تدقيق حسابات…
الياس الزغبي/لبنان الآن/26 كانون الأول/15
إذا لم يكن ترحيل النفايات قد خضع لتدقيق حسابات شفّافة لئلاّ يسقط كسابقاته من المحاولات، فإنّ ترحيل انتخابات الرئاسة منَح فرصة جديدة للقوى السياسيّة كي تدقّق حساباتها في الداخل ومع الخارج، على وقع التطوّرات الميدانيّة والسياسيّة المرتقبة في سوريّا تحديداً. لم يكن تفصيلاً امتناع “حزب الله” عن تأييد أحد “أضلاع” مشروعه للرئاسة، بل أثبت بامتناعه أنّ حصص مرجعيّته الإيرانيّة من توزيع النفوذ في المنطقة لم تتّضح، وأنّ طهران لم تعلم بعد أين تقبض وأين تدفع على امتداد رقعة الأزمات من الخليج إلى لبنان. والأرجح أن تكون المدفوعات أكبر من المقبوضات. ولو أنّ “التسوية” سمّت ميشال عون بدل سليمان فرنجيّه، لكانت النتيجة هي نفسها، ولكانت إيران، عبر “حزب الله”، وجدت تبريراً آخر لعرقلتها، ولما هرولت إلى اقتناص الفرصة. فالمسألة لا تكمن في المفاضلة بين ضلع وآخر من المشروع، بل في اللحظة السياسيّة غير المناسبة لملء الشغور الرئاسي. وهنا تكن الخفّة السياسيّة لدى المروّجين لعون كبديل، أو كممرّ إلزامي، أو كصانع رؤساء، أو كعقدة في حدّ ذاته. فلو مشت إيران بفرنجيّه رئيساً لكان قصر بعبدا يحتفل هذه الأيّام بعيدَي الميلاد ورأس السنة.
والخفّة السياسيّة نفسها تتعامل مع دعوة البطريرك الراعي إلى “الالتقاء حول المبادرة الجديّة” لانتخاب الرئيس، كأنّها “كلمة السرّ” السحريّة التي ستحمل رئيساً إلى قصر بعبدا خلال أيّام. فعلى سبيل الافتراض، لو أقدم الآن سعد الحريري، ومعه سمير جعجع وأمين الجميّل ونبيه برّي ووليد جنبلاط على ترشيح عون، لَما تغيّر الوضع، ولكانت ورقة التوت الأخيرة سقطت عن العورة الإيرانيّة في كلّ الملفّ اللبناني. والمطلوب هو إفهام المتيّمين بكرسي بعبدا، والمنتظرين الوفاء بالدَين “يوم الديْن”، أن يضعوا قليلاً من الماء في نبيذهم، وأن يدركوا قليلاً ما وراء هذا الكلام المعسول. والسؤال الواقعي هو: ماذا ينفع طهران، في هذه المرحلة الشديدة التقلّب والتحسّب، أن يأتي إلى رئاسة لبنان رئيس من صلبها ومن “خطّها الاستراتيجي”، وفي اليوم التالي يجد نفسه منتمياً إلى الشرعيّتين العربيّة والدوليّة؟ أليس هذا ما أشار إليه سليمان فرنجيّه نفسه، بما أثار حفيظة “حزب الله” وحذره؟ يكفي إيران أن تحسب تجربتها، هي والنظام السوري، مع آميل لحّود الأشدّ التصاقاً بهما، والذي لم يستطع تأمين أيّ غطاء لمشروعهما وهو في سدّة الرئاسة، بل حدث العكس تحت شرعيّته الواهية، من القرار 1559 إلى حكومة السنيورة إلى المحكمة الدوليّة الخاصّة بلبنان. ويكفي “حزب الله” أن يحسب مأزقه المالي تحت المراقبة الدوليّة، والتزام النظام المالي اللبناني، كي يرتفع صوت حسن نصرالله بالتهديد والوعيد للمصارف. هذا في ظلّ حكومة ضعيفة، فكيف يكون الأمر في ظلّ شرعيّة مكتملة برئيسها المجبر على الرضوخ للقرارات الدوليّة، كائناً من كان. وتجربته المديدة مع وجود وزراء خارجيّة من صلبه لم تمنحه أيّ حصانة خارجيّة، أو تقيه من التصنيف الارهابي، برغم كلّ محاولاتهم لتبييض صفحته ووجهه. فالأفضل لإيران مواجهة الضغوط السياسيّة والأمنيّة والماليّة على حلفائها في لبنان تحت قشرة حكوميّة، في غياب الشرعيّة المكتملة، من أن تواجهها في ظلّ رئيس مكرّس عربيّاً ودوليّاً. لقد تحوّل الرئيس ميشال سليمان إلى “شيطان رجيم” في نظر “حزب الله” حين تمسّك بشرعيّة الدولة ونصوص الدستور، وتجرّأ على الجهر بتحييد لبنان عبر “إعلان بعبدا”، فكيف يقبل برئيس يعلن قبل وصوله إلى الرئاسة شعار “لبنان أوّلاً وأخيراً”، وتغيب عن خطابه ثلاثيّة ” الشعب والجيش والمقاومة”؟ يدرك “محور الممانعة والمقاومة” أنّ شرعيّة رئيس لبنان أقوى من انتمائه، وأنّ التزاماته الدوليّة لها الأولويّة على عواطفه السياسيّة. لذلك يتريّث في ملء الفراغ الرئاسي. على هذا الأساس يبدأ التدقيق في الحسابات السياسيّة في الربع الأوّل من العام الجديد. وحين تتواضع إيران في طموحاتها، وتحسب ميزان الربح والخسارة ببراغماتيّتها المعهودة، سيكون للبنان رئيس. بعد احتراق أوراق وأعصاب وأسماء.