فيروز
حسين شبكشي/الشرق الأوسط/24 تشرين الثاني/15
حلت منذ أيام قليلة احتفالية عيد ميلاد السيدة فيروز التي أتمت ثمانين عامًا من عمرها المديد. تأتي هذه الذكرى ولبنان الذي تعتبر فيروز أيقونته الأولى في حال من الضياع المخيف، ترهل النظام السياسي بشكل بائس. بلد نجح في تهجير شعبه إلى زوايا العالم وقدم له حربًا أهلية أكلت الأخضر واليابس، واستمر الوضع في التدهور ليتحكم في البلاد فصيل إرهابي مسلح باع ولاءه لدولة أخرى، ساهم في قتل رئيس وزرائه وأصر على أن يبقى منصب رئيس الجمهورية شاغرًا، وأصبح التصادم الطائفي يصيب البلاد بشلل سياسي كامل، جعل من جمع النفايات مهمة مستحيلة ومطلبًا شعبيًا صعب المنال.هذا هو حال لبنان الذي كان سويسرا الشرق.. بات اليوم أقرب إلى الصومال منه إلى الدولة الأوروبية المعروفة بالانضباط والاعتمادية. فيروز كان لها «لبنان» آخر تروّج له وتسوقه في مخيلة أغانيها التي أبدعها الأخوان رحباني. فيروز صوت لبنان.. قرية قرب السماء بلا طوائف ولا خلافات، بلد بسيط خالٍ من التعقيدات، فهرب الناس بمخيلتهم إلى الفضاء البعيد وإلى الأفق الواسع الذي كان أجمل دومًا من واقع أليم على أرض لبنان. أحبت لبنان «كيفما كان» حتى «بجنونه»، أحبته وصدق محبو فيروز وآمنوا برؤيتها للبنانها حتى صدموا. فيروز لم تفلح في نقل اللبنانيين وحدهم إلى عالم الخيال، ولكنها أقنعت العرب كلهم بأننا «سنرجع يوما» و«الغضب الساطع آت»، ولكنها كانت كلمات ليست كالكلمات. فيروز التي نجحت في نقل كل من يستمع إليها إلى عوالم أخرى بلا تفتيش ولا تأشيرة، تحولت إلى طقس يومي مع ساعات الصبح واحتساء القهوة، تحولت إلى بلسم ودواء وكيف. غنت للشام وبيروت ومصر وبغداد ومكة، كانت للبنان الأيقونة التي ضاهت شجرة الأرز في رمزيتها، فاتفق كل اللبنانيين على محبتها أكثر من التفاهم على أي أمر آخر. فيروز وبعد ثمانين عامًا وهي الصوت الملائكي المترفع عن التملق السياسي فشلت في توحيد اللبنانيين وأعطتهم الخيار في «أنا صار لازم ودعكم» أو «أي في أمل» ولم يستوعبوا لغة الإشارات والرموز التي خاطبتهم بها. حتى العرب لم يفقهوا وهي تناشدهم بـ«عندي ثقة فيك» وكأنها تناديهم وتنادي كل ضمير فيهم. لم تكن فيروز تؤدي وتغني وتشرح بالخيال ولكنها كانت تنحت صورة مثالية في الذهن العميق للشخصية العربية. رأت الموت يخطف أحبابها، من زوجها وأخيه وابنتهما وبلادها، ومع ذلك بقيت صامدة كالأرزة القديمة، جذورها في أعماق الأرض وشموخ يناطح السحاب. غنت لنا وعنا وكانت فينا ومعنا «فايق يا هوى»، وتذكرنا «قديش كان في ناس»، تقلب علينا المواجع، و«ليالي الشمال الحزينة» تذرف بها دموعنا، و«رجعت الشتوية» تدفئ قلوبا أنهكتها برودة الدنيا القارسة، كانت جارة الوادي تارة، وجارة للقهر تارة أخرى، ولكنها كانت دومًا «كوجه بحار قديم». فيروز تحتفل بنا ونحن نحتفل بها، فهي صنعت أفراحًا ورسمت قصورًا في الخيال وصاغت أناشيد في الأحلام. كانت تحيك لنا بحنجرتها دومًا عالمًا أجمل من واقعنا، حجزت لنفسها مكانًا في السماء عن الملائكة في قصر الخلود. أبكيتِنا وأفرحتِنا وأرقصتِنا ونسيتِنا فكيف ننساكِ في يومك يا سفيرتنا؟!
