الشتائم لقوى الأمن.. إضافةً إلى الشعار الهوائي، إسقاط النظام والطبقة السياسيّة.
إنّ نجاح الحراك المدني معقود على أمرين:
- تصحيح تراتبيّة الأهداف بما يجعلها واقعيّة قابلة للتحقيق، بدءاً بانتخاب الرئيس.
- عدم الخوف من تسمية أصل مشكلة الدولة اللبنانيّة باسمه: السلاح خارج الشرعيّة وفوقها.
لن ينجح حراك يُغمض عينيه ويُقفل أذنيه عن هذا الأساس. فالتغيير والاصلاح يبدءان من أساس الفساد وليس من سقفه. فهناك حاضنة خطيرة تشلّ الدولة وتنهش عافيتها وتضرب قدرتها على النهوض.
كلّ الفساد عشعش في دواوين نظام الوصاية بحماية سطوته والمستفيدين من حظوته، ويعشعش اليوم برعاية السلاح الوريث. ولا تغطّي قبوات بيانات “حزب الله” على سموات الحقيقة، عبر رمي الفساد على سواه. كما لا يغطّيها زعيق باسم حقوق المسيحيّين لا ينطوي إلاّ على “حقوق” عائليّة وتغطية فساد البطانة.
الداء تفشّى وانتشر، والدواء يبدأ بوقفة شجاعة يقفها الحراك نفسه لتفكيك الحاضنة الوريثة. ولا شكّ في أنّ التفكيك يبدأ بملء شغور قصر بعبدا. وكلّ الباقي دوران دراويش. لن ينجح حراك يُغمض عينيه ويُقفل أذنيه