سمير القنطار من عميد للأسرى إلى ‘شبّيح’
مزن مرشد/العرب/نُشر في 27/12/2015،
المناضل السابق لم يتغير قتل طفلة ذات يوم وعاد ليقتل الأطفال السوريين بعد أكثر من ثلاثين عاماً. نحن الذين تغيرنا.
كيف تغيّر؟
باريس – ولد لعائلة درزية في قرية عبيه اللبنانية في 20 تموز 1962 واعتقل على شواطئ فلسطين في الثاني والعشرين من أبريل من عام 1979. كان وقتها لم يبلغ بعد السابعة عشرة من عمره، ما جعله أصغر “الفدائيين” المعتقلين آنذاك. في عمر صغير عصفت القضية الفلسطينية بروح المراهق الدرزي. قاده اندفاعه وتربيته الوطنية للالتحاق بصفوف جبهة التحرير الفلسطينية، حيث كان المشهد اللبناني غارقا بالانقسامات والحركات والميليشيات وكل يختار ما يناسبه، فأتون الحرب والسلاح لم تستثن أحدا. هل كان أخلاقياً قبول الأطفال في صفوف المقاتلين؟ هل كان أخلاقياً أن يناط بطفل عملية “فدائية” أودت بثلاثين عاماً من حياته داخل السجن، فقضى مراهقته وشبابه ورجولته سجينا أسيراً حتى استحق لقب عميد الأسرى. يروى أن سمير القنطار كان قد انخرط في جبهة التحرير الفلسطينية قبل بلوغه الرابعة عشرة من العمر، وتلقى تدريبات عسكرية قاسية وممنهجة، لينطلق بعدها الطفل المقاتل لتنفيذ العمليات في سنه السابعة عشرة.
هو احتمال واحد لا ثاني له. كانت التضحية به كعنصر لا قيمة له، هي سبب اختياره. فإن نجحت العملية، فستحقق للجبهة نصراً مفيداً، وإن فشل الشاب أو قبض عليه أو حتى قتل، فلن تخسر الجبهة الكثير برحيل طفل بالنسبة إليها هو لاعب احتياط لم يرتق إلى لاعبي التشكيلة الأساسية، وأعتقد أن إهمال سجن القنطار وعدم المطالبة به جدياً طوال ثلاثين عاما كان البرهان على ذلك.
المهمة رقم 1
بُعث سمير القنطار في أول مهمة له بتاريخ 31 يناير 1978 وكان عمره بالضبط خمسة عشر عاما وخمسة أشهر. كانت العملية تتلخص بأن يجتاز الفتى مع اثنين من رفاقه، الجبهة الأردنية الإسرائيلية، ليقوموا بخطف حافلة إسرائيلية على الطريق الواصلة بين بيسان وطبريا، ومن ثمة المطالبة بإطلاق سراح سجناء لبنانيين معتقلين لدى إسرائيل مقابل إطلاق سراح المسافرين الإسرائيليين. لم توفّق العملية بسبب قبض المخابرات الأردنية على الفتى وسجنه لمدة 11 شهرا في سجون المملكة الهاشمية، التي لم تطلق سراحه إلا بعد أن اتخذت قراراً بمنعه من دخول الأردن مرة أخرى. عاد القنطار إلى حاضنته المقاومة يجر أذيال خيبة عجلت في نضوج الشاب، وساهمت بإصراره على تحقيق نجاح سريع يردّ لنفسه فيه الاعتبار كأيّ مراهق يريد أن يثبت النجاح لنفسه قبل الآخرين، فكانت “عملية جمال عبدالناصر”. سمير القنطار يبدأ تاريخه “المقاوم” بتكليفه رغم صغر سنه بقيادة عملية اختطاف مدنيين إسرائيليين في نهاريا لمبادلتهم بأسرى لبنانيين، أطلق عليها اسم “عملية جمال عبدالناصر” انتهت بمصرع الرهائن وكان من بينهم طفلة قتلها بالرصاص وأخرى ماتت اختناقا
نهاريا والاعتقال الأخير
لا يعرف أحدٌ كيف تمّت عملية استقبال القنطار من قبل قادته بعد فشل وصوله إلى الأراضي المحتلة في العملية الأولى. لكن الواضح من خلال الوثائق، يرصد استعجالاً ربما كان مبرراً في ذلك الوقت، ويبقى السؤال، كيف توكل قيادة عملية بأهمية عملية “مستوطنة نهاريا” والتي سميت بعملية “جمال عبدالناصر” إلى شاب فشل قبل أقل من خمسة أشهر في عملية أقل خطورة؟ على عجل كُلِف الفدائي الصغير العائد الحاصل على لقب ملازم أول بالرغم من صغره، بقيادة مجموعة مؤلفة من أربعة عناصر تابعين للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، للقيام بعملية فدائية في العمق الإسرائيلي المحتل هدفها خطف رهائن إسرائيليين لتتم مبادلتهم بأسرى فلسطينيين ولبنانيين لاحقا. انطلقت المجموعة المكونة من ثلاثة عناصر، رابعهم وقائدهم سمير، إلى إسرائيل عن طريق البحر بزورق مطاطي من نوع زودياك معدل ليكون سريعاً جداً. هبط الزورق شاطئ “هدكاليم” في مدينة نهاريا الساحلية شمالي إسرائيل، وحاولت المجموعة اقتحام دار عائلة “سيلع” ولكنها انصرفت عن المكان بعد تبادل النار مع صاحب الدار، ثم مع رجال الشرطة المحلية. انتهى تبادل النار بمقتل شرطي إسرائيلي وأحد أفراد مجموعة الفدائيين، وبإصابة مدني إسرائيلي بجروح. بعد ذلك وصلت المجموعة بقيادة القنطار إلى شارع جابوتينسكي في نهاريا واقتحمت عمارة سكنية. عندما سمع السكان صوت العيارات التي أطلقها أفراد المجموعة، أخذوا ينزلون إلى الملجأ. أطلق أحد السكان النار على مجموعة القنطار من سلاحه الشخصي وقتل عنصراً ثانياً من أفرادها. قبضت مجموعة القنطار على عالم الذرة داني هاران وابنته عينات هاران، الطفلة ذات السنوات الأربع، اللذين كانا ينزلان من الشقة إلى ملجأ العمارة واختطفتهما إلى شاطئ البحر. في الوقت ذاته هرعت الأم سمادار هاران إلى الشقة مع ابنتها البالغة سنتين لتختبئ، وخنقت الطفلة سهوا عندما حاولت إسكات بكائها، مخبئة إياها في خزانة، لتخسر تلك المرأة في تلك الليلة كامل عائلتها. لاحق رجال الشرطة مجموعة القنطار والمخطوفين إلى شاطئ البحر حيث بدأ تبادل النار. وأمام المحكمة الإسرائيلية التي حاكمته، قال القنطار بأن الإسرائيلي وابنته قتلا برصاص الشرطة الإسرائيلية أثناء تبادل لإطلاق النار على الشاطئ، في حين قالت الشرطة الإسرائيلية بأن القنطار قتل المخطوفين عندما اقترب منه رجال الشرطة، بينما وجدت آثار من جلدة رأس الطفلة المقتولة على أخمص بندقية القنطار حينها.
تدمير لبنان من أجل القنطار
أسدل الستار على قضية سمير القنطار بحصوله على حكم بالمؤبد خمس مرات مضافا إليها 47 عاماً إضافياً، ولم يُشمل القنطار في أيّ من عمليات تبادل الأسرى التي تمت بين جبهة التحرير وقوات دولة الاحتلال. إلى ذلك اليوم المشهود من بداية تموز 2006 عندما قام حزب بالله والذي كان على صلة وثيقة مع القنطار في سجنه من خلال منسقين وبشكل غير مباشر مع ذويه، قام الحزب بأسر اثنين من الجنود الاسرائيليين على الحدود اللبنانية الإسرائيلية في جنوب لبنان عند بوابة فاطمة. والتي أسماها الحزب عملية استرجاع القنطار، كان الهدف منها التفاوض على تبادل الأسيرين مع القنطار بعد أن كان قد قضى 28 عاماً في الأسر. رد الإسرائيليين كان عنيفا، ما فرض حربا مدمرة على الجنوب اللبناني راح ضحيتها 500 قتيل لحزب الله وتكللت الحرب بـ “النصر الإلهي” على حد تعبير حسن نصرالله بعد شهر كامل من المعارك الطاحنة. كان أحد أهم نتائج “نصر” تموز تمّكن حزب الله من فرض شروطه باسترجاع سمير القنطار وتحريره. بعد ثلاثة عقود من السجن قضى فيها الفتى ما تبقى من مراهقته وشبابه ليخرج رجلاً ناضجاً متشيعاً.
القنطار في عالم الحرية
في السجن الإسرائيلي حيث نفذ حكمه بخمس مؤبدات مضافاً عليها 47 عاماً، استحوذت قضيته على اهتمام الفلسطينيين والمقاومين والمناضلين العرب، ومن ضمنهم الأسيرة المحررة كفاح كيال التي تعاطفت مع قضية القنطار كفدائي وكإنسان، تزوّجته وهو سجين في عام 1992 وبقيت حاملة لراية قضيته في الدفاع عن حقه في الاستئناف وفي ضمّ اسمه ضمن قوائم التبادل الكثيرة التي كانت تتم. عانت كفاح الكيال اضطهاد مجتمعها وبيئتها بسبب هذا الزواج فالرجل درزي ولبناني وأسير. وهي صبية محررة ما تزال الحياة أمامها، ناهيك عما تعرضت له من تهديدات من الإسرائيليين أنفسهم، تهديدات وصلت إلى حدود التخويف بالقتل والإبعاد. حتى أن بعض الصحف الإسرائيلية كتبت تعليقا على زواجها من سمير القنطار بأنه “أول زواج تنظم ضدّه المظاهرات”، بينما شنت “سميدار هرن” زوجة عالم الذرة الاسرائيلي، الذي قتل مع ابنته في العملية التي نفذها سمير القنطار، حملة واسعة ضد كفاح كيال وضد القنطار.