لبنان: حدود التسوية الممكنة
علي حمادة/النهار/24 تشرين الثاني 2015
قلنا قبل أيام هنا إن التسوية المرحلية في لبنان ممكنة، بعدما أعطى الامين العام لـ”حزب الله” حسن نصرالله اشارة علنية “ايجابية” بدعوته الى ما وصفها بـ”التسوية الشاملة” التي تتضمن الاتفاق على رئاسة الجمهورية، والحكومة المقبلة، وقانون الانتخاب المقبل. وقد لاقاه في الايجابية رئيس “تيار المستقبل” سعد الحريري، وإن أبدى تمسكه بمبدأ ان انتخاب الرئيس هو مدخل أي تسوية. أكثر من ذلك، وفي زمن البحث عن “تسويات” تحت نيران المواجهة بين المجتمع الدولي و”داعش” من جهة، والصراع غير الواضح المعالم حول سوريا من جهة أخرى، يبدو لبنان في حاجة الى البحث عن تسويته الداخلية بمعزل عن القوى الاقليمية والدولية التي لا تبدو في عجلة من أمرها للجلوس والبحث عن حلول لأزمة لبنان العميقة. بداية نقول إن كل من يعتقد بإمكان التوصل الى حلول لأزمات لبنان البنيوية، هو واهم. ان الحد الممكن نظرياً (من دون ضمانات) سيكون بمحاولة الارتقاء من مرحلة “التهدئة” التي ظللت الفترة الممتدة من تاريخ اغتيال الوزير محمد شطح الى اليوم، الى مرحلة “تسوية” هدفها معالجة الملفات كالرئاسة، وقانون الانتخاب. أما شكل الحكومة وتشكيلها ورئاستها فمتفق عليها في المبدأ على قاعدة ان رئاسة الحكومة تبقى في “أحضان” قوى 14 آذار، ولا سيما “تيار المستقبل” كما هو الحال اليوم بوجود تمام سلام، والحكومة تبقى حكومة ائتلافية تجمع الأضداد كما هو حاصل اليوم، ويجري ضم حزب “القوات اللبنانية” اليها ليكتمل المشهد الحكومي. الاتفاق على اسم الرئيس المقبل ليس مستحيلاً، وخصوصاً أن كل الاطراف يدركون استحالة وصول رئيس من صلب الفريقين الكبيرين. فلا رئيس من 8 آذار، ولا رئيس من 14 آذار. وأما لعبة الشائعات حول استبدال عون بفرنجيه كمرشح يمكن القبول به رئيساً من “تيار المستقبل” فمجرد شائعات لأسباب عدة أقلها ان فرنجيه، وإن يكن أكثر اتزاناً من عون في خطابه وسلوكه السياسيين، فإنه جزء لا يتجزأ من منظومة 8 آذار محلياً واقليمياً، بل انه رمز كبير فيها، يصعب تصوّر تأييد “عصب” 14 آذار وصوله الى منصب الرئاسة. وأن من يتصوّر من فريق 14 آذار أنه يمكن الركون الى فرنجيه رئيساً في إطار “تسوية شاملة” يكون واهماً! وفي مطلق الأحوال إن اجتماع الحريري – فرنجيه في باريس أعطي أكبر من حجمه، ولا يصل الى حد البحث الجدي في اسم فرنجيه للرئاسة. إن “التسوية الشاملة” التي أشار اليها نصرالله، هي من الناحية العملية “تسوية مرحلية” لأنها لا تتناول عمق الأزمة في لبنان، ألا وهي سلاح الحزب غير الشرعي، ولا تورّطه الدموي في الصراع في سوريا. ويقيننا أن لا حلّ في لبنان قبل نزع سلاح “حزب الله” كلياً، وتفكيك منظومته الأمنية – المخابراتية، وتحويله الى حزب مدني أسوة بالأحزاب الأخرى في لبنان. هذا هو الأساس، وكل حديث عمّا يسمى “تسوية شاملة” يبقى دونه ناقصاً. لذلك، اذا لاحت فرصة “تسوية مرحلية” على الرئاسة التوافقية، والحكومة الائتلافية، وقانون الانتخاب المنطقي، فلا بد من اقتناصها اليوم قبل الغد.
من أين يبدأ تنفيذ “التسوية الشاملة” من قانون الانتخاب أم من انتخاب رئيس؟
اميل خوري/النهار/24 تشرين الثاني 2015
إذا كان الاستقرار الأمني في لبنان استطاع الصمود حتى الآن، فذلك بفضل المظلة الدولية ووحدة القوات المسلحة وتضحياتها. وإذا كان الاستقرار النقدي استطاع الصمود أيضاً، فذلك بفضل السياسة المالية الناجحة لحاكم مصرف لبنان رياض سلامة وللثقة به وبالقطاع المصرفي كلاً. أما الاستقرار السياسي فلن يتحقق إلا بانتخاب رئيس للجمهورية في أسرع وقت وقبل أي أمر آخر. لقد أجمعت القوى السياسية الأساسية في البلاد على الترحيب بمبادرة الأمين العام لـ”حزب الله” السيد حسن نصرالله، التي يدعو فيها الى “تسوية شاملة” لأزمة الانتخابات الرئاسية من دون أن يحدّد من أين تبدأ هذه التسوية. أمِنَ الاتفاق على انتخاب رئيس للجمهورية، أم من الاتفاق على قانون جديد للانتخابات، أم على حكومة؟ وإذا كانت هذه القوى اتفقت على الترحيب بهذه المبادرة، فهل تتفق على ترجمتها عند الدخول في التفاصيل التي يكمن الشيطان عادة فيها فتصبح الحاجة ماسة الى طلب تدخّل الملائكة لطرده؟
الواقع أن ما طرحه السيد نصرالله شبيه بما صار طرحه في مؤتمر الدوحة مع اختلاف الظروف الداخلية والخارجية، وما بين الأمس واليوم. فدول المنطقة لم تكن منشغلة بنفسها كما هي اليوم نظراً إلى ما تعانيه من أزمات وحروب تحول دون جعلها تهتم بشؤون لبنان ومساعدته على الخروج من أزماته. والدول الصديقة منشغلة هي أيضاً بمواجهة الإرهاب الذي يضرب عشوائياً داخل أراضيها. والمواقف من الانتخابات الرئاسية في لبنان لم تتغيّر، فالعماد ميشال عون لا يزال يصر على أن يكون المرشح الوحيد للرئاسة، وإلا فلا نصاب لأي جلسة، ولا انتخابات. وكما استطاع مع حلفائه تعطيل انتخاب العماد ميشال سليمان رئيساً للجمهورية مدة ستة أشهر، فإنه استطاع معهم أن يعطّل انتخاب رئيس للجمهورية مدة 18 شهراً حتى الآن. لقد أمكن التوصل في الدوحة الى إقناع العماد عون بالتخلي عن ترشيحه وانتخاب العماد ميشال سليمان رئيساً للجمهورية كونه مرشح تسوية أو توافق، وذلك بجعله يعتقد أن إجراء انتخابات نيابية على أساس قانون الستين معدّلاً يشكل انتصاراً له ولمطالبته باستعادة حقوق المسيحيين من خلال هذا القانون. لذلك عمد لدى عودته من الدوحة إلى ملء لوحات الاعلانات على طول الشاطئ اللبناني بعبارة: “استعادة حقوق المسيحيين”، وبالقول إنه سيحوّل اهتمامه من رئاسة الجمهورية الى إقامة “الجمهورية الثالثة”… لكن حساب حقله لم يطابق حساب بيدره، فجاءت نتائج الانتخابات النيابية على أساس هذا القانون مخيبة لآماله، إذ فاز فيها مرشحو قوى 14 آذار بأكثرية المقاعد، فأصبح قانون الستين عندئذ مرذولاً وملعوناً وبات تغييره مطلوباً بقانون آخر يضمن لعون ولحلفائه الفوز بأكثرية المقاعد التي تمكنه من إقامة “الجمهورية الثالثة”، وبحيث تكون حقوق المسيحيين محفوظة فيها. والسؤال المطروح الآن هو: كيف يمكن إقناع العماد عون مرة أخرى بالتخلي عن ترشحه للرئاسة لسواه ويكون مرشح تسوية، وما هو الثمن المطلوب؟ ثمة من يقول إن العماد عون قبض سلفاً هذا الثمن بإقرار قانون استعادة الجنسية، ولكن ثمة من يقول إن إقرار هذا القانون لا يسجل انتصاراً له وحده بل لكل القوى المسيحية التي توحدت للحصول عليه، ولا بد من دفع ثمن إضافي له كي يوافق على سحب ترشيحه للرئاسة، وهذا ما جعل اقتراحات كثيرة تطرح كأن ينسحب للنائب سليمان فرنجيه علّ حظه بالفوز بالرئاسة يكون أوفر من حظ عون، خصوصاً إذا كان لمرحلة انتقالية مدتها سنتان إلى أن تنجلي صورة الشرق الأوسط الجديد، أو أن يوضع قانون للانتخابات وإقرار المشاريع المهمة في مجلس النواب خاضعة لهذه الأكثرية، أو أن يكون للعماد عون عند تشكيل الحكومة حصة وازنة في عدد المقاعد وفي توزيع الحقائب السيادية والخدماتية. لكن هل توافق قوى 14 آذار على تسوية شاملة ما لم تبدأ بانتخاب رئيس للجمهورية ولا تتكرر مخالفة الدستور كما حصل في الدوحة؟ إن إدخال قانون الانتخابات في لعبة المساومة والتسويات والمحاصصات بحيث يكون لمصلحة طرف دون آخر تسهيلاً لانتخاب الرئيس، يجعل هذا القانون غير العادل وغير المتوازن لا يصلح لإعادة تكوين السلطة، والاتفاق على تشكيل حكومة ترضي العماد عون وحلفاءه ليكون ذلك شرطاً لانتخاب رئيس تسوية، من شأنه أن يثير خلافاً على ترتيب الأولويات في تحقيق “التسوية الشاملة”. يرى البعض في قوى 14 آذار أن يكون موقفها واحداً من هذه التسوية التي ينبغي أن تبدأ بالاتفاق على رئيس، وبعد ذلك يتم الاتفاق على كل شيء بالتفاهم معه، وأن تتم مقاطعة كل جلسة نيابية إذا لم تكن مخصصة لانتخاب الرئيس وليس لقانون الانتخاب، لأن أي مشروع يجب ألا يتقدم على هذا الانتخاب الذي بات ضرورة أكثر من أي مشروع بما في ذلك قانون الانتخابات الذي يحتاج إقراره إلى وقت، وعندها تبقى رئاسة الجمهورية شاغرة الى حين إقراره وهو ما لا تتحمله البلاد.