صديقي محمد..لو كنت هنا!
د. توفيق هندي/المستقبل/27 كانون الأول/15
مرت سنتان على اختفائك عن كل من تعز وكل ما كنت تحب. أولاً، نينا زوجتك وفي كل لقاء معها تذرف الدموع إشتياقاً، حزناً وغضباً. غضباً على مغادرتك الجبرية لها وعدم فهمها حتى اليوم التكتم حول هذه الجريمة. ثانياً، ولداك راني وعمر وهما يفتقدانك أباً حنوناً وصديقاً صادقاً ومرشداً عاقلاً!
ثالثاً، بيئتك السياسية وهي تفتقد أفكارك النيرة ومبادراتك البناءة وتحركاتك الهادفة! لقد شكل استشهادك يا محمد خسارة كبيرة أكاد أقول لا تعوض، للبنان، لـ14 آذار ولتيار المستقبل! رابعاً، أصدقاؤك، وهم مشتاقون إلى «جلستك الحلوة» وكلامك الرقيق وأحاديثك المتنوعة التي تعكس ثقافتك الواسعة، بدءاً من الفلسفة والموسيقى وفن التذوق، مروراً بالتكنولوجيا وصولاً إلى عالمي الاقتصاد والمال والسياسة طبعاً!أما أنا، يا عزيزي محمد، فلن أكون مبالغاً بالقول إن، باختفائك المفاجئ ذاك الصباح المشؤوم في 27 كانون الأول، سلبت مني دفء أجواء تفاعلية عميقة حدودها تتعدى عالم السياسة.
كم أشتاق يا محمد إلى جلساتنا اليومية الباكرة على السكايب: صبحية سياسية مفعمة بتبادل المعلومات والآراء واستنتاجات متشابهة! لذا، اسمح لي يا محمد أن ألخص رأيك عّما يجري اليوم وكيف كنت تصرفت إزاء التسوية المطروحة. لما كنت سوّقتها فقط سياسياً وإعلامياً بجدارة، إنما لكنت من المبادرين في خلقها وطرحها ومن العاملين بفعالية لإنجاحها، ذلك أنه إلى جانب مبدئيتك في التمسك بالمسلمات الوطنية، أنت قارئ لامع للوضع الدولي والإقليمي والداخلي وتدرك أن ميزان القوى يفرض نفسه على الجميع وأنه في بعض الظروف وليس كلها، من الأفضل التوصل إلى تسوية الممكن من المغامرة في دفع الأوضاع نحو الأسوأ وبأقل تقدير نحو المجهول. لكنت قدّرت أن الصراع في المنطقة ولا سيما في سوريا سوف يستمر لأمد غير مسمى وأنه إلى الآن ليس فيه من رابح أو خاسر وأن مراهنات البعض على الانتصار من أي جهة أتت، تدخل البلاد في المحظور الأمني لا محالة وتؤدي في نهاية المطاف إلى حرب أهلية تنهي لبنان-الكيان في ظل أوضاع المنطقة البركانية حيث تتداعى فيها أنظمة ودول وكيانات.
لكنت أدركت أن لبنان تخطى وضعية الدولة الفاشلة وصولاً إلى وضعية اللادولة حيث المؤسسات الدستورية الثلاث (رئاسة الجمهورية، البرلمان والحكومة) باتت معطلة، وحيث القوى السياسية باتت غارقة في فسادها وعاجزة عن حل أي مشكلة! لكنت سعيت إلى الخروج من المأزق إلى التفتيش عن تسوية الممكن: إيجاد «الدولة بحدها الأدنى» بمعنى أن تعود الحياة إلى المؤسسات الدستورية كافة، فنحافظ على لبنان الدولة والمؤسسات والكيان والدستور والطائف، هذا اللبنان المهدد بوجوده، ونقيه من الإنهيار الاقتصادي فالاجتماعي والمصرفي والمالي والبيئي..، وخاصة من الأخطار الأمنية الحقيقية الناشئة من تداعيات إنخراط حزب الله في الصراع في سوريا إلى جانب الأسد. أما المواضيع الخلافية من نوع سلاح حزب الله، إنخراطه في الصراع في سوريا، الصراع الإيراني-السعودي،..، فلا يتم تناولها داخل الدولة، بل تبقى بحكم الطبيعة بيد 14 و8 آذار يختلفون عليها ولكن خارج أطر الدولة!
هذا الفصل بين «الدولة بحدها الأدنى» وإستمرار الخلاف على التوجهات الوطنية خارجها يعكس حقيقة موقفك الجوهري: تمسكك بالمبادئ والمسلمات من ناحية، وواقعيتك في إداء سياسي عقلاني لا يعرض الهيكل للانهيار من ناحية أخرى! ولكنت، كعادتك لعبت دوراً في رأب الصدع في صفوف 14 آذار والحفاظ على وحدتها. ولكنت توجهت عند الدكتور جعجع لتقنعه بضرورة السير بالتسوية. ولكنت قلت له إن الظروف وموازين القوى لا تسمح بأن ينتخب رئيساً ولا أن ينتخب رئيساً أي مرشح من 14 آذار ولا حتى أي مرشح وسطي، وأن دعمه ترشيح عون فات أوانه بالرغم من أن هذا الأمر كان بمتناول يده في فترة الغزل بين عون والحريري، ولكنه رفض آنذاك أن يقدم.
أما اليوم، فضلاً أن عون فقد أية حظوظ في تبوؤ سدة الرئاسة لألف سبب وسبب، فإن الإيحاء بإمكانية دعم ترشيحه يؤخر التسوية الآتية لا محالة لأنه يعطي عون أملاً وهمياً ويزيد من خطورة الأوضاع على لبنان دون جدوى. أما إذا أعلن دعمه لعون، فهذا يعني أن لبنان سوف يبقى دون دولة وسط العاصفة الإقليمية المتصاعدة والمتمادية في الوقت، وأنه (أي جعجع)، وإن أبقى على خطابه السيادي، سوف يرى نفسه متموضعاً في الخندق مع حزب الله، إذ يكون في خلاف مع الحريري وفي الوقت عينه حليف عون، وهو حليف حزب الله الإستراتيجيي! ولكنت حاولت إقناعه بضرورة دعم التسوية ومخاطبة عون ليحذو حذوه. وبذلك، يكون حافظ على قناعاته، على نفسه وعلى 14 آذار، كما يكون أسس لوضع مريح فيما بين المكونات المسيحية لإستعادة الدور المسيحي التأسيسي للكيان اللبناني وإعادة التوازن في مسيرة الطائف التطبيقية.
هذا هو باختصار رأيك. حبذا لو يكون هذا الرأي مسموعاً!