أثار الرأي العام العربي ضد سمير القنطار تحولات طرأت على شخصيته داخل السجن، وكان على رأسها، تأييده المفاجئ لاتفاق أوسلو وإدانته للعمل الفدائي وتعزيته برئيس الوزراء الإسرائيلي إسحق رابين. لكن كفاح كيال استمرت تدعم زوجها في سجنه. وبعد كل هذه التضحيات والوقائع، وبعد زواج دام عشرين عاماً كحبر على ورق، وصبر متواصل من زوجة اعتبرت زواجها ذاته “عملية فدائية وطنية” أخلصت وأحبت وقدمت الكثير. خرج الزوج الأسير ولم يكلف نفسه حتى قول كلمة شكراً، بل أدار ظهره لمن وقفت معه طوال عشرين عاما، بل أنكر هذا الارتباط من أساسه في لقائه مع تلفزيون المنار إذ قال بالحرف “أنا نمت أعزب وصحوت متزوجاً، هذه لعبة إعلام إسرائيلية”.ظل الأسير المحرر، أسير النكران لزوجته حتى حصلت على الطلاق، وكانت قضيتها قضية الخلع الأولى في فلسطين في العام 2013. الرأي العام العربي لم ينس لسمير القنطار أنه عبر عن تحولات طرأت على شخصيته داخل سجنه الطويل. كان على رأسها، تأييده المفاجئ لاتفاق أوسلو وإدانته للعمل الفدائي. وتعزيته برئيس الوزراء الإسرائيلي إسحق رابين
أسير لدى حزب الله
انتهت الحرب وتم التبادل، اشتعلت الشاشات العربية بصور الأسرى المحررين وعلى رأسهم سمير القنطار الذي لم نعرفه إلا منذ وقت قريب وبعد أن قامت الحرب فقط. تابعنا بشغف رجلاً بكامل هيبته، نظيفاً، مرتباً، يلبس لباساً لائقاً. من الواضح أنه يتمتع بصحة جيدة بل ممتازة. كانت الصورة غريبة على المشاهد العربي كلياً بأن يخرج أحدهم من السجن بحالة جيدة وطلة بهية كطلة القنطار، فكيف الحال إذا كان السجن سجن “العدو الصهيوني الغاشم”؟ وإن كان السجين مقاوما تسبب بمقتل عالم ذرة إسرائيلي مع طفلتيه؟ فدائي؟ ونحن الذين كنا نقرأ انتقام الصهاينة من الفدائيين في الكتب المدرسية والتربية القومية، لتأتي الصدمة الأكبر بعدها بأن الأسير درس في سجنه وحصل على شهادة الدكتوراه. الأسير في سجون الاحتلال المتوحش الغاشم أتقن في سجنه العبرية والإنكليزية. وكان يملك في زنزانته تلفازاً ويتابع قناة الجزيرة والعربية والقنوات الإخبارية الإسرائيلية. وأن الزنزانة ذاتها لم تكن تضمّه إلا هو ورفيق واحد له فقط. وفيها حمام خاص وبإمكانه أن يصنع القهوة والشاي في زنزانته دون انتظار مواعيد الطعام الرسمية في السجن. كان ذهولا كاملا بالنسبة إلينا ونحن نرى هذا، وأنا من هؤلاء الذين رأوا بأمّ أعينهم خروج الكثيرين من معتقلي الرأي السوريين من سجون نظام الأسد بحالات كارثية صحياً ونفسياً وجسدياً.
لم تلبث أن انتهت الاحتفالات بالأسير المحرر، حتى بدأت أخبار تشيّعه، وتركه للعقيدة التوحيدية الدرزية، وزواجه من شيعية مقربة من حزب الله. لينخرط من جديد كمقاوم وفدائي في صفوف الحزب. لنكتشف حينها أن الأسير المحرر من سجون الاحتلال وقع أسير الحزب ولكن بإرادته هذه المرة مبتعداً عن طائفته التي لا تحبذ ولا تحترم من يرتد منها وعنها.
مشروع تشييع دروز سوريا
شحت أخبار سمير القنطار، خمد بريق نجوميته، وبات أحد أسماء أعضاء الحزب العديدة التي لا يعيرها الإعلام الكثير من الانتباه، إلى أن اندلعت الانتفاضة السورية، ليعود القنطار من جديد إلى ساحة المقاومة. هذه المرة من باب مقاومة الثورة السورية، فكان تصريحه الحارق بأنه سيقطع أيدي السوريين الثائرين في وجه النظام. اتضح الدور المرسوم للقنطار في سوريا. أرسله النظام كرسول له إلى محافظة السويداء في جبل العرب جنوب سوريا، والتي تعتبر معقلاً للطائفة الدرزية، مستغلاً انتماء أسرته إلى الموحدين الدروز. ناسيا أن الطائفة لا تقبل بمن يغير مذهبه وتعتبره مرتداً وملعوناً إلى أبد الآبدين. مع ذلك حاول القنطار أن يؤثر في أهل المدينة عن طريق الضغط على مشايخ العقل الثلاثة في المحافظة في استصدار فتوى تلزم شباب الطائفة بالقتال في صفوف نظام الأسد، وتشكيل ميليشيا طائفية مساندة للنظام في القتال ضد أبناء جلدتهم، نظرا لأهمية موقع المدينة والذي يشكل، بحكم موقعها الجغرافي المحاذي لسهل حوران، معبرا سهلا لميليشيا حزب الله وطريقاً آمنا لها نحو محافظة درعا. جبل الدروز في سوريا وامتداداته في ريف دمشق والقرى الدرزية في جبل الشيخ، يتعرض لمحاولات تشييع حثيثة كان قد بدأها سمير القنطار، بحكم كونه ينتمي لأسرة درزية قبل أن يتشيع وينخرط في صفوف حزب الله طلب القنطار منهم الضغط على عناصر اللجان الشعبية وجيش الدفاع الوطني من أبناء الطائفة الدرزية للذهاب للقتال في درعا مع عناصر حزب الله والنظام السوري، إلا أن طلبه تم رفضه بشكل قاطع، كما رُفِض طلبه بشأن إصدار بيان ديني يشجع الشبان الدروز على القتال إلى جانب النظام. وكان الردّ من مشايخ العقل بأن ما يطلبه سمير القنطار هو تخريب للنسيج السوري، كما أن كل من يشارك في قتل السوريين يعتبر قاتلاً، ولا تتم الصلاة على جنازته من قبل رجال الدين. وما فعله في السويداء كرره في قرى جبل الشيخ الدرزية وباءت جميع محاولته بالفشل، بالرغم من التمهيد الذي حاول النظام أن يمده به لنشر المذهب الشيعي في المحافظة من خلال توطين بعض الشيعة في المنطقة وبناء الحسينيات. الأمر الذي عارضه الأهالي بشدة ما أدى إلى وقف البناء. رغم أن حزب الله كان قد أسس فصيلا عسكريا في جبل العرب السويداء باسم “لبيك يا سلمان” نسبة إلى الصحابي الجليل سلمان الفارسي الذي يحظى بمكانة خاصة لدى الدروز، لم تفلح جميع تلك المحاولات في تفكيك موقف الجبل، ليتم رصد انشقاق نحو 2000 من أبناء الطائفة الدرزية عن صفوف جيش وقوات النظام منهم من غادر البلاد مع أسرهم، أما الباقي فهم يقاتلون جنباً إلى جنب مع إخوتهم في درعا وباقي المناطق المشتعلة، إضافة إلى أكثر من 11 ألف شاب رفضوا الالتحاق بالخدمة الإلزامية.
النهاية
عاد المناضل السابق سمير القنطار من جبال الدروز خالي الوفاض ليكمل طريقه بقتل السوريين إلى جانب ميليشيات حزب الله في مناطق أخرى، تركزت في المناطق الدرزية أكثر من سواها مثل قرى محافظة القنيطرة وجبل الشيخ وجرمانا التي لقي مصرعه فيها. لم يتغير سمير القنطار. قتل طفلة ذات يوم، لم يكن لها علاقة بعقيدة والدها أو جيش إسرائيل. وعاد ليقتل الأطفال السوريين بعد أكثر من ثلاثين عاماً. نحن من تغيّرت نظرتنا إلى الأفعال والأقوال، وتغير في وعينا سلّم المعايير الأخلاقي. كيف تغيّر؟ كان الفضل الأكبر للاستبداد الذي لم يترك لذكرى المجازر الإسرائيلية مكاناً يذكر بعد أن تفوّق عليها في القتل والبشاعة. فلم تعد تنطلي علينا شعارات النضال التي رفعها كثيرون ويرفعها اليوم أمثالهم سواء من اليسار أو الإسلام السياسي، ولا غرابة أن تعزي حركة حماس حزب الله بـ”استشهاد” سمير القنطار رغم كل ما فعله